الصراع المائي ومشروع "إسرائيل"

ترتبط المياه في العقيدة الصهيونية بأرض الميعاد، التي لا يمكن استيطانها وخلق هوية وثقافة جديدتين فيها إلاّ بالزراعة والاستقرار.

  • يبقى حوض نهر الأردن مصدراً مهماً للصراع المائي الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي تتعدد مظاهره وخلفياته التاريخية.
    يبقى حوض نهر الأردن مصدراً مهماً للصراع المائي الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي تتعدد مظاهره وخلفياته التاريخية.

الماء العذب هو مصدر الحياة وأساس قيام أيّ تنمية حضارية ونظام بيئي صحي واستمرار للحياة في الأرض بوجه عام. تتعرّض موارد المياه لمخاطر متعدّدة، أبرزها الطلب المتزايد، التصنيع، والهدر، فضلاً عن التبعات المنطقية لارتفاع درجة حرارة الأرض.

وفقاً للأمم المتحدة، فإن الطلب على المياه العذبة ينمو بمعدل 1% سنوياً منذ ثمانينيات القرن الماضي، الأمر الذي تسبّب بزيادة مستمرة في عدد الأقاليم المعرّضة للضغط والفقر المائيين. في الوقت الراهن، يعيش نحو مليارَي إنسان في مناطق تعاني ضغطاً مائياً كبيراً، بينما يعيش نحو 4 مليارات إنسان في أقاليم تعاني ندرة مائية حادة خلال ما لا يقل عن ثلاثين يوماً في السنة (وفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة للمياه، عام 2019).

بسبب كل تلك الاعتبارات، ارتبطت قضية المياه دائماً بمفهوم الأمن المائي، وخصوصاً في أقاليم الندرة المائية، والتي لا تخلو من صدامات سياسية، بحيث استُخدمت ورقة الأمن المائي دائماً أداةً لبسط النفوذ والسيطرة السياسية من جانب الأنظمة الحاكمة. ولمّا كانت أحواض الأنهار الدولية مصدراً للحياة لنحو 40% من سكان الكرة الأرضية، فإن مسألة الأمن المائي باتت مصدراً مهماً للتأثير في القرارين السياسي والاقتصادي لنحو نصف مساحة الكوكب، وفاعلاً رئيساً في العلاقات الدولية، بل محركاً محتملاً لكثير من الصراعات المستقبلية بين الدول التي تتعارض مصالحها المائية الكامنة في استغلال تلك الأحواض وتخصيصها.

في الشرق الأوسط، كانت تنمية الأنظمة المائية العامل الأهم تاريخياً في تحقيق التنمية وتطور الحضارة البشرية. قامت الحضارة المصرية، الممتدّة والمؤثّرة في محيطها الإقليمي، على ضفاف النيل، وقامت الحضارة العراقية على ضفاف دجلة والفرات. 

ويظل إقليم شرقي وجنوبي شرقي المتوسط واحداً من أكثر الأقاليم تعرّضاً للندرة المائية، وتوتر العلاقات المحلية والإقليمية بسبب تداعيات تلك الندرة. في عموم الأراضي الفلسطينية، اعتمد المزارعون الفلسطينيون على تساقط الأمطار غير المستقر وغير الآمن، في الوقت الذي يتمتع المزارع الإسرائيلي بنظم الريّ المنتظم الحديث والمدعّم من السلطات.

من هنا، يبقى حوض نهر الأردن مصدراً مهماً للصراع المائي الفلسطيني – الإسرائيلي، والذي تتعدد مظاهره وخلفياته التاريخية. المناخ والطبيعة الجغرافية، فضلاً عن الوضع السياسي في المنطقة، جعلت نهر الأردن مسرحاً لقضايا التوتّر والأمن المائيَّين في منطقة الشرق الأوسط. 

مصادر الماء الطبيعية في هذا الإقليم تتمثّل بالمجرى الرئيس لنهر الأردن وفروعه (الحاصباني وبانياس في مرتفعات الجولان – دان في "إسرائيل" – اليرموك في الأردن)، وكذلك بحر الجليل وعدد من آبار المياه الجوفية. تلك الآبار تكمن أساساً في خزانات جبلية أسفل الضفة الغربية، وخزانات ساحلية تحت قطاع غزة وعلى امتداد الساحل الفلسطيني، بالإضافة إلى عدد من الخزانات الصغيرة والأقل أهمية في مناطق أخرى. ومنذ حرب عام 1967 واحتلال "إسرائيل" للضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان، أصبحت النسبة العظمى من مصادر المياه الطبيعية في حوض نهر الأردن تحت سيطرة "إسرائيل"، على نحو قدّرته بعض الدراسات بـ 80% تقريباً من تلك المصادر!  

وبينما يتمثّل أصحاب المصلحة في حوض نهر الأردن في كل من المملكة الأردنية الهاشمية وسوريا وفلسطين و"إسرائيل" فضلاً عن لبنان (بصورة غير مباشِرة)، فإن الصراع المائي بين الأردن و"إسرائيل" تمّ تنظيمه، إلى حدّ ما، وفقاً لاتفاقية السلام الموقَّعة بين البلدين عام 1994. 

الأمر نفسه لا يمكن قوله فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بشأن توزيع المياه وحصصها في حوض نهر الأردن وآبار المياه الجوفية المشتركة، وبشأن تلوّث المياه في الضفة الغربية و"إسرائيل"، وبشأن مشاريع البنية الأساسية للمياه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديداً بشأن من يمتلك الحق في إنشاء تلك البنية وصيانتها.

النمط الحالي لتوزيع المياه بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني يعكس توزيعاً غير متماثل للسيطرة، ثم للاستخدام. فبينما يقلّ نصيب المواطن الفلسطيني عن 100 لتر من المياه يومياً للاستخدام المنزلي، يزيد نصيب "المواطن الإسرائيلي"، بمن في ذلك المستوطنون، على ثلاثة أمثال هذا القَدْر. تجدر الإشارة هنا إلى أن نحو 20% من الفلسطينيّين غير موصّلة بيوتهم بشبكات للمياه الصالحة للشرب، الأمر الذي يجعلهم أكثر اعتماداً على خزانات المياه الأغلى ثمناً، والتي تجعلهم يتحمّلون واحدة من أكبر فواتير المياه في المنطقة. 

وإذا كانت قضية المياه تم تضمينها في معاهدة السلام، السابقة الإشارة إليها، بين الأردن و"إسرائيل"، فيما يتعلق بحصص المياه من نهري الأردن واليرموك وتوزيعها، فإن تلك المعاهدة تخلو من أيّ إشارة إلى الفلسطينيين وحقوقهم المائية، بل إن محادثات السلام المتعددة، ومنها محادثات أوسلو، على سبيل المثال، نتج منها تشكيل كيانات ولجان ثنائية لتناول المسائل المائية، لم يتمتع فيها الأعضاء الفلسطينيون بالحقوق ذاتها التي ظلت (عملياً) حكراً على الجانب الإسرائيلي، ومنها حقوق الاعتراض على إقامة مشاريع البنية الأساسية المتعلقة بالمياه. وعليه، فلا يجب النظر إلى الصراع المائي الفلسطيني - الإسرائيلي بمعزل عن المنظور الشامل للصراع بين الطرفين، سياسياً وعسكرياً وتاريخياً.

ثمّ إن سيطرة "إسرائيل" على الجانب الأعظم من مصادر المياه الصالحة للشرب، وركونها إلى مراكز التفاوض المتعددة، التي تمنحها سلطة الاعتراض على مشاريع البنية الأساسية من دون الفلسطينيين، الأمر الذي يُعَدّ من أبرز أسباب ندرة المياه في الضفة الغربية.. كل ذلك يجعل الصراع المائي قضية وجود بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني. لا يمكن أن يحافظ الشعب الفلسطيني على مستويات معيشة آدمية، أو يحقق معدلات نمو اقتصادي معتدلة، في ظل أزمته المائية الراهنة.

بالنسبة إلى "إسرائيل"، فإن قضية الأمن المائي مرتبطة بأهمية الزراعة والاستيطان، وخلق هوية إسرائيلية يهودية في الأراضي المحتلة. المياه ارتبطت، في العقيدة الصهيونية، بأرض الميعاد، التي لا يمكن استيطانها وخلق هوية وثقافة جديدتين فيها، من جانب شعوب مهاجرة، إلاّ بالزراعة والاستقرار المرتبط بالنشاط الزراعي. التوراة يحكي عن الحلّ الإلهي لأزمة ندرة المياه، وكيف ضرب موسى بعصاه لينشق الحجر عن عيون الماء، التي جعل الله استقرار الأسباط حولها أمراً حتمياً ناشئاً عن تلك العلاقة السببية بين العمران ووفرة المياه الصالحة للشرب والزراعة.

من هنا، كانت سيطرة "إسرائيل" على مصادر المياه الصالحة للاستخدام نابعة من رغبتها في تحقيق أمنها المائي، المرتكز على ركيزتَي الزراعة والاستقرار، وتحقيق تلك السيطرة من خلال بسط النفوذ العسكري على تلك المصادر، لأن أي فقدان لتلك السيطرة يهدد الوجود الإسرائيلي، كما ترسمه سياسة "الدولة". وتجسَّدت أبرز ملامح التعامل الإسرائيلي مع قضية الأمن المائي في تصاعد حدة التوتر مع سوريا خلال فترتي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

مصادر المياه الطبيعية في منطقة حوض نهر الأردن شحيحة للغاية، وفي حاجة دائمة إلى الحماية والتنمية من أجل المحافظة على مستويات المعيشة لسكان تلك المنطقة، الأمر الذي جعل بعض المنظمات والجهات الدولية تنادي بالابتعاد عن الطرح المحلي لقضية الأمن المائي، واعتماد طرح جديد يقوم على تحقيق الأمن المائي لمختلف شعوب المنطقة، وعلى سلامة البيئة، في مفهومها الشامل المحقق للاستدامة والبقاء للجميع. منذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ تحوّل جزئي من الاهتمام بكمية المياه إلى جودة المياه المتاحة للاستخدام، وخصوصاً مع زيادة كمية المياه المعالَجة، والتي تتم تحليتها بعد تقدّم تكنولوجيا معالجة المياه وتحليتها.

النظرة الفلسطينية شديدة التوجس من مخاطر ندرة المياه وعدم كفاية الحد الأدنى منها في تلبية حاجات السكان، بينما هناك شبه إجماع على أن "إسرائيل" لم تعد تعاني أبداً أيَّ مخاطر تتعلّق بندرة المياه في الوقت الراهن، أو في المستقبل المنظور، وخصوصاً بعد تبنّيها سياسات مائية محكمة، واتِّباعها أنظمة متطورة في إدارة الموارد المائية. 

يعترف الناشطون الإسرائيليون بأن السياسات الإسرائيلية مسؤولة عن أزمة المياه، جنباً إلى جنب مع العوامل الديمغرافية والبيئية وهشاشة المنطقة إزاء التلوث. النقص الحاد في إمدادات المياه في الضفة الغربية المحتلة يوصف بأنه نتيجة مباشرة لسيطرة "إسرائيل" على موارد المياه، وعدم اعتزام سلطات الاحتلال الإسرائيلي اقتسامَ المياه مع الفلسطينيين بعدالة، فضلاً عن تقييدها إقامة أيّ مشاريع تخص المياه في الضفة الغربية. من هنا، تظل الحكومة الإسرائيلية مسؤولة أيضاً عن تراجع جودة المياه في هذا الإقليم.

نجحت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، بالتعاون مع القطاع الخاص، في تدشين عدد من المبادرات المتعلقة بإدارة المياه على مختلف الأراضي الواقعة تحت سيطرتها. من هذه المبادرات، حلولُ التخزين، نقل المياه عبر محطات الضخّ والجاذبية الأرضية، حفارات المياه، مراقبة جودة المياه والتحكّم في ذلك، تجميع مياه الصرف ومعالجتها. كذلك، حقق الإسرائيليون طفرة كبيرة في مجال تحلية المياه والتوعية بشأن المحافظة على المياه، وتحديث نظم الري، وسياسة تسعير المياه، وإعادة التدوير. وشرعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي في إقامة إطار قانوني وتنظيمي شامل وتطبيقه من أجل إدارة قطاع مائي يتمتع بالكفاءة.

السياسة الإسرائيلية المائية تدرك تراجع نصيب الفرد من مصادر المياه الطبيعية المتجددة، من 504 أمتار مكعبة عام 1967 إلى 98 متراً مكعباً عام 2015، وهو العام الذي بلغ فيه إجمالي الطلب على المياه في "إسرائيل" 2.2 مليار متر مكعب، بينما كان المتوسط السنوي للمياه التي تصب في بحر الجليل، خلال السنوات العشر السابقة لهذا التاريخ، يقل قليلاً عن 1.2 مليار متر مكعب. 

هناك، إذاً، فجوة كبيرة بين الطلب والمعروض من مصادر المياه الطبيعية، تصل إلى نحو مليار متر مكعب. ونجحت "إسرائيل" في سدّ تلك الفجوة بصورة مستقرة ومستدامة عن طريق توفير المياه، وإعادة الاستخدام، وتحلية المياه بما يزيد على مليار متر مكعب سنوياً. ونتيجة لذلك، لم تعد "إسرائيل" تعتمد، بصورة حصرية، على المياه الطبيعية المتجددة مصدراً للمياه. لكن، مع تزايد أعداد السكان وارتفاع مستويات المعيشة، هناك طلب متزايد على المياه، يقابله تراجع في المعروض من المياه الطبيعية المتجددة نتيجة لتغير المناخ، الأمر الذي قُدّر معه تراجع معدلات تساقط الأمطار بنسبة تتراوح بين 10 و15%، كل ثلاثة عقود.

يُتوقَّع أن يصل حجم الطلب على المياه عام 2050 إلى نحو 3.5 مليارات متر مكعب سنوياً مع تراجع مصادر المياه الطبيعية المتجددة إلى ما دون 1.1 مليار متر مكعب سنوياً، تاركة فجوة حجمها 2.4 مليار متر مكعب (أكثر من مثلي حجم الفجوة في عام 2015). وبالتالي، فإن السلطات الإسرائيلية سوف تستمر في توفير المياه وإعادة استخدامها وتحليتها، على النحو الذي يسدّ تلك الفجوة. 

أمّا بشأن نوعية المياه وجودتها، فأعلنت "إسرائيل" تبنّيَها أعلى معايير الجودة الدولية، التي وضعتها هيئة حماية البيئة التابعة للأمم المتحدة، ومنظمة الصحة العالمية، والاتحاد الأوروبي، مع زيادة نسبة المياه المحلاة وايصالها إلى الشبكة القومية على نحو يحسّن جودة المياه الصالحة للشرب بصورة عامة، الأمر الذي يجعل مياه الصنبور صالحة للشرب في أي مكان داخل الأراضي التابعة لحكم "إسرائيل". كما أن المعايير الدقيقة التي تُستخدم في معالجة مياه الصرف تجعل منه آمناً للاستخدام بأيّ كميات، في الريّ الزراعي وريّ الحدائق العامة والخاصة. 

من ناحية أخرى، توقفت حكومة "إسرائيل" عن دعم المياه للمستهلك منذ عام 2008، الأمر الذي يجعل قطاع المياه مستقراً من الناحية الاقتصادية، بحيث تغطي أسعارها المفروضة على المستهلك النهائي كل التكاليف الاستثمارية وتكاليف الصيانة المطلوبة. ولأن الزراعة تشكل عنصر الطلب الأكبر على المياه في "إسرائيل" بنسبة تزيد على 50% (تصل إلى 70-80% في بعض الدول)، كان الاهتمام منذ نحو خمسة عقود بتطوير شبكات الري واستحداث الري بالتنقيط، والذي وفّر نحو 30% من حجم المياه المطلوبة من القطاع الزراعي. 

على صعيد آخر، دشّنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي، في عام 1999، برنامجاً ضخماً طويل الأجل لتحلية المياه لمواجهة الجفاف الذي بدأت تداعياته في الظهور منذ منتصف التسعينيات. 

وفي عام 2003، تم تأسيس أول منشأة كبيرة الحجم لتحلية المياه (بطاقة 120 مليون متر مكعب/سنة) بالشراكة مع القطاع الخاص. وارتفع المستهدف من المياه المحلاة، في أعقاب سنوات من الجفاف، إلى 505 ملايين متر مكعب/سنة بحلول عام 2013، ثم إلى 750 مليون متر مكعب/سنة بحلول عام 2020، وذلك من كلّ من بحر الجليل والبحر الميت والبحر الأحمر والبحر المتوسط. وتضع "إسرائيل" مخططات عملاقة لتحلية المياه من البحر الميت بعد ضخ نحو 300 مليون متر مكعب من المياه من البحر الأحمر، الأمر الذي سوف تواجهه، بكل تأكيد، تحديات سياسية وبيئية كبيرة.

التجربة الإسرائيلية، في مجال تحقيق الاستغلال الأمثل من الموارد المائية، يجب النظر إليها بمعزل عن وضع السيطرة على الموارد المائية، والناتج من سياسات استعمارية أو استيطانية.