من أستانة إلى سوتشي فالقمّة العربيّة... الحلّ بيد إردوغان

جاء بيان القمّة العربيّة الأخير الذي لم يستهدف التدخّل التركي في سوريا وليبيا بشكل مباشر أو غير مباشر ليشجّع الرئيس إردوغان على الاستمرار في موقفه الرافض لأيّ حلّ نهائيّ في سوريا.

  • من أستانة إلى سوتشي فالقمّة العربيّة... الحلّ بيد إردوغان
    من أستانة إلى سوتشي فالقمّة العربيّة... الحلّ بيد إردوغان

بعد أن أضاء الرئيس بوتين الضوء الأخضر للقوات التركية لاجتياح الأراضي السورية في منطقة جرابلس في 24 آب/أغسطس 2016، وهو ما صادف الذكرى الـ 500 لمعركة مرج دابق التي دخل منها السلطان سليم سوريا. أصبح الرئيس إردوغان اللاعب الرئيسي في مجمل تطوّرات الملف السوري عسكرياً كان أم دبلوماسياً أو استخباراتياً، بل وحتى شعبياً، عبر 4 ملايين من اللاجئين السوريين في تركيا، وعدد مماثل من السوريين الذين يعيشون في المناطق التي تسيطر عليها القوات التركية وهي نحو 10% من مساحة سوريا.

ومع التذكير بالدور الذي أدّته أنقرة في الأزمة السورية منذ بداية الأحداث بالتنسيق والتعاون مع أنظمة الخليج والعواصم الغربية فقد بات واضحاً أن الحل في سوريا لا ولن يتحقّق إلا بإرادة الرئيس إردوغان. طالما أن الجميع يتهرّب من الضغط عليه أو إجباره للانسحاب من سوريا ووضع حد نهائي لدعمه للمجموعات المسلحة أو ما يسمّى بالجيش الوطني السوري الذي تأسس في أنقرة في تشرين الأول/أكتوبر 2019.

وجاء فشل مسار أستانة في جولته العشرين ولم يخرج بقرارات ملزمة ليثبت هذه الحقيقة التي أثبتتها كلّ اتفاقيات سوتشي وموسكو التي ساعدت دمشق على بسط سيطرتها على البعض من المساحات السورية في الوسط والجنوب، والبعض منها عبر المصالحات الوطنية بوساطة روسية، إلا أنها ساعدت أنقرة لترسيخ وجودها داخل سوريا.

ومن دون أن تكون كلّ هذه الفعاليات كافية لحسم ملف إدلب التي كانت وما زالت تحت حماية القوات التركية التي تمنع على الجيش السوري المدعوم روسياً وإيرانياً الاقتراب من المنطقة، على الرغم من كل ما يقال عن "تفاهمات" جدية بين أنقرة وكلّ من موسكو وطهران في إطار مسار أستانة وسوتشي، بل وحتى القمم الثلاثية في موسكو وأنقرة وطهران.

ومن دون أن تساهم مشاركة الرئيس الأسد في القمة العربية في التأثير على الموقف التركي الرافض لتقديم أيّ تنازلات، بعد أن تردّدت العواصم العربية في الانفتاح الصادق والجدي والعملي على دمشق، التي لا يفكّر أيّ من الزعماء العرب بزيارتها خوفاً من "بطش" الأميركيين، بل وحتى الأوربيين الذين "استنكروا" الانفتاح العربيّ على سوريا، وهو ما كان سبباً لإلغاء الاجتماع بين الجانبين في بروكسل الأسبوع الماضي.

وجاء بيان القمّة العربية الأخير الذي لم يستهدف التدخّل التركي في سوريا وليبيا بشكل مباشر أو غير مباشر ليشجّع الرئيس إردوغان على الاستمرار في موقفه الرافض لأيّ حلّ نهائي في سوريا، إذا لم يضمن له مثل هذا الحل حساباته التي وضعها منذ اليوم الأوّل لتدخّله هناك صيف 2011.

وجاء تعيين رئيس المخابرات هاكان فيدان وزيراً للخارجية ليعكس إرادة إردوغان هذه طالما أنّ فيدان كان وما زال المسؤول الأول والأخير عن الملف السوري بأدقّ تفاصيله، وسيبقى هكذا وهذه المرّة عبر الجهاز الدبلوماسيّ والعسكريّ معاً.

ويعرف الجميع مدى تعقيد قضية اللاجئين السوريين بانعكاساتها الأمنية والاجتماعية على الداخل التركي، وصعوبة حلّها من دون الموافقة التركية على ذلك، وعلى إعادة إعمار الاقتصاد والمدن والقرى والبنية التحتية بدعم من أنظمة الخليج والمجتمع الدولي وهو منشغل الآن بالأزمة الأوكرانية.

ويعرف الجميع أيضاً أن ما يهمّ أنقرة بالدرجة الأولى في الملف السوري هو الموضوع الكردي، أي الوضع في شمال شرق سوريا. طالما أن هذا الوضع ينعكس وسينعكس بشكل خطير على الأمن الوطني والقومي لتركيا، باعتبار أنّ وحدات حماية الشعب الكردية هناك هي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي وهي مدعومة من واشنطن وعواصم الحلف الأطلسي التي تمنع قيادات هذه الوحدات من المصالحة مع دمشق.

ومع المعلومات التي تتحدث بين الحين والحين عن وساطات أميركية لتحقيق المصالحة بين أنقرة وقسد بجناحه الكرديّ، لما لذلك من علاقة مباشرة بالملف الكردي داخل تركيا، إلا أنّ الجميع يعرف أن قرار الرئيس إردوغان في هذا المجال يعتمد بالدرجة الأولى على موازين القوى الإقليمية والدولية ويعتقد أنها ما زالت لصالحه.

وقد يكون إردوغان على حقّ طالما أنّ الجميع في الشرق والغرب والشمال والجنوب يتهرّب من مضايقته بعد أن انتصر في الانتخابات الأخيرة، والجميع بحاجة لهذا البلد بموقعه الاستراتيجي المهم وإردوغان أدرى بذلك أكثر من الآخرين.

وهذا هو سرّ رفض الرئيس إردوغان المطالب والشروط السورية للمصالحة التي يسعى من أجلها الرئيس بوتين منذ فترة طويلة وانضم إليه لاحقاً الرئيس الإيراني رئيسي. ويراقبان معاً من دون شكّ سلوك الرئيس إردوغان وسياساته الإقليمية والدولية. ولا يخفي الإعلام الروسي والإيراني بين الحين والحين قلقه من هذه السياسات خاصة في القوقاز وآسيا الوسطى المجاورة لروسيا وإيران ويهتم بها الكيان الصهيوني عن كثب، كما هو الحال في الجارة الشمالية لإيران أي أذربيجان وهي الحليف الاستراتيجي لتركيا.

وبالعودة إلى سوريا التي يعاني شعبها من أخطر أزماته الاقتصادية والمالية بانعكاسات ذلك على الواقع الاجتماعي والإنساني الخطير بكل المعايير والمقاييس التي لا يبالي بها أحد في المنطقة وخارجها، فقد بات واضحاً أنّ الحلّ لهذه المأساة ليس قريباً، وهو مرهون أوّلاً وأخيراً بقرار الرئيس إردوغان الذي يريد للحل أن يضمن مصالحه وحساباته التي قنّنها في مسار أستانة، ومن قبله في القرار الأممي 2254 (كانون الأول/ديسمبر 2015) وعبّر الزعماء العرب في قمّة جدّة التزامهم به.

وشجّع ذلك الرئيس إردوغان للاستمرار في سياساته الحالية سورياً وليبياً وعراقياً وعربياً وإقليمياً عموماً، طالما هو يعي جيداً أنّ الرئيس بوتين بحاجة له إقليمياً ودولياً بسبب الأوراق التي يملكها في مساوماته مع الجميع. وبات واضحاً أنّ هؤلاء الجميع يسعون لإقناع الرئيس إردوغان للقبول بالحد الأدنى من المطالب السورية مقابل مساعدات مالية عاجلة من السعودية والإمارات وقطر ومواقفها ما زالت غامضة بسبب تشابك علاقاتها الإقليمية والدولية المعروفة والتخلّي عنها لا ولن يكن سهلاً. وإلّا كيف ستقنع موسكو وطهران (في أستانة) ومعها العواصم العربية الرئيس إردوغان بتلبية المطالب والشروط السورية وهي:

- سحب القوات التركية من سوريا.

-وضع حد نهائيّ لكلّ أنواع الدعم المالي والعسكري والسياسي لقوى المعارضة والفصائل المسلحة السورية.

- عدم الاعتراض على العمل العسكري السوري في إدلب.

- الحوار والتنسيق والعمل المشترك مع دمشق لإعادة النازحين إلى وطنهم ومعالجة كل مشاكلهم، وهي صعبة ومعقّدة جداً.

- الحوار والتنسيق والعمل المشترك لمعالجة الوضع المعقّد والصعب والخطير في شمال شرق سوريا.

ويتذكّر الجميع كيف أن إردوغان وباقي المسؤولين الأتراك قد رفضوها بشكل أو بآخر، ووضعوا لتلبيتها العديد من الشروط، بما في ذلك تطبيق القرار الأممي 2254 وهو السبب الرئيسي في إطالة الأزمة السورية بعد 2015. 

وسيبقى الأمر هكذا طالما أن المعطيات السورية والإقليمية والدولية لصالح الحسابات والمشاريع التركية التي دخل إردوغان من أجلها سوريا. ويبدو واضحاً أنه أي إردوغان لا يفكّر بالخروج منها إلا بعد ضمان بقائه هناك حتى بعد الخروج إن لم يكن عسكرياً فليكن استخباراتياً واقتصادياً ومالياً ودينياً ومذهبياً واجتماعياً ونفسياً. وهو ما تحقّق له طيلة الـ 12 سنة الماضية، ويريد لها أن تكون ضمانته العملية للبقاء لأكثر من ذلك.