استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى

رحم الله أسير فلسطين الشيخ الشهيد خضر عدنان، ويظل السؤال عما إذا كانت شهادته ستكون دافعاً إلى فك أسر رفاقه من الأسرى؟

  • استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى
    استشهاد خضر عدنان وملف تبادل الأسرى

سيسجِّل التاريخ اسم الشيخ الشهيد خضر عدنان رمزاً لقوة الإرادة والتحمُّل، وأيقونةً للتمرُّد على سلاسل الأَسْر. فحقاً صدق فيه قول الشاعر عبد الرحيم محمود "فإمَّا حياةٌ تسر الصديق وإمَّا مماتٌ يغيظ العدا"، فهذا الرجل، الذي أُسِر عدّة مراتٍ، وخاض خلالها نحو ستّة إضراباتٍ متفرقةٍ عن الطعام، استمر آخرها قرابة ثلاثة أشهرٍ عصيبةٍ انتهت باستشهاده، استحّق أن يصير رمزاً لنضالات الأسرى الفلسطينيين وعذاباتهم، فلا استطاع تكرار الأَسْر كسر عزيمته، ولا فتَّتت 295 يوماً من الإضرابات المتقطعة عضضه، ولا أشغلته الحياة والعائلة عن واجبه الوطني والتزامه، دينياً وأخلاقياً، إذ كان الشيخ الشهيد يعود إلى مقارعة المغتصب في ميادين الجهاد بعد كل مرةٍ، فور خروجه من زنازين الاحتلال.

لكن رفض الاحتلال إطلاق سراح الشيخ الشهيد، على رغم 86 يوماً من الإضراب عن الطعام أفضت إلى وفاته، يحتِّم على المعنيين التوقف أمام هذه السابقة الخطيرة، ويفرض عليهم النظر في دلالاتها واستحقاقاتها، إذ تعيد هذه الحادثة التذكير بإضراب الأسرى الفلسطينيين الجماعي، والذي كان مقرراً قبيل شهر رمضان الفائت، كون قصة الشيخ الشهيد تُعَد جزءاً من قضية الأسرى الأشمل. وتعيد هذه الحادثة التذكير أيضاً بوصية الأسرى الجماعية، والتي نشروها قبيل البدء بالإضراب، وبما جاء فيها على نحوٍ غير مسبوقٍ؛ ذلك المحتوى الذي ربما لم يأخذ حقه في النقاش، وفي النظر في دلالاته، بسبب انتهاء الإضراب سريعاً في ذلك الوقت.

كانت الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال اتَّخذت بالإجماع قراراً يقضي بالدخول في إضرابٍ جماعيّ مفتوحٍ عن الطعام، تزامناً مع بداية شهر رمضان الماضي، وكان القرار، الذي اتخذه الأسرى حينها، يقضي بعدم فك الإضراب حتى تحقيق مطالبهم، وإن أدى ذلك إلى استشهادهم أجمعين.

وكتب الأسرى وصيةً جماعيةً تم نشرها، بالإضافة إلى كتابة وصاياً فرديةٍ كما يفعل الاستشهاديون تماماً. فما الأسباب التي دفعت الحركة الأسيرة إلى اتخاذ قرارٍ قاسٍ كهذا؟ ربما لكان سيؤدي إلى استشهاد بعضهم، كما حدث فعلاً مع الشيخ الشهيد خضر عدنان؟

لعل السطور الأولى من وصية الأسرى الجماعية كانت لتدلنا على إجابة عن هذا التساؤل، إذ جاء فيها أنه "بعد أن وجدنا أنفسنا وحيدين في مواجهة الموت والنسيان، نصارع المستحيل، ونحن أسرى نحارب حتى النهاية بين فكَّي كماشة الإهمال وأنياب بن غفير الاستعمارية". وتتابع الوصية بالقول: "قررنا، بناءً على الإرادات المؤمنة والمنبثقة من وهم وعينا، تحررياً وإنسانياً، بعد التوكل على الله وعلى شعبنا، أن ننطلق سهاماً من على أوتار أرواحنا المتمردة، فإما حريةٌ حمراء مخضبةٌ بالجوع والكرامة، وإمّا انتصارٌ أكيدٌ على الذات والدنيا معاً".

أشارت تلك العبارات إلى إحساسٍ لدى الأسرى بأنَّهم تُرِكوا وحيدين ومنسيين في مواجهة الموت البطيء خلف القضبان. فبعد مُضِيّ نحو عقدٍ ونيف على "صفقة الأحرار"، التي تمكنت فيها "كتائب القسام" من تحرير نحو ألف أسيرٍ، ما زال سائر الأسرى ينتظرون فك قيدهم. ولعلّ تلك الكلمات توحي بأن اليأس بدأ يتسلل إلى نفوسهم مع مرور كل عام، وهم يكابدون الزنازين. فإذا كانت "كتائب عز الدين القسام" وفصائل المقاومة الفلسطينية تمكَّنت من إتمام صفقة تبادلٍ ناجحةٍ قبل 12 عاماً، في وقتٍ كانت أضعف بمراحل مما هي عليه راهناً، فهل يصح القول إنها اليوم عاجزةٌ عن تكرار تلك التجربة بعد أن ازدادت قوتها؟ وكيف إذا ما أضيف إلى ذلك تراجع قدرة العدو؟ وتعاظم قدرات قوى المقاومة من الناحية المقابلة في الإقليم بصورة عامة؟ 

لعلّ الأسرى كانوا محقين حينما وجهوا العتب ضمناً إلى إخوانهم في فصائل المقاومة الفلسطينية، فلقد طال أمَدُ انتظارهم للوفاء بالوعد الذي كانت قطعته الفصائل على أنفسها بتحريرهم، ومعالجة هذا الملف الذي يحظى بإجماعٍ وطنيّ فلسطينيّ.

لا يصح هنا القول إن الحركة الأسيرة لا تدرك حقائق الواقع، سياسياً وميدانياً، حينما تطالب بالحرية، أو أنَّها تطلب أمراً لا يمكن تحقيقه. فعلى رغم وجود الحركة الأسيرة خلف أسوار المعتقل، فإنها ما زالت على تواصلٍ مع الخارج عبر وسائل متعدّدة، والراجح أن الحركة الأسيرة كانت لتصبر على العذابات، وما كانت لتطالب الفصائل بأمرٍ غير قابلٍ للتنفيذ، فهذه الحركة تضم رجالاً صمدوا عقوداً خلف القضبان، ولا يعوزهم الصبر حيث يلزم الصبر. 

لذلك، إذا كان عدد جنود الاحتلال، الذين تم أسرهم في معركة غزة عام 2014، لا يكفي لإنجاز صفقة تبادلٍ جديدةٍ، فربما يكون آن الأوان لتقوم المقاومة بما يلزم فعله من أجل تحريك ملف تبادل الأسرى، وإجبار العدو على الرضوخ وإنهاء هذا الملف، الذي يُعَدّ جرحاً نازفاً في الجسد الفلسطيني.

أخيراً، لا بد من الإشارة إلى أن حكومة المستوطنين المتغطرسين الحالية هذه، والتي ذهبت بعيداً في الاستقواء على الأسرى، إلى حدّ الحديث عن تعديل القوانين، على نحو يتيح للاحتلال تنفيذ عقوبة الإعدام بحقهم، كما طبَّقته فعلياً بحق الشيخ الشهيد حينما رفضت إنهاء حبسه الإداري حتى توفي، هذه الحكومة ذاتها، أو هذا الكيان الموقت بصورة عامة، تم اختبار جاهزيته للذهاب إلى الحرب أكثر من مرة مؤخراً، وكان يثبت، في كل مرة، تفاديه أي مواجهةٍ تتخطى بضع غاراتٍ جويةٍ شكليةٍ على البساتين والمناطق المفتوحة، سواءٌ أكان في غزة، أم في جنوبي لبنان، كما ظهر خلال شهر رمضان الماضي. لذلك، فالأرجح ألّا يجد العدو بدّاً من التفاوض غير المباشر لإتمام صفقة تبادل أسرى جديدةٍ من أجل استعادة جنوده الموجودين حالياً في قبضة فصائل غزة، أو أي جنودٍ آخرين يُحتمَل وقوعهم في الأسر.

رحم الله أسير فلسطين الشيخ الشهيد خضر عدنان، ويظل السؤال عما إذا كانت شهادته ستكون دافعاً إلى فك أسر رفاقه من الأسرى؟ وذلك قبل أن يسقط منهم شهداء آخرون؟ فهذا وحده الثمن المقبول لمعركة الشيخ الشهيد التي دفع حياته ثمناً لها.