محمد الدرة.. مات الولد

 كان "محمد" يحلم بأن يستيقظ مبتسماً في سرير دافئ، وأكثر: يستيقظ مقتنعاً بغد أجمل على سبيل الأمل، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بجدار، وأكثر: بصدر والده.

  • محمد الدرة.. مات الولد
    محمد الدرة.. مات الولد

يتباين المكان، وأكثر الزمان، لكن بين الماضي العتيق، وتحديداً في 30 أيلول/ سبتمبر 2000، وإلى جانب الجدار في مدينة غزة، خلف البرميل، استُشهد "محمد الدرة"، حيث كان ذاهباً ليشتري مركبة لطالما كان يحلم بها. والآن الحاضر، وتحديداً أيضاً في 29 أيلول/سبتمبر 2022، ومن فوق الجدار في بلدة تقوع،* سقط الطفل "ريان سليمان"، الذي يبلغ الثامنة من عمره، بحيث ركض "ريان" وكان التاريخ يركض من خلفه حاملاً خيال "محمد الدرة على الجدار"، وحاملاً أيضاً تاريخ الرصاص، وتاريخَ من نبشوا بطون النساء وقتلوا الأجنّة في مجزرة دير ياسين، ومجزرتَي صبرا وشاتيلا.

ما بين علوا الجدار والأرض، كان قلب "ريان" يرفض البوح: إن السرعة هي المسافة على الزمن، بل كانت السرعة هي الخوف على الحقيبة المدرسية، ودفتر الإملاء، وكتابة حرف الألف، عشرَ مرات، وحفظ "سورة الكافرون". وكانت المسافة هي الموت المدجَّج بالسلاح، وقنابل الغاز، والرعب، ورائحة الجنود. وكان الزمن هو الإرهاب الذي يفتك بكتاب اللغة العربية، ومسطرة الرياضيات، ووجبة الغداء ما بعد المدرسة، بحيث "ريان" وصل إلى الأرض بعد هذه المعادلة، واحتضنته فلسطين وغنّت لهُ:

نَمْ يا حبيبي الآن نَمْ

ها مهدك الحلو الوثيرْ

في دفئه طفل صغيرْ

إن يسألوا عنا نَقُلْ

قد نام للتوّ الأميرْ..

يلعن "ريان" اليوم نظريات الرياضيات، بحيث كان للموت قياسات ومعادلات تتباين جذرياً عن تلك التي تعلَّمها في كتاب الرياضيات، وكذلك يلعنها "محمد الدرة"، بحيث الأخير اخترقت الرصاصة الأولى قدمه اليمنى، وصرخ على والده قائلاً: "ما تخاف، شد حيلك يابا"، لكن الموت هنا كان أبعد من كتاب الرياضيات، وأقرب من "محمد" ووالده، بحيث الرصاص اخترق حتى غبار الأرض، وليس فقط جسد "محمد"، وقدمَي والده. 

 كان "محمد" يحلم بأن يستيقظ مبتسماً في سرير دافئ، وأكثر: يستيقظ مقتنعاً بغد أجمل على سبيل الأمل، لكنه وجد نفسه ملتصقاً بجدار، وأكثر: بصدر والده. ويأتي الرصاص ليخترق التاريخ، والحقيقة، والإنسانية، وبعد ذلك يخترق الجدار، والأرض، ثم يخترق جسده. وقبل كل شيء، اخترق الرصاص المباحثات السرية، وأوراق السلام، وعلبة العصير التي كانت أمام إسحاق رابين على طاولة المفاوضات، بل اخترق الورقة التي يخبئها شمعون بيريز داخل الجيب الخلفي في البنطال الرسمي.

نزف "محمد" دماً، وموتاً، وقبل ذلك خوفاً ورعباً، لكنّ العالم نزف إرهاباً، وصمتاً، وإجراماً، بحيث الطفل الفلسطيني ما زال يحاول الاختباء خلف الجدار، لكنّ الرصاص يلاحقه في كل مكان. ففي الأمس كان "محمد الدرة"، واليوم "ريان سليمان"، وما بينهما كان "مهدي أبو عياش"، والأخير حاول الاحتماء بالجدار هرباً من الجنود، لكن الرصاص اخترق الرأس، ومكث 7 شهور وثمانية أيام في غيبوبة يحاور فيها الرصاص، محاولاً التحايل عليه، لكنّ الزمن رفض التوقف، فاستشهد. وما دام هناك احتلال فستبقى الحكايات تُغزَل بخيوط النسيج نفسها، وستبقى "سورة الفاتحة"، أم الكتاب، تقرأ الألم على قبور الشهداء.

"مات الولد، مات"، بهذه الكلمات تُختصر حكاية "محمد الدرة"؛ هذا الطفل الذي أصبحت صورته أيقونة خلال الانتفاضة الثانية، وما بعدها؛ هذه الصورة التي هزّت كل بيت فلسطيني، وأدمت القلب، والعقل، وخصوصاً أن "محمد الدرة" كان، بجسده الصغير البريء، يواجه زخات من الرصاص، وكان أيضاً والده، بجسده الأعزل، يحاول حماية طفله من هذه الزخات، ملوّحاً بيده، متشبثاً به إلى حد الجنون، وحد الهلع. وعندما أيقن أن طفله استُشهد قام بتحريك رأسه بصمت، يميناً وشمالاً، رافضاً الفقدان، والوداع، والقبر. 

لم يكن "محمد الدرة" يحمل في يديه مسدساً. وحتى لو كان معه مسدسٌ، فالجندي لا يحتاج إلى مبرر للقتل، بحيث وجوده هو الجريمة، وأكثر: هو يتنفس من خلال الدم. فمن بديهيات القول إن طفلاً بحجم "محمد"، وعمره، لن يُشكّل خطراً على "دولة" "إسرائيل"، فالقضية ليست إذا كان مع "محمد" مسدسٌ، أو كتاب، بل القضية في الجندي الذي جعل أُم "محمد الدرة" تشاهد صورة طفلها عبر شاشة التلفاز شهيداً.

ستخرج لنا حكاية شهيد جديدة من أي زاوية في خريطة فلسطين التاريخية. سيقول لنا هذا الشهيد: لم تنتهِ الحكاية بعدُ. ما زال الرصاص يخترق رِياض الأطفال في جنين، والخليل، وما زالت بسطة الخضار فارغة إلّا من قنابل الغاز. وفي أزقّة المخيم هناك جندي إسرائيلي يبحث عن ضحية جديدة على رغم بروتوكولات السلام، وأكثر: يبحث عن نصّ تلموديّ يقتل من خلاله طفلاً جديداً. وما زالت أم الشهيد "ريان سليمان" ترتمي فوق جسد طفلها الصغير، وتقول للجميع: "خلوني أشوفه، خلوني أشوفه، يمّا يا حبيبي، يمّا يا قلبي".

كان خلف الجدار، الذي استُشهد عنده "محمد الدرة"، صوتُ أغنية يصدح في المكان، على رغم الرصاص، ورائحة البارود، والموت، والصراخ. وما زال هذا الصوت يصدح في مخيم جنين، ونابلس...، وسيبقى يصدح دوماً، حيث كانت هذه الأغنية تقول*:

"يا ضفتنا ثوري ثوري ويا غزتنا شدي الحيل

ويا ساعة شعبنا دوري

 لفي وغطي عتم الليل

كل الشوارع تتكلم

متاريس ودخنة وعجال

في المدينة والمخيم والقرية ورؤوس الجبال

جيل الحجارة الي حقق دوريات الاحتلال

شعبي تقدم، روحه قدم على دروب المجد الطويلة..."

*تقوع: بلدة فلسطينية في الضفة الغربية. تقع جنوبي محافظة بيت لحم، وقعت تحت الاحتلال في حرب عام 1967.

* الأغنية: للمطرب الفلسطيني "ثائر البرغوثي"، من بلدة كوبر، قضاء رام الله، وفرقة تل الزعتر، بعنوان "يا ضفتنا ثوري ثوري".