آلاء قدوم.. قاومت الغدر

لم تكن آلاء طفلة وحسب، بل أميرة صغيرة، سنديانة جميلة في حقل الصراع، بل وأكثر، قصيدة أمل يلقيها مقاوم فلسطيني على حدود الموت>

  • آلاء قدوم.. قاومت الغدر
    آلاء قدوم.. قاومت الغدر

على عتبات الورق تقف الكلمات. ترجف من شدة عجزها عن وصف هول الموقف، بل أكثر، عجزها عن الحديث عن صاروخ لا يهم هنا وزنه، ولا طوله، ولا نوعه، بل عن الجريمة التي اقترفها من يقف خلف القرار. نقصد قرار الصاروخ. صاحب القرار هنا يبحث عن خرم إبرة صغير يدخل منه مرة أخرى. 

سقطت الحسابات السياسة. لا التحليل، ولا التفسير، ولا التنبؤ سيعيد طفلة إلى الحياة، تلعب وتلهو من جديد في أزقة الحي. ولنعد إلى الصاروخ مرة أخرى، ولندرك أن آلاء قدوم عندما بدأ القصف حاولت الهروب في تلك اللحظات، ولكن ليس كهرب الجميع، إذ إن الجميع يبحث عن النجاة، ولكن آلاء كانت حتماً تصرخ، لا خوفاً، ولا رعباً، بل قلقاً على دميتها الصغيرة وفرشاة الشعر التي تصفّف بها شعر الدمية. تلك هي الحرب بالنسبة إليها. صاروخ جاء يقتل دميتها وفرحتها عندما تقوم كل ليلة بإمساك ورقة صغيرة تهوّي بها اللعبة لتستطيع النوم، فغزة من دون كهرباء.

 ربما يُطرح السؤال من هذه الزاوية" هل خسرنا طفلة ستكون طبيبة، أو مهندسة، أو زوجة، أو أماً، أو صديقة؟ هل خسرنا حلماً آخر؟ قطعاً لا، المشكلة هنا في مبدأ الخسارة، ولكن حتماً سوف نخسر عندما لا نثأر للدمية الصغيرة، وللحلم، ولدموع جدها الذي سأل ببساطته، وعفويته: "ما ذنب طفلة حتى تموت بصاروخ؟".

هذا السؤال الوحيد الذي لا يحتاج إلى إجابة بكلمات، بل يحتاج إلى فعل، كأن نقاوم مثلاً. بحثت طويلاً عن إجابة لسؤال مشابه بالكلمات، ولكنه كان ملتحماً بالمأساة، وكان السؤال على لسان والدتي التي فقدت طفلها شهيداً، إذ قالت: "شو رماك هالرميه يما؟".

الحزن على رحيلكِ ليس جميلاً. حزن منعدم الطعم من دون انتصار، حيث الانتصار هنا قضية وجود، لأن رحيلك ِتبدأ معه الحكاية من جديد. يعرّي الدول العربية التي انغمست في التطبيع حتى أذنيها، تلك الدول التي قالت قديماً: "ماكو أوامر"، ولكن هذه الدول لا تدرك أن غزة لو صُبّت جهنّم على رأسها، ورأس أطفالها، لظلت واقفة، لا تهرب من وجه قضيتها.

لم تكن آلاء طفلة وحسب، بل أميرة صغيرة، سنديانة جميلة في حقل الصراع، بل وأكثر، قصيدة أمل يلقيها مقاوم فلسطيني على حدود الموت، كانت وستبقى طفلة قبل أي شيء، حيث مصطلح الشهادة وجوهره هنا يعطيان آلاء قدوم بعداً آخر، وهو أنها ترحل وهي تحمل قضية تكبرها عمراً، ولكنها لم ترحل خارج حدود الزمان والمكان، لأن الزمان يلتصق بها على شكل نصر، والمكان يبقى معها، لأن المكان غزة.

وأكثر من ذلك، تعد آلاء قدوم رسالة مقدسة لنقولها بجرأة، وينطبق عليها ما قاله الشاعر تميم البرغوثي في قصيدته "معين الدمع": "سنبحث عن شهيد في قماط نبايعه أمير المؤمنين".

أكثر شيء تجب قراءته في رحيل آلاء قدوم هو الوصية، لأن طفلة مثل آلاء لا وصية لها، فهي الوصية، بدمها، وبمقعد الدراسة الذي كانت ستجلس عليه عندما تكبر، واسم طفلها الذي كانت ستسميه عندما تصبح أماً، ومعطفها الصغير الذي ستأخذه إلى خزانتها يوم زفافها لأنه هدية عيد ميلادها من أمها، وحلمها بفرحة التخرج من المدرسة، وعشقها لطعامها المفضل، وحبها، وكرهها، وقوتها، وحنانها، وتواضعها، وسريرها، وغرفتها، وطقم الصلاة الذي فيه ظهرت كملكة تتربّع على عرش الطفولة.

آلاء قدوم حتماً ليست ضحية غدر، بل قاومت الغدر، لأنها فلسطين، وهنا نقول ما قاله تميم البرغوثي في قصيدته، "بيان عسكري": "نحاصَرُ من أخٍ أو من عدُوٍّ، سنغلبُ وحدَنا وسيندمانِ".

 وعندما نقول قاومَت الغدر، نقصد أنها كشفت الحقيقة، إذ كانت قدوم الحقيقة التي نبحث عنها، ومفادها أن الاحتلال لا يقاوم بالاتفاقيات، و"السلام" حتماً هو نقيضها، وأن الحكومات العربية التي زُرعت "إسرائيل" في رأسها لن تقاوم، وكشفت أنك حين تكون أخاً وتمارس الوساطة مع من يسفك الدماء فتلك خيانة، لا حفاظ على الهدوء.

لم تطلع الشمس من الشرق، ولم تغرب أيضاً نحو الغرب يوم رحيل آلاء، إذ كانت هي الشمس التي أضاءت بشهادتها طبيعة الصراع وهذا العالم، حتى لو جاء يبحث عن وقف لإطلاق النار. لديه أسبابه إلا السبب الإنساني، وهذه الإضاءة تقول لنا شيئاً مهماً: هؤلاء منافقون، مخادعون، ماكرون، وهي أيضاً تضيء بشهادتها على سؤال يستحق التفكير: "لو كان القانون الدولي ينهي الصراع، فلماذا تسقط منذ عام 1948 كل هذه الدماء؟"، ولهذا هم شركاء في الدم والجريمة، فاحذروهم.

لا يهم آلاء قدوم اليوم شكل القبر، ولا الدفء في داخله، ولا الأزهار العبثية بجانبه، بل يهمّها اليوم كيف نقاتل أكثر في سبيل ألا نفتح قبوراً أخرى، هذه الطفلة رحلت، وهي تقول للعدو وللأخ ما قاله أيضاً تميم البرغوثي في قصيدته "بيان عسكري":

قل للعدو، أراك أحمق ما تزال،

فالآن فاوضهم على ما شئت

واطلب منهم وقف القتالْ

يا قائد النفر الغزاة إلى الجديلة

أو إلى العين الكحيلة

من سنين

أدري بأنك لا تخاف الطفل حياً

إنما أدعوك صدقاً، أن تخاف من الصغار الميتين...".