"عدالة" الدستور اللبناني... تكريسٌ للطائفية السياسية.

الدستور اللبناني يشبه دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا آنذاك. وعند عرضه على اللجنة التي عينت لدراسة موارده، برزت عدة آراء معارضة لتكريس مبدأ الطائفية.

  • "عدالة" الدستور اللبناني... تكريسٌ للطائفية السياسية.

"بصورة مؤقتة، والتماساً للعدل والوفاق، تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة وبتشكيل الوزارة من دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة". 

هذا ما جاء في حرفية نص المادة 95 من الدستور اللبناني الذي وضع في العام 1926. يهيأ للقارئ أولاً أن هذه المادة تريد إنصافاً لأبناء شعبها، إذ أباحت لهم ترتيب الوظائف العامة والوزارات في الحكومات المتعاقبة بناءً على التقسيم الطائفي؛ تقسيم لطالما تغنى لبنان وتباهى به أمام شعوب العالم، إذا لا دولة حديثة ضمت، ضمن إطار جغرافي صغير نسبياً، تنوعاً إثنياً وأيديولوجياً مثل لبنان. 

كلام يبعث على السكون ويزيد من الثقة بأن المساواة والعدالة والعدل هي أساس العيش في لبنان.

الجواب على السؤال المطروح: هل تكرست الطائفية في الدستور اللبناني؟ يكون الجواب حتماً نعم. إن التعارض بين النص والواقع واضح جداً من خلال الماده 95، فلو كانت غاية المشرع وقتها إنقاذ لبنان من لعنة الطائفية، وخصوصاً في سياساته، لما أفرز مادة مفصلة يجيز فيها تمثيل الطوائف في الوظائف العامة والوزارة.

قد يتساءل البعض عن حتمية أن يكون موقع رئاسة الجمهورية لماروني، ولماذا لا يرأس الحكومة إلا سني ولا يتولى مجلس النواب إلا شيعي!

بعد مراجعة نصوص المواد في الدستور اللبناني، لا يجد الباحث أو القارئ ما يوجب تمثيل السلطات في لبنان على أساس طائفي، ولكن الأعراف والتقاليد التي مورست أثناء حقبة الانتداب واستمرت إلى ما بعد استقلال لبنان في العام 1943، كرست تقسيم الرئاسات على أساس مذهبي. ومن باب إلقاء الضوء تاريخياً، يتبيّن أن دستور لبنان في العام 1926 هو عبارة عن "هبة" قدمتها حكومة الانتداب الفرنسي حينها، "إيفاءً" بوعد بوضع دستور لكل بلد وضع تحت رعايتها أو انتدابها تمهيداً للحصول على استقلاله.

هذا الدستور يشبه دستور الجمهورية الثالثة في فرنسا آنذاك. وعند عرضه على اللجنة التي عينت لدراسة موارده، برزت عدة آراء معارضة لتكريس مبدأ الطائفية.

إذا أردنا أن نبسّط نص الماده 95 من الدستور اللبناني 1926، فإن أول ما يجوز الالتفات إليه هو عبارة "بصورة مؤقتة". هاتان الكلمتان على بساطتهما تشكلان سيفاً ذا حدين:

الأول، يعطي أملاً بالقضاء على ما التُمس منه عدلاً ووفاقاً في تمثيل الطوائف بعد فترة مؤقتة، فالنص واضح بأنه وُضع لفترة زمنية محددة، الأمر الذي يقود إلى التفكير بالحد الثاني، وهو امتداد هذه الفترة، فهي مؤقتة، ولكن إلى متى؟ إن هذه الحرية الزمنية ما زالت جارية حتى يومنا هذا، إذ لم يقيد النص بسقف زمني منظور أو غير منظور!

تُطوى صفحة كتب عليها دستور لبنان للعام 1926 لتُفتح صفحة أخرى فيها ميثاق العام 1943 الذي يُعرف باسم الميثاق الوطني. الميثاق المكتوب بالحبر الأبيض ( لأنه شفهي)، اتُفِق عليه بين الرئيس بشارة الخوري ورياض الصلح في العام 1943، وطبع شكل نظام الحكم واقعاً في لبنان، بغض النظر عن نظامه المكتوب في الدستور والقانون!

قانوناً، لبنان بلد جمهوري برلماني. واقعاً، يحدد الميثاق الوطني لعام 1943 نظام لبنان بأنه برلماني طائفي قائم على نتيجة المفاوضات بين تيارات الشيعة والسنة والموارنة وقتها لتكون السلطة السياسية بعد هذا التاريخ ولغاية اليوم بيد الطوائف؛ فرئيس الجمهورية مسيحي ماروني، ورئيس مجلس الوزراء مسلم سني، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي. أما نائبه، فمسيحي أرثوذكسي، ورئيس الأركان العامة درزي.

باب الأمل الذي كاد أن يغلق بموجب نص المادة 95 عندما كرست الطائفية في وظائف الدولة العامة والوزارات فقط، أغلق تماماً بالشمع الأحمر بفضل ما نتج من الميثاق الوطني، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن "الصورة المؤقتة" ما زالت سارية لغاية اليوم بإقراره إلزام السلطات بالتمثيل الطائفي.

إن مفهوم العدل والعدالة الذي تتحدث عنه هذه المادة من الدستور ومحاولة المساواة بين الطوائف من خلال الميثاق الوطني لم يؤدِ فعلياً إلا إلى ترسيخ التقسيم، وإقناع اللبنانيين بأن لا قيامة لبلدهم إلا بالطائفية التي أسست معالمها في لبنان منذ العام 1843 مع نظام القائمقاميتين: شمالية مسيحية وجنوبية درزية في جبل لبنان لوقف الأحداث الدموية التي فتكت بالطائفتين وقتها. وأنشئ بعد ذلك نظام المتصرفية في جبل لبنان عام 1960، بعد أحداث دامية بين المسيحيين والدروز، ووُحِّد الجبل تحت حكم متصرف مسيحي تعيّنه السلطنة العثمانية بموافقة أوروبية، ما يطرح سؤالين: 

الأول، إذا كان نظام القائمقاميتين في الجبل يهدف إلى إرساء العدل والعدالة في ذلك الوقت بين الطائفتين المتناحرتين، وإذا أدّى حقوق كل طائفة من خلال التقسيم، فلماذا إذاً لم يصمد عند أول امتحان أو مفترق طرق؟

السؤال الثاني، لماذا استبدل بنظام تقسيم طائفي أثبت فشله في تحقيق الاستقرار في جبل لبنان (وليس لبنان كله!) نظام آخر أرسى بدوره تقسيماً طائفياً جمع بين الخصوم سِمته الأولى طائفية (مسيحي)؟

ربما يكمن الجواب على هذين السؤالين في محاولة ترسيخ الطائفية بين أبناء الشعب الواحد وليس العكس، أو ما تدعيه النصوص القانونية والأعراف والتقاليد، فالترويكا التي عرفت بسبب تعاون الرؤساء الثلاثة، الجمهورية الوزراء والنواب خارج نطاق المؤسسات، اختزلت السلطات بأشخاص متوليها، معطلة دور كل سلطة على حدة ودورها في التعاون فيما بينها، ليتعطل دور المجلس النيابي في الرقابة على الحكومة وجدية العمل التشريعي، ويتحول الوزراء إلى موظفين لدى رئيس الحكومة وتنحي رئيس الجمهورية عن دوره في الحكم بين السلطات، إلا في حال كان هناك أي مصلحة خاصة أو تأمنت المخارج مسبقاً من قبل الرؤساء الثلاثة!

تعاقب على لبنان رؤساء وحكومات ومجالس نيابية قائمة على هذا النظام إلى حين التثبتمن فشله في إدارة دولة المؤسسات من المفترض أن تكون قائمة على أسس الديمقراطية والحرية والتمدن وأن تطمح إلى التقدم. بفضل هذا النظام، أصبح لبنان عند كل استحقاق سياسي ساحة معركة غير ودية بين المرشحين على اختلاف انتماءاتهم الطائفية، يسعى كل منهم إلى جانب الفوز بالمنصب على أساس الفوز للطائفة، لإلغاء الآخر وإقصائه، ما أدى إلى الحرب الأهلية التي اندلعت في العام 1975، ولم يكن عنوانها استقلال منطقة عن أخرى أو رغبةً في تغيير نظام الحكم أو قتالاً عنصرياً بغيضاً، بل كان عنوانها إلغاء الطوائف بعضها بعضاً ليكون البقاء للطائفة الأقوى!

انتهى شلال الدم هذا بعد معارك دامت 25 عاماً من خلال ما يُعرف اليوم باتفاق الطائف. اجتمع زعماء تلك الحرب، كل يلملم خسائره، في منطقة الطائف في المملكة العربية السعودية بتاريخ 30 أيلول/سبتمبر 1982، وأقروا الاتفاق الذي يُعرف اليوم بوثيقة الاتفاق الوطني، بقانون بتاريخ 22 تشرين أول/أكتوبر 1989.

أدخلت هذه الوثيقة تعديلات كثيرة على مواد الدستور اللبناني، أبرزها تعديل الماده 95 التي أصبحت على الشكل التالي:

"على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية تضم، إضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية.

مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلس النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية.

وفي المرحلة الانتقالية:

أ- تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة.

ب- تلغى قاعدة التمثيل الطائفي، ويعتمد الاختصاص والكفاءة في الوظائف العامة والقضاء والمؤسسات العسكرية والأمنية والمؤسسات العامة والمختلطة، وفقاً لمقتضيات الوفاق الوطني، باستثناء وظائف الفئة الأولى فيها وفي ما يعادل الفئة الأولى فيها، وتكون هذه الوظائف مناصفة بين المسيحيين والمسلمين من دون تخصيص أية وظيفة لأي طائفة مع التقيد بمبدأي الاختصاص والكفاءة.

في القراءة الأولى، فإن اتفاق الطائف أوضح وجوب المرور بمرحلة انتقالية من دولة قائمة على أساس التقسيم الطائفي نحو دولة أخرى تعتمد بشكل مخفف نسبياً على ذلك التقسيم، ولكن ما يعتري هذا المرور من شوائب يمكن تلخيصه بالتالي:

- عدم تحديد مدة زمنية تبدأ من تاريخ معين لتنتهي بتاريخ آخر من أجل وضع الإطار الزمني للمرحلة الانتقالية. 

-الحفاظ على التمثيل الطائفي في الوزارات من باب العدالة، علماً أننا أوضحنا كيف أن تكريس هذا التمثيل في حد ذاته هو ترسيخ لفكرة الطائفية السياسية في نفوس اللبنانيين، لا سيما جيل ما بعد الحرب الأهلية.

- الإبقاء على تقسيم وظائف الفئة الأولى طائفياً إلى جانب معيار الكفاءة الذي قد ينتفي لسبب ما في شخصية مطروحة لتولي وظيفة من هذا النوع تنتمي إلى طائفة معينة، وقد تتوافر في أخرى تنتمي إلى طائفة غيرها.

إذاً، أقرت المرحلة الانتقالية بمعنى حرفي في تعديل هذه المادة، ولكنها بقيت من دون إطار زمني، ما يقودنا إلى الاستنتاج بأننا ما زلنا نعيش في هذه المرحلة.

 تجدر الإشارة إلى أنه كلما طالت المدة تعمقت فكرة التقسيم الطائفي في عقول اللبنانيين، ونسوا وجوب أن يعبروا من هذه البوابة نحو دولة محررة من الطائفية، فقد برزت في الفترة الماضية، خصوصاً بعد ما يسمى بـ"ثورة 17 تشرين"، عدة آراء تنادي بضرورة البدء بإنهاء الدولة المقيدة بسياساتها ووظائفها للطائفية، والشروع بتشكيل مجلس تأسيسي يُعنى بإعادة هيكلة دستور متهالك، ويؤدي دوره في تكوين دولة معتمدة في مرافقها كافة على الكفاءة والموضوعية في مقاربة مقاليد الحكم، ليتحرر كل مواطن لبناني من نير وضعه الخارج، وما يزال يدفع نحو إبقائه حول رقبته ليكون هو المتحكم في حلول هذا البلد كلما دقت طبول الطائفية على أوتار التنازعات.

انتخابات تشريعية مصيرية يشهدها لبنان، بعد ما يزيد على العامين من أزمة اقتصادية سياسية غير مسبوقة، تشابك فيها المحلي مع الإقليمي والدولي، فكيف سيكون وجه لبنان بعد هذه الانتخابات؟