الحرب بهوية مزوّرة.. عنصرية الداخل وعلمانية الخارج

هناك ارتباط وثيق بين النص الديني اليهودي ووجود الكيان، ككيان سياسي قائم على نظرية دينية أصولية، على الرغم من محاولات التطبُّع بطابع الدولة الديموقراطية المتقدمة، والتي تحاكي روح العصر.

  • النموذج الإسرائيلي يمثّل اليوم آخر النماذج
    النموذج الإسرائيلي يمثّل اليوم آخر النماذج "الدولتية" الصارخة للفصل العنصري، وأكبرها قوةً، وأكثرها عنفاً.

خلال القرن العشرين، وبعد إحلال الكيان الإسرائيلي مكان الشعب الفلسطيني في أرض فلسطين المحتلة، كُتِب كثير من التحليلات، ووُضِع كثير من الدراسات، عن هوية الكيان الوليد، بفعل إرادة الاستعمار الغربي والظروف التي أفرزها تراكم تاريخي طويل من التوترات الاجتماعية والسياسية في الغرب، والذي جرت بنتيجته الحربان العالميتان. 

على الرغم من كل ما كُتب، فإنّ هوية الكيان بقيت ملتبسةً حتى عند الإسرائيليين أنفسهم، الذين لم يتمكّنوا من إقناع العالم بهوية كيانهم كدولة ديموقراطيةٍ متقدمة في محيط غير ديموقراطي، نظراً إلى تضارب الادعاء بشأن ذلك مع الوقائع اليومية والمستمرة، والتي تؤكد استناد الكيان إلى هوية دينية يمارس من خلالها سياسات حكم عنصرية ضد الفلسطينيين في أرضهم المحتلة، وضد الدول الأخرى التي تعادي هذا الكيان.

لقد تمّ خلق الكيان الإسرائيلي تأسيساً على وجود ديني تاريخي مزعوم لليهود في فلسطين، وعلى رواية دينية يهودية حصرية بشأن أرض الميعاد ولزوم العودة إليها وبناء هيكل سليمان المفترض. وساندت القوى المؤيدة لتأسيس الكيان، خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، هذه "الأحقيةَ" الدينية المفترضة، فيما يشبه انقلاباً تاماً على فكرة "الدولة الأمة"، وعلى السياق السائد في العلاقات الدولية في ذلك الوقت، والذي كانت قوامَه الدولةُ القومية غير الدينية. فابتكرت صيغة "الدولة القومية اليهودية"، وعلى أساسها خيضت حملة "تأسيس" الكيان في أرض فلسطين.

لكن هذه الانطلاقة لـ"الدولة"، بعد "تأسيسها" في عام 1948، لم تكن يسيرة في مختلف ظروفها، وخصوصاً في مستوى تحديد هويتها، التي بقيت منفصمةً بين ما تحاول "الدولة" ترويجه عن نفسها كدولة علمانية متقدمة، وما تمارسه يومياً، ككيان فصلٍ عنصري تقوم كل مؤسساته وآليات حكمه وتخطيطه الاستراتيجي، على أساس ديني عنصري ضيّق.

حلم الدولة اليهودية

في تموز/يوليو من عام 2019، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية تقريراً استعادت فيه نتائج أبحاث سابقة عن محاولتين لتأسيس دولة يهودية خارج فلسطين المحتلة. وبحسب هذا التقرير، فإن مردخاي مانويل نواه كان أول من حاول تأسيس دولة يهودية ذات حكمٍ ذاتي في الولايات المتحدة الأميركية في أوائل القرن التاسع عشر، وتحديداً في عام 1825، قبل أن تجري محاولة ثانية في روسيا على يد ستالين، قبل 24 عاماً من تأسيس الكيان.

وبحسب المصادر، التي يستند إليها التقرير، وهي عبارة عن مواقع ومراكز أبحاث يهودية، فإن نواه عمل على تأسيس كيان يهودي، باسم "دولة أرارات"، في بافالو في ولاية نيويورك الأميركية، يكون "ملاذا آمناً لليهود من كل أنحاء العالم"، فاشترى أراضيَ من أجل تنفيذ مشروعه، وبدأ دعوته السكان الأصليين الذين كان يعتقد أنهم من نسل قبائل بني إسرائيل المفقودة. وأرسل حاخامات ومندوبين إلى أوروبا من أجل ترويج فكرته، ودعوة اليهود إلى الهجرة إلى مدينته، غير أن دعوته لم تلقَ اهتماماً وفشلت الفكرة.

أمّا المحاولة الأخرى، والتي كُتب كثير بشأنها أيضاً، فكانت في بيروبيدجان في جنوبي شرقي روسيا قرب الحدود مع الصين، والمدينة هي المركز الإداري لمنطقة أوبلاست، ذات الحكم الذاتي اليهودي، والتي أسسها الزعيم السوفياتي ستالين عام 1934.

ويفيد تقرير "بي بي سي" بأن المستوطنين اليهود توافدوا على بيروبيدجان بدايةً من عام 1928، من أجل إقامة وطن قومي لليهود السوفيات. وعُدّت اليديشية هي اللغة الرسمية للمنطقة. ووصلت أعدادهم إلى 18 ألفاً في عام 1939. لكن هذه المحاولة لم تنجح أيضاً بسبب اصطدامها بحكم ستالين نفسه، الذي قمعها في مهدها. وبعد "تأسيس" الكيان في عام 1948، وفد إليه الآلاف من يهود تلك المنطقة.

إن ورود هاتين المحاولتين، إلى جانب محاولات الحركة الصهيونية العالمية تأسيسَ كيانٍ يهودي، تؤدي كلها إلى حقيقة واحدة مثبتة لا جدال فيها، وهي أن "تأسيس" الكيان جاء بالنسبة إلى اليهود حصراً تحت ذريعة دينية، ومن أجل هدفٍ ديني بعيد المدى، وليس نتيجة طموح سياسي للمجموعة المؤسِّسة، كون هذه المحاولات امتدت عبر قرنين من الزمن، بموازاة الأهداف السياسية والجيوسياسية للقوى التي دعمت إنشاء الكيان، والتي تلاقت مع الطموحات الدينية اليهودية من جهة، ومع ظروف علاقات اليهود بالمكونات الأخرى في المجتمعات الغربية قبل الحربين العالميتين، وخلالهما.

لكن هذه الحقيقة المؤكَّدة بشأن يهودية النشأة والتطلعات والأهداف والعقيدة المؤسِّسة للدولة، لم تُلغِ صراعاً مستمراً بين نزعتين وحاجتين لدى الإسرائيليين. الأولى هي النزعة نحو الجذور والمنطلقات والأحلام العقائدية، التي على أساسها وقف الكيان. والثانية هي الحاجة إلى الظهور في صورة "الدولة" الديموقراطية العلمانية المتقدمة، والتي تتناقض مع مشاعر دينية معادية في المحيط، ومع أنظمة حكم وشعوب لا تزال متأخرة ديموقراطياً، والقول للعالم إن "إسرائيل" هي ذلك الجزء من العالم الأول الذي يعاني حصار دول العالم الثالث المتأخرة له، واستجرار الدعم الدولي من القوى الكبرى للشريك القِيَمِي، في مقابل القوى الرجعية التي تعاديه.

لكنها مهمةٌ تبدو بالغة التعقيد بالنسبة إلى الإسرائيليين، بالنظر إلى عدم قدرتهم على الصمود والتطبّع في "برواز الدولة" العلمانية، يوماً واحداً، من دون السقوط في طبع الهوية العنصرية.

صراع فوق أساس واحد

وُلد هذا الصراع نتيجة ظروف متعددة، بعضها مرتبط بتفاعلات مكونات الكيان من الداخل، وبعضها الآخر مرتبط بعلاقاته بالخارج، ومصالحه الاستراتيجية التي تحتم عليه مراعاة السياق السائد في العلاقات الدولية، وعدم البقاء كياناً منعزلاً يصعب الدفاع عن خياراته، في حين أن سائر دول العالم تنحو في اتجاه التكوين التعددي الذي لا يرفض الآخر. 

فالنموذج الإسرائيلي يمثّل اليوم آخر النماذج "الدولتية" الصارخة للفصل العنصري، وأكبرها قوةً، وأكثرها عنفاً. واتخذ هذا الصراع العلماني - الديني كذلك أبعاداً مؤسساتيةً داخل الكيان، بين وزارة الشؤون الدينية والوزارات الأخرى، وبين المجلس الأعلى للحاخامات والمجالس الحاخامية مع المحكمة العليا الإسرائيلية على وجه الخصوص. وهذه الأخيرة أصدرت عدة أحكام قضائية تخالف تعاليم الشريعة اليهودية، بحسب تفسير المتدينين لها، والذين اعترضوا عليها من منطلق مخالفتها للشريعة.

وُلدت "الدولة" من أصولية ناشئة من النص الديني اليهودي ومن تمسك مؤسِّسيها به، بحيث يشير المفكر روجيه غارودي إلى أن من السِّمات المهمة للأصولية أنها ترتبط دائماً بزمنٍ ماض، وتقوم على معتقد مؤسَّس في عصر سابق، بصورةٍ لا تفصل بين الحقائق الدينية والحدث التاريخي، حين يتحوّل إلى مستند للتدليل والبرهنة على قيمة أفكار الحاضر. وإن هذا الارتباط بالماضي ليس ارتباطاً تاريخياً، كسائر ظواهرنا المعاصرة، إنما الارتباط عبارة عن تحوُّل الحدث التاريخي إلى نصٍّ ديني، ويجري استمداد المقولات والأفكار منه. وبذلك، يتحوَّل ذلك الماضي إلى أنموذج يُفرض على أتباع تلك الاتجاهات وأنماط الفهم الخاص للمعتقدات والأفعال، وجعل ذلك كلّه معياراً للحاضر، ودليلاً للمواقف إزاء الأفكار والآراء والنظريات المعاصرة في مجالات بناء الإنسان و"الدولة".

ولا تزال النصوص الدينية اليهودية هي المحرّك الأساس للكيان، بصرف النظر عن التحولات التي تحدث على مستوى تديّن الأجيال الجديدة، والتي تحذّر المؤسسة الدينية الإسرائيلية من انخفاض مستوى التدين لدى الشباب فيها. فالمؤسسة الدينية، ومعها "الدولة"، تتعاطيان مع الرواية الدينية اليهودية وأساطيرها على أنها حقائق نهائية ثابتة. وعلى مستوى الإطار الجغرافي للكيان، فإن النظرية الدينية التي يعتنقها هذا الأخير تقوم على تفضيل الله شعبَ "إسرائيل" على سائر الشعوب، وهي تسند حدودها إلى النصوص الدينية، كما في النص الوارد في "سِفر الخروج"، بحيث يرد أنّ الله قال ليعقوب: "أنا الله إله أبيك. لا تخَفْ أن تنزل إلى مصر، فسأجعلك أمة عظيمة هناك". والإسرائيليون يُنسَبون إلى يعقوب، الذي سمّوه إسرائيل. وهم يعتقدون أن التوراة خالدة وثابتة، وأنهم شعب التوراة، الذي يشكّل كل شيء بالنسبة إليهم. كما يعتقدون أن التوراة أقدم من هذا العالم، ولأجله خلق الله الدنيا. وبعد التوراة يُعَدّ التلمود (جُمع من الروايات التي تناقلها الحاخامات شفهياً من جيل إلى جيل) النصَّ المرجعي الثاني.

النصوص الدينية أساساً لكيان أصولي

من النصوص التي تستند إليها النظرية اليهودية، التي تقوم عليها "الدولة"، ما جاء في التلمود، ويقول إن "الإسرائيلي معتبَر عند الله أكثر من الملائكة"، و"إن اليهودي جزء من الله ومن ضربه فقد ضرب العزّة الإلهية"، وإن "الفرق بين اليهودي وغيره كالفرق بين الإنسان والحيوان"، وإن له "أن يُطعم الكلب وليس له أن يُطعم غير اليهودي".

وأبعد من هذه النصوص، التي توضح جذور الممارسات الإسرائيلية اليوم مع كل الآخرين، وخصوصاً في فلسطين ومحيطها، ما ورد في التلمود، ويشكّل أساس النظرية السياسية الاستراتيجية، التي يحدِّد الكيان على أساسها صداقاته وعداواته؛ والذي (ما ورد في التلمود) يرى أن غير اليهود هم بالضرورة أعداء لليهود، وأن على اليهود أن "يغشوا من سواهم ويقتلوهم"، وأنهم "لا يجوز لهم تحية غير اليهود ما لم يخشوا شرهم".

وكأساس لسرقة الأرض وما عليها، يستند الكيان إلى نص التلمود الذي يقول إن اليهود - تبعاً لله - يملكون كل ما في الأرض من ثراء، ولا يملك غيرهم شيئاً. فلو سرق اليهودي مال غير اليهودي، فهذا يعني أنه استردّ ما استُلب منه. وإن قتل غير اليهود يُعَدّ قرباناً، يقدَّم إلى الله.

أمّا في التوراة، فالنصوص لا تتباين كثيراً في إعطائها التفوق المطلق لليهود على غيرهم، بحيث جاء في "سِفر يشوع"، "الآية 11": "واستولى يشوع على كلّ مدن أولئك الملوك، وضربهم بحدّ السيف، ولم يُبْقِ على أحدٍ. أمّا السكان فضربوهم جميعاً بحدّ السيف حتّى أفنوهم، ولم يُبقوا على أحدٍ، كما أمر الربّ موسى، فهكذا أمر موسى يشوع". وفي "سِفر العدد": "وكلَّم الربّ موسى قائلاً: كلِّمْ بَنِيَّ وقل لهم: "إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان، فتطردون كل سكان الأرض من أماكنكم، وتمحون جميع تصاويرهم، وتُبيدون كلّ أجناسهم المسبوكة، وتخربون مرتفعاتهم. تملكون الأرض، وتسكنون فيها؛ لأني أعطيتكم الأرض لكي تملكوها". وبما يتيح العقاب الديني لغير اليهود، جاء في "سِفر الخروج" أنّ موسى أمر اللاويين بقتل إخوانهم وجيرانهم من عَبَدة العجل، فقتل بذلك ثلاثة آلاف رجل، اختيروا عشوائياً، كعقابٍ ديني.

إن الاستناد إلى هذه النصوص يوضّح، بصورةٍ جلية، المبادئ التي بُنيت، على أساسها، عقيدةُ التفوق الإسرائيلية التي يمارسها الكيان، والتي تفسر عدم التراجع أو الندم عن أي من جرائمه، طوال أكثر من سبعين عاماً على "تأسيسه"، والذهاب في كل مواجهة أبعد من سابقتها في ابتكار وسائل القتل والتعذيب والتشريد والسرقة والتنكيل، بالإضافة إلى الممارسات اليومية المستمرة، التي تجعل الكيان كيانَ حربٍ دائمة خلال المواجهات، وفي اليوميات العادية.

ولتبرير سرقة فلسطين، اخترعت الأصولية اليهودية صلتها المباشرة بيهود التوراة، على الرغم من تجميعهم من كل أصقاع الأرض، ومن أعراق متعددة، الأمر الذي لا يجعلهم أمة واحدة يرتبطون برابطة عرقية واحدة. إلاّ أن النظرية الإسرائيلية (التي اعتمدها الكيان ومؤسِّسوه) ابتكرت رابطة دينية من الرابطة السياسية التي أُسِّس الكيان وفقاً لها، ووصلت بين هاتين الرابطتين وبين الجذر التاريخي مع يهود التوراة وشعب موسى، باعتبار أن هؤلاء هم امتداد لأولئك، وأن أرضهم هي أرض السابقين، وأن الميعاد إليها هو حقهم. ووجدوا في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الغرب، خلال القرنين الأخيرين، الظروف الملائمة لتحصيل دعم القوى الكبرى، على الرغم من كون هذه القوى كانت تسير في سياق العلمانية الشاملة، والتي لا تتَّسق مع نظريتهم الدينية.

المظهر العلماني غير المتأصل

إن هذين الأساسين، الديني والأيديولوجي، للكيان، لا يمكن الدفاع عنهما في عالمٍ انتقلت قواه الكبرى من التدين إلى العلمنة، وأصبح السياق الحاكم فيه معتمداً على القانون الوضعي بدلاً من الصراعات الدينية، وأضحت النصوص الحاكمة للعلاقات بين دوله تعتمد على النص القانوني والمعاهدات والمعايير غير الدينية.

لذلك، حاول مسؤولو الكيان المحافظة على البنية الدينية للدولة من جهة، وتغليف هذه البنية بصورة علمانية وقوانين تظهر إلى الخارج متماهيةً مع الاتجاه العالمي السائد في دول العالم الأول، بالإضافة إلى تمثّلها بأنماط الإنتاج والعلاقات الاقتصادية، كما في الدول الغربية الكبرى. وتأسست على هذا المنحى البنية السياسية للكيان، على أنه "دولة" ديموقراطية حديثة تعتمد حكم القانون، والانتخابات، وحكم الإرادة الشعبية، على الرغم من تناقض ذلك مع الفصل والتمييز العنصريين اللذين يطبعان الحياة اليومية في فلسطين المحتلة بطابعهما.

و"الصراع الديني العلماني في المجتمع اليهودي الإسرائيلي له جذور تاريخية ترجع إلى محطتين: المحطة الأولى هي وجود اليهود في مجتمعاتهم الأصلية، وهي مرحلة نتجت من التغيير الذي واجهه الغيتو اليهودي، الذي كانت تحكمه السلطة الدينية بفعل التحديث والتحرر في أثناء بروز الدول الحديثة، ومنحها المواطنة لكل الرعايا على الأساس القومي، بدلاً من الديني، وترجع إلى العلاقة التي ازدادت توتراً بين رجال الدين اليهود والمفكّرين اليهود الذين تخرجوا من الجامعات العلمانية في أوروبا الشرقية وألمانيا، والذين شكّلوا حركة الاستنارة، أو "هاسكالا". لقد دعا هؤلاء إلى الانفتاح على المجتمع والاندماج في الدول التي ينتمون إليها، وإجراء تعديلات واجتهادات في الشريعة اليهودية، ومراجعة نقدية في النصوص الدينية، تبلورت في الحركات الدينية الإصلاحية والمحافظة، والتي أكدت الجانب الديني لليهودية، وعارضتها اليهودية الأرثوذكسية، التي رأت في هذه التيارات خروجا على تعاليم التلمود وكبار الربانيين"... و"المحطة الثانية ارتبطت بظهور الحركة الصهيونية التي عارضتها الجماعات الدينية اليهودية في شرقي أوروبا".

وعلى الرغم من محاولة التطبع بالمظهر العلماني، فإن أغلبية رموز الدولة هي رموز دينية بوضوح، أو ذات مصدر ديني، كالشمعدان، ونجمة داوود، والخطين الأزرقين في العلَم الإسرائيلي، واللذين يرمزان إلى "الطاليت"، وهو الرداء الذي يجعله اليهودي على رأسه في أثناء الصلاة، بالإضافة إلى إشارته إلى الموقع الجغرافي بين النيل والفرات. كما أن الأعياد الوطنية هي، في ذاتها، أعياد دينية، ومن أبرزها عيد السنة اليهودية وعيد الفصح...

لكن الملاحظة الأبرز، والتي يمكن استنتاجها في سياق هذا الصراع، تبقى أن الخلاف القائم بين فكرتي يهودية الدولة وعلمنتها يتمحور حول درجة تأييد الدولة للمؤسسات الدينية وأدوارها، وليس بين التأييد وعدمه، الأمر الذي يجعل الاتجاه الديني في "الدولة" والجيش -وهي "دولة" تقوم على الجيش - هو أن اليهودية هي الأساس الذي قام عليه الكيان، وبها يستمر، ومن دونها لن يكون له أي وجود أو مبرر للبقاء. وهذا ما يذهب إليه غارودي في قوله إن "الحركة الصهيونية لا يمكن أن تتماسك إلاّ بالعودة إلى الموزاييك الديني. احذُفوا مفاهيم الشعب المختار وأرض الميعاد فستنهار أسس الصهيونية… إن ضرورة الترابط الداخلي للبنية الصهيونية لإسرائيل فرضت على قادتها تعزيز سلطة رجال الدين. فإقرار الدروس الدينية الإلزامية، في مناهج الدراسة مثلاً، لم يأتِ من الأحزاب الدينية مباشرة، وإنما جاء بضغط مارسه بن غوريون على حزبه، الماباي".

هذه المعطيات تجعل المتمسكين الفعليين بعلمانية الدولة يدركون أن تطلعهم إلى دولة غير دينية، سيغيّر الفكرة التي قام عليها الكيان، وسيغيّر طبيعته الديموغرافية، ثم تالياً، على مدى أبعد، سيُعيده فلسطين بدلاً من "إسرائيل" الحالية.