زيارة هرتسوغ لتركيا.. انعطافة إردوغان
صحيح أنَّ منصب الرئيس في "إسرائيل" شرفي وبروتوكولي إلى حد كبير، ولكنه يؤدي دوراً رغم ذلك، ويمكنه مساعدة الحكومة من خلال زياراته الخارجية.
مضت 15 سنة على زيارة رئيس إسرائيلي لتركيا (شمعون بيريز في العام 2007). خلال هذه الفترة، ابتعد إردوغان كثيراً عن "إسرائيل"، واتخذ مواقف علنية شديدة القسوة منها، وصلت إلى حدّ اتهامها بجرائم ضد الإنسانية في تعاملها مع الشعب الفلسطيني، فضلاً عن كلامه المتكرر عن القدس والمسجد الأقصى.
وأتبع إردوغان ذلك بخطوات عمليّة أزعجت "إسرائيل" كثيراً، بدءاً من محاولة كسر الحصار على غزة وسفينة "مرمرة" الشهيرة، وانتهاءً باستضافة قيادات وكوادر من "حماس" في تركيا. أظهرت "إسرائيل" قدراً كبيراً من الهدوء وضبط النفس في التعامل مع تركيا إردوغان، وحاولت عدة مرات ترميم العلاقات معه من دون جدوى، ما دفعها إلى الاصطفاف إقليمياً في المعسكر المعاكس لتركيا في المنطقة. وقد ظهر ذلك من خلال توثيق علاقاتها باليونان وقبرص ومصر السيسي، وخصوصاً في مجال النفط والغاز في البحر المتوسط.
الآن، اختلف الوضع. المبادرة أتت من تركيا، وإردوغان هو الَّذي تحرَّك باتجاه "إسرائيل"، لا العكس. بدأ ذلك في أواخر العام الماضي، عندما أطلق فجأة تصريحات "ناعمة" حول "إسرائيل"، وبادر في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي إلى الاتصال بنفتالي بينيت، هي الأولى له مع رئيس وزراء إسرائيلي منذ العام 2013، واستضاف لقاء مع حاخامات يهود، أطلق خلاله المزيد من بوادر حسن النية تجاه "إسرائيل"، وهو الآن يتوّج كلّ ذلك بدعوته الرئيس الإسرائيلي واستضافته في أنقرة.
صحيح أنَّ منصب الرئيس في "إسرائيل" شرفي وبروتوكولي إلى حد كبير، ولكنه يؤدي دوراً رغم ذلك، ويمكنه مساعدة الحكومة من خلال زياراته الخارجية. كما أن أهمية زيارة هرتسوغ لتركيا تأتي لكونها خطوة إضافية في مسار العلاقات المستجدة بين تركيا إردوغان و"إسرائيل"، ويمكن اعتبارها كسراً لجدار من التباعد والجفاء الدبلوماسي مع "إسرائيل" فرضه إردوغان في العقد الماضي، والمنطق يقول إنَّ هذه الخطوة ستتبعها خطوات أكبر.
ما الذي يدفع إردوغان إلى التقرب من "إسرائيل" والتفريط في صورة "الفارس" الجريء في التصدي للكيان الصهيوني، والتي بناها لنفسه على مدى سنين؟ لا شكّ في أن الاقتصاد التركي والصعوبات التي تواجهه هي السبب. التأكل المستمر في قيمة الليرة التركية، وتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية، يدفعان إردوغان إلى خيارات صعبة. يُضاف إلى ذلك نوع من العزلة الدبلوماسية لأنقرة في المنطقة، وضعف علاقاتها مع إدارة الرئيس الأميركي بايدن.
رغم خلفيته الأيديولوجية، أظهر إردوغان براغماتية شديدة وقدرة على التصرف بناء على اعتبارات المصلحة قبل أي شيء آخر. ظهر ذلك العام الماضي، حين قرر تحسين العلاقات مع مصر، ولم يتردّد في إسكات الإعلام المصري المعارض في تركيا، وقمع الإعلاميين المصريين المعارضين، ما اضطرهم إلى مغادرة تركيا. ومؤخراً، قرّر إصلاح العلاقات مع الإمارات العربية المتحدة وتطبيعها، ولم يتردد في زيارة أبو ظبي؛ راعية النشاط المعادي للإسلام السياسي في المنطقة.
الآن، تبدو "إسرائيل" في موقع قوة في علاقتها المستجدة مع تركيا، فإردوغان هو الذي يرزح تحت الضغط، وهو الذي يطلب الوصال. ومن المتوقع أن تضع "إسرائيل" شروطاً لتوثيق علاقاتها مع تركيا، أهمها طرد حركة "حماس" منها، ولجم نبرة الخطاب المعادي لها فيها، ليس على المستوى الرسمي فحسب، بل على المستوى الشعبي والإعلامي أيضاً.
وستتضمَّن الشروط الإسرائيلية ابتعاد تركيا عن الحركات الدولية الرامية إلى نزع الشرعية عن "إسرائيل"، ووقف المؤتمرات والنشاطات التي تصبّ في هذا الاتجاه داخل تركيا. وستصرّ "إسرائيل" على العلنيّة في مجال العلاقة مع تركيا، ورفع الأعلام والظهور أمام الجمهور في كلّ اللقاءات.
يخيّب إردوغان آمال أنصاره من "الحالمين العرب" الذين رأوا فيه الباعث الجديد للخلافة الإسلامية ووريث السلاطين العثمانيين. استفاق هؤلاء فجأةً على صورة إردوغان يحيّي ضيفه الإسرائيلي بحرارة، ويفرش له السجاد الأحمر، وهي صورة لا تتسق أبداً مع الصورة – الحلم لإردوغان المنافح عن المسجد الأقصى وفلسطين السليبة.