احتمالية الحرب الإقليمية الشاملة بين 3 ضوابط

هل فعلاً من مصلحة قوى التحرر العربي والإسلامي انتظار مجيء التسويات الدولية الكبرى لتكرار تجربة 1922 سيئة الذكر؟

  • الحروب الإقليمية.
    الحروب الإقليمية.

رغم انشغال العالم بالحرب العالمية الثالثة المنضبطة الدائرة على الأراضي الأوكرانية، التي تحاول من خلالها القوى الدولية العظمى والقوى الفاعلة ترسيم توازنات النظام العالمي لسنين مقبلة، والتي غطت تداعياتها بقدر كبير على مجريات الأحداث في منطقتنا التي لا تزال الأكثر اشتعالاً منذ عقود، فإن حقائق الجغرافيا وعقَد المواصلات البرية والبحرية عادت لتفرض حضور منطقة المشرق العربي وامتداداته في منطقة غرب آسيا كساحة رئيسة في أي عملية تحول جذري في التوازنات العالمية. 

يمكن قراءة عودة اهتمام القوى الدولية بمنطقة المشرق العربي ضمن معركة صياغة عالم ما بعد الأحادية القطبية في أكثر من مفصل مؤخراً، كان منها حضور الصين المفاجئ كراعٍ للتفاهم السعودي الإيراني في آذار/مارس 2023. 

كذلك، كان من تلك المظاهر إعادة نشر مقاتلات أميركية متطورة في المشرق العربي مؤخراً، بصرف النظر عن أن إعادة الانتشار تلك لم تكن مؤشراً على تحول في الاستراتيجية الأميركية العامة المبنية على عدم التورط في حرب جديدة في المنطقة. 

أخيراً، جاءت زيارة الرئيس بشار الأسد والوفد السوري المرافق لبكين في أيلول/سبتمبر 2023، بناءً على دعوة من الرئيس الصيني، وذلك لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الآسيوية، بحضور نحو 12 من رؤساء الدول الآسيوية، ولتوقيع الرئيسين الصيني والسوري على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.

وقد قرأ البعض في تلك الزيارة رفيعة المستوى سعياً لتغيير المشهد الجيوسياسي الإقليمي، ونزعة صينية متزايدة لتحدي الهيمنة الأميركية التقليدية في المنطقة، لكن ضمن المحددات العامة للسياسة الخارجية الصينية التي تتسم بالحذر المدروس وبالتقدم البطيء نسبياً في المحافل الدولية.

يأتي ازدياد الحضور الصيني في ساحة المشرق العربي، لينضم إلى مجموع المؤثرات الدولية الأخرى القائمة في المنطقة أصلاً، فقد استعادت روسيا موقعها كمؤثر رئيس في مجرى أحداث المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، لتصبح على قدم المساواة مع الحضور الأميركي المستمر والتقليدي في المنطقة من جهة التأثير. 

وبهذا، صارت هذه العوامل الدولية مجتمعة تشكل واحداً من 3 ضوابط مفصلية تتحكم في توقيت الحرب الإقليمية الشاملة بين محور المقاومة والكيان المؤقت، بحسب ما يرى هذا المقال.

تعد فكرة الحرب الإقليمية أو ما يسميه البعض الانتقال إلى مرحلة الهجوم المعاكس الشامل من أكثر المواضيع تداولاً في الصالونات السياسية هذه الأيام، فالتساؤلات تدور عما إذا كانت هناك في الأفق حرب إقليمية مقبلة؟ ومتى تقع؟ وكيف ستكون طبيعتها؟ 

ولا يمكن واقعياً الجزم بالإجابة عن هذه التساؤلات، ولكن من الممكن محاولة حصر العوامل التي تشكل الإطار الحاكم لاحتمال نشوب حرب إقليمية شاملة، ووضعها ضمن 3 ضوابط أساسية: اثنان يدفعان نحو الحرب، وثالث آخر مثبط، على النحو الآتي:

الضابط الأول: اختلال موازين القوى 

تشير الوقائع وطريقة تعاطي الأطراف الإقليمية مع الأحداث إلى حصول تبدل ملموس في موازين القوى التي كانت تحكم الإقليم لعقود، فإحجام الكيان المؤقت عن شن حرب واسعة على حزب الله في لبنان منذ 2006 من أجل القضاء على قوته أو تحييد خطره على أقل تقدير، وذلك رغم مراكمة الحزب المطردة لعناصر القوة العسكرية التي وصلت فيما وصلت إليه إلى حد امتلاكه الصواريخ الدقيقة وإنشائه "مطار الجبور" العسكري في جنوب لبنان على بعد 20 كيلومتراً فقط من الحدود مع فلسطين المحتلة. 

يُضاف إلى ذلك عدم قدرة "جيش" الاحتلال على اجتياح قطاع غزة برياً لإنهاء وجود فصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة فيه، بل على العكس، باتت الفصائل الفلسطينية تقيم المناورات العسكرية تحت مرأى ومسمع من "جيش" الاحتلال من دون أن يقوم بأي رد فعل يذكر، وذلك بسبب مجموعة حسابات معقدة عن الخسائر والأرباح لم يكن الكيان المؤقت ليقيم لها بالاً في الماضي القريب.

لقد جاءت حادثة خيمة حزب الله التي نصبها في مزارع شبعا لتختصر صورة الديناميكيات الجديدة التي باتت تحكم محدودية قدرة الكيان المؤقت على توظيف "جيشه" في مواجهة قوى التحرر العربي والإسلامي، ناهيك بعدم قيامه بعملية عسكرية ضد المشروع النووي الإيراني رغم تهديداته المتكررة بذلك، وحصره المواجهة في هذا المجال بالعمليات الأمنية والاستخباراتية، وذلك تفادياً لحرب لا يستطيع التنبؤ بمداها ونتائجها.

لطالما كانت حسابات الأطراف المتقابلة لتوازنات القوة فيما بينها العامل الأول المؤثر في نشوء الحروب في التجارب التاريخية عموماً، ويبدو أن أركان محور المقاومة باتت تشعر بفائض قوة يمكنها من الضغط على العدو في أكثر من ساحة وتجاوز خطوط كان يَعدها العدو حمراً في الماضي. كان هذا يجري تحت سقف رسمته لنفسها قوى محور المقاومة -أقله حتى اللحظة- يقضي بعدم الدخول في حرب مفتوحة في الإقليم ضمن معادلة "لا نريد الحرب، لكننا لا نخشاها".

لكن لأي مدى يمكن أن يستمر اللعب على خطوط التماس من دون خروج الأمر عن دائرة التحكّم؟ كيف إذا كان تبدل موازين القوى لا يمكن رصده فعلياً من دون اختباره في الميدان بصورة عملية من خلال الحرب، ناهيك بإمكانية تبدل معادلة محور المقاومة طبقاً للظروف لتغدو: "نريد الحرب ولا نخشاها"؟

الضابط الثاني: صلابة مواقف الأطراف

ترى قوى التحرر العربي والإسلامي في المدى المتوسط إمكانية واقعية لإزالة الكيان المؤقت الذي تعده عنصراً أساسياً في إدامة منظومة الهيمنة الغربية التي تعرقل التنمية في المنطقة واستقرارها، حالها في ذلك حال باقي دول "الجنوب العالمي" التي ترزح تحت الهيمنة الغربية. 

تتجلى الشواهد على ذلك في صراع امتد لعقود، كان آخرها مثلاً رفض الجمهورية الإسلامية القاطع لعروض قدمتها لها بعض الدول، تقضي بمقايضة تخفيف الغارات الجوية الإسرائيلية المتكررة على قواتها في الأراضي السورية، في مقابل تخفيف الدعم الذي تقدمه لفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، ولا سيما في ساحة الضفة، ما عدته الجمهورية الإسلامية طرحاً يتناقض مع طبيعتها وأسس تكوينها العقائدي.

وكان رد محور المقاومة العملي في المقابل البدء بنقل بعض المنشآت العسكرية الإيرانية في سوريا إلى أماكن محصنة تحت الأرض، في محاولة لتقليص آثار الغارات الجوية الإسرائيلية، كما رشح من بعض المصادر.

كما أن خطوة إنشاء حزب الله "مطار الجبور" العسكري بالتعاون مع الجمهورية الإسلامية جاءت في السياق ذاته، إذ يمكن استخدامه -إضافة إلى كونه منصة هجوم على مواقع الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة- كمهبط لطائرات نقل عسكرية متوسطة الحجم إذا اقتضت الحاجة ذلك، ما يؤمن لحزب الله خط إمداد آخر إلى جانب الخط البري الواصل عبر الأراضي السورية، متجاوزاً بذلك تهديد الغارات الإسرائيلية على شحنات السلاح المزعومة.

أما فلسطينياً، فمِن الواضح أن فصائل المقاومة المسلحة الفلسطينية ليست في وارد الدخول في تسويات مع الكيان المؤقت، منطلقةً بذلك من تكوينها العقائدي، ومن تجربة خدعة السلام ومسار "أوسلو" الذي انعكس ضرراً كبيراً على مسار التحرير. ويتجلى هذا المسار في تركيزها على تصعيد العمل المقاوم في الضفة وتطويره، بما تمثله الضفة من ساحة اشتباك استراتيجية مع الاحتلال.

نجد في المقلب الآخر أن الكيان المؤقت لا يستطيع التراجع طوعاً، ولو خطوة واحدة، إلى الوراء، فأي تراجع من ناحيته سيعد ضربة جديدة تقربه من تفككه، ناهيك بكينونته الاستيطانية والإحلالية وطبيعته الوظيفية في المنطقة اللتين تحولان دون تحوله إلى جسم منسجم مع محيطه الإقليمي.

لا يحتاج هذا الأمر إلى كثير من التدليل؛ فيكفي النظر إلى مخططاته المعلنة الرامية إلى تهجير العدد الأكبر من فلسطينيي الضفة وأراضي فلسطين 1948 على حد سواء، وعزمه الصريح على تهويد القدس، وهدم المسجد الأقصى، وتهديد الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في فلسطين المحتلة. كل هذا برغم ما قدمته له السلطة الفلسطينية مع دول التطبيع من تنازلات ترقى إلى مستوى الخيانات الوطنية، ورغم ما أبدته هذه الأطراف أمامه من انبطاح وخنوع.

إذاً، طبقاً لهذا الوضع الجيوسياسي الهش بين الأطراف المتقابلة، ستبقى خطوط التماس غير مستقرة، وستزداد مع الوقت احتمالات اشتعال الجبهات، إذ لن يستقر الإقليم إلا بإحدى حالتين: 

- تسوية كبرى لا تلوح في الأفق، فكل ما شهدته المنطقة في العامين أو الأعوام الثلاثة الماضية كان مجرد تسويات موضعية أشبه ما تكون بالمسكنات التي تؤخر الانفجار الكبير.

- صدام إقليمي ترسم نتائجه شكل الإقليم المقبل وتوازناته، وهذا ما يبدو أقرب إلى الواقع حتى حينه.

الضابط الثالث: العامل الدولي

يعدّ الضابطان الأول والثاني دافعين نحو وقوع الحرب الإقليمية الشاملة، فيما يؤدي العامل الدولي دور الضابط المثبط في هذه المعادلة المتشابكة، إذ لا يمكن تجاهل تأثير الولايات المتحدة القوي في المنطقة واستراتيجيتها المبنية على منع تفجر الأوضاع في الإقليم في هذه الحقبة. 

وقد تجلت تلك الاستراتيجية في أكثر من محطة، كان منها على سبيل المثال لا الحصر الموقف الأميركي الضاغط نحو التهدئة في معركة "سيف القدس" عام 2021، والوساطة التي قادتها لإبرام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الدولة اللبنانية وكيان الاحتلال 2022، ضمن سياسة تفكيك الألغام القابلة للانفجار في المنطقة عبر التسويات المحدودة والموضعية، إضافة إلى رفضها المستمر للسير وراء الضغوط الإسرائيلية الداعية إلى مهاجمة الجمهورية الإسلامية عسكرياً على خلفية المشروع النووي الإيراني. 

أما بالنسبة إلى روسيا، التي بات لها وجود إقليمي لا يقل أهمية عن الحضور الأميركي، فهي ليست معنية باشتعال الأوضاع في المنطقة أو بأن تكون جزءاً مباشراً في الصراع العربي-الإسلامي الإسرائيلي.

يبدو هذا واضحاً من سلوكها في التغاضي عن الغارات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية، أقله حتى هذه اللحظة، فروسيا بغنى عن الدخول في صدام مع الحليف الأول لأميركا والغرب عموماً في المنطقة، إضافة إلى علاقاتها مع الكيان المؤقت التي تضعها بالحسبان ضمن استراتيجياتها العامة.

ولعل روسيا تطمح إلى أداء دور عراب "السلام" في المستقبل بين الكيان المؤقت ودول المنطقة، ذلك بمعزل عن مدى صحة هذه القراءة الروسية للوضع الإقليمي وفرص نجاحها.

يبقى الحضور الصيني المتزايد والمستجد في الإقليم الذي لا بد من أنه سيكون من ضمن أولوياته تهدئة الأوضاع، وذلك بهدف تأمين بيئة آمنة للاستثمارات الصينية التجارية في الإقليم ومشروعها الاستراتيجي "الحزام والطريق".

يشكّل العامل الدولي ثقلاً كبيراً لا يستهان به ضمن معادلة الضوابط الثلاث الحاكمة لنشوب حرب إقليمية شاملة، لكن ما دام العامل الدولي لم يرتقِ إلى مرتبة القدرة على عقد تسويات كبرى في المنطقة، فإنه سيظل عامل تثبيط مؤقتاً من دون أن يصل إلى مستوى تحقيق الاستقرار الدائم، وهذا ما يرجح أن تكون عليه الحال. 

ضابط إضافي؟

يرى البعض في كون الطبقة السياسية الحاكمة في الكيان حالياً، التي يسيطر عليها المستوطنون والصهيونية الدينية الأكثر تطرفاً، عاملاً آخر يدفع نحو الحرب. هذا التقدير يحمل الكثير من الصحة في طياته بقدر أن رعونة وحمْق الطبقة الحاكمة في الكيان يمكن أن يدفعاها إلى خطوة في الأراضي المحتلة تؤدي إلى إشعال الجبهات، لكن مع هذا، يظل كيان الاحتلال محكوماً بمؤسسات متجذرة ترتبط بأجهزة "الجيش" والاستخبارات التي تصوغ تقديراتها وتوصياتها عادة بناءً على حقائق الميدان وبحِرفية.

ولا يمكن بحال تجاهل التأثير الأميركي الوازن في قرارات الكيان المرتبطة بشن الحروب، ويعد الحد من حجم النفوذ الأميركي في الكيان وتأثيره جزءاً من المعركة الداخلية المحتدمة بين المعارضة وحكومة الاحتلال هذه الأيام، لكن هذه المعركة لم يتم حسمها بعد، والأرجح ألا يكون هناك أي تبدل لمستوى النفوذ الأميركي على قرارات الكيان لأسباب لا محل لنقاشها هنا.

خاتمة

تعيش المنطقة العربية والإسلامية حالة من عدم الاستقرار منذ 1922، مما اصطلح عليه ديفيد فرومكين عبارة "سلام ما بعده سلام"، إذ دخلت المنطقة منذ ذاك الحين مرحلة شاذة تتنافى مع تكوينها العمراني وعمقها التاريخي الذي جعل منها منطقة مشتعلة على الدوام، وقنبلة موقوتة تنتظر الانفجار متى توفرت الظروف الملائمة لذلك، وليس هناك سبيل موضوعي كي تستعيد المنطقة استقرارها -أقله النسبي- إلا بخروجها من الحالة الشاذة التي تعيشها منذ نحو قرن من الزمن وإزالة الكيان المؤقت الذي يعد أحد أبرز أسباب إدامة عدم الاستقرار في المنطقة، بما يمثله من امتداد للوجود الغربي الاستعماري داخل الإقليم.

إذا كانت حال المنطقة تحاكي قنبلة موقوتة، فإن مجموع العوامل والظروف الإقليمية في هذه الحقبة تقترب أكثر فأكثر لتوفير صاعق التفجير.

يسابق الزمن هذه الأيام بين أمرين؛ نضوج ظروف التسويات الكبرى الدولية في معركة رسم عالم ما بعد الأحادية القطبية التي ستنعكس حتماً على المنطقة، بصرف النظر عن رضا الأطراف، ونضوج الظروف تماماً لحرب إقليمية شاملة أو وقوع خطأ في التقدير من أحد الخصوم الإقليميين يخرِج الأوضاع عن السيطرة، فأي الظروف ستنضج أولاً، علماً بأن التسويات الكبرى الدولية ليست قريبة، وطريقها ما زال متعرجاً ومليئاً بالمفاجآت؟

يظل السؤال العالق الذي يؤرق بال الكثيرين: هل فعلاً من مصلحة قوى التحرر العربي والإسلامي انتظار مجيء التسويات الكبرى الدولية لتكرار تجربة 1922 سيئة الذكر؟