تغيّر المناخ وانعكاسه على الصراعات في الشرق الأوسط (2-2)

توضح الدراسات أنَّ التداخل بين واقع المناخ والوضع الأمني يؤدي إلى تصميم مشهد جغرافي سياسي جديد.

  • مجتمعات الاستخبارات العالميّة لا تنظر إلى القضية باعتبارها تهديداً فحسب، بل أيضاً من زاوية الفرص.
    مجتمعات الاستخبارات العالميّة لا تنظر إلى القضية باعتبارها تهديداً فحسب، بل أيضاً من زاوية الفرص.

تشير مجموعة من الدراسات وما يقترن بها من تقديرات استشرافية إلى أن تغيّر الظروف المناخية بإمكانه تهديد أمن الدول وتعزيز احتمال نشوب الصراعات. عدد غير قليل من البحوث يشير إلى وجود علاقات بين تغيّر المناخ وعدم استقرار هطول الأمطار والنزاعات. وثمة تقارير أخرى توضح أن التداخل بين وقع المناخ والوضع الأمني يؤدي إلى تصميم مشهد جغرافي سياسي جديد.

مؤتمر باريس للمناخ الذي عُقد في أواخر العام 2015 كان قد أكّد التداخل المتصاعد بين تهديدات الأمن التقليدي ذات الطابع الأمني والعسكري التي تتمحور حول الدول، وتهديدات الأمن غير التقليدي، البيئي والمجتمعي والإنساني، التي تتمحور حول المجتمعات والأفراد.

وكتعبير عن هذا التداخل، أكدت  دراسة صادرة عن "معهد السلام الأميركي" في العام 2011، أن نشأة تنظيم "بوكو حرام" في نيجيريا، على سبيل المثال، ترجع إلى التحولات البيئية وتغيّر المناخ، من دون أن تتطرّق طبعاً إلى دور الاستخبارات الغربية في استثمار المجموعات الإرهابية ورعايتها.

ويؤكد تقرير صادر عن "اليونيسكو" أنه مع مرور الزمن، وإضافة إلى الضغوط الديموغرافية والاقتصادية والسياسية القائمة، "قد ينجر عن تأثير تغيّر المناخ على الموارد الطبيعية إضعاف قدرة الدول على الحوكمة الذاتية، بما في ذلك قدرتها على الاستجابة لحاجات مواطنيها المتعلقة بتوفير الموارد الأساسية". والحال أنّ التهديد المسلّط على هذه الشرعية من شأنه أن يؤدي إلى زعزعة استقرار الدولة، ونشوب نزاعات داخلية، بل وحتى إلى انهيار الدولة.

وتقول "منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة" (الفاو) إنَّ السبب الرئيس في ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي يكمن في 3 عوامل قد تتداخل أحياناً، وهي النزاعات المسلحة والأزمات الاقتصادية والتغيرات المناخية العميقة.

ماذا تتوقّع أميركا؟

ما يدلّ على خطورة التغيّر المناخي وأهميته هو أن وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي لم تكتفِ بالإشارة إلى صعود الصين وروسيا، بل أشارت، من ضمن المواضيع الأساسية التي تمثّل تهديداً للولايات المتحدة، إلى تغيّر المناخ العالمي. وتصنّف الوثيقة أزمات المناخ على أنها من بين "أكبر التهديدات"، إلى جانب مسائل أخرى، مثل الجوائح والتهديدات الإلكترونية.

تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ مجتمعات الاستخبارات العالميّة لا تنظر إلى القضية باعتبارها تهديداً فحسب، بل أيضاً من زاوية الفرص. من هذا المنظار، يمثّل ذوبان جليد القطب الشمالي وتضاؤل الكتل الجليدية عقداً بعد آخر قضية تستحق الصراع من أجلها، لما توفّره من طرق بحرية جديدة ومصادر وفيرة وأقل صعوبة في استخراج الغاز، إلى جانب ثروات طبيعية أخرى.

تقرير "الاتجاهات العالمية" هو عبارة عن تقييم شامل يعدّه المجتمع الاستخباري الأميركي للاتجاهات الجيوسياسية العالمية، ويصدر كل 4 سنوات، بهدف وصف السيناريوهات التي قد يواجهها صانعو السياسات الأميركية خلال السنوات العشرين المقبلة.

يشير التقرير في نسخته الأخيرة إلى فقدان الاستقرار في أكثر من مكان في العالم خلال العقدين المقبلين، نتيجة تغيّر المناخ، وإلى أن التكاليف والتحديات ستتوزع بشكل غير متناسب على حساب الدول النامية، وستؤدي في موازاة التدهور البيئي إلى زيادة المخاطر على الغذاء والمياه والصحة وأمن الطاقة.

ويرى التقرير أنَّ ضعف إدارة المياه داخل الدول، وفي ما بينها، سيمثل المحرّك الرئيسي للإجهاد المائي، وأنَّ قيام دول المنبع ببناء السدود والتحكم في مصادر المياه، من دون التشاور مع دول المصبّ، سوف يزيد من مخاطر الصراع. وما يضاعف الأزمة هو انخفاض معدّل هطول الأمطار وعدم انتظامه، في ظلِّ نموّ سكانيّ واتساع الريّ والممارسات الزراعية غير الفعالة، والتي ستؤدي إلى زيادة الطلب على المياه. 

هل من رابط بين تغيّر المناخ وتفجّر الانتفاضات العربية؟

اتّجهت دراسات عديدة إلى الربط بين التغيرات المناخية وتفجّر الانتفاضات العربية. هذه العلاقة تؤكدها دراسة "الربيع العربي والتغيّر المناخي" الصّادرة عن مركز المناخ والأمن في واشنطن في العام 2013، إذ تشير إلى أنَّ إخفاق بعض دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين والتصدّي لموجات الجفاف والتصحّر ونقص إمدادات الطاقة، دفعتهم إلى المشاركة في الاحتجاجات.

دراسة أخرى بعنوان "الاقتصاد السياسي للمناخ في المنطقة العربية" صادرة في العام نفسه، توضح أنّ موجات الجفاف التي حدثت قبل العام 2011 أدّت إلى تدمير الأراضي الزراعية في شرق سوريا، ما تسبّب بنزوح سكان المناطق الريفية للبحث عن فرص للعمل في المدن الكبرى، وقيامهم بتأسيس حزام من التجمعات العشوائية الطرفية التي تحيط بالمدن الكبرى، مثل حماة وحمص ودرعا، وهو ما أسهم في تفجّر الصراع في سوريا.

الباحثة الزائرة في مركز كارنيغي-أوروبا أوليفيا لازارد لا تبتعد كثيراً عن هذا الاستنتاج، إذ تؤكّد أنّ الجفاف أدّى من دون شكّ دوراً في الانتفاضة المتعددة الأبعاد في سوريا، وترى أنّ التغيّر المناخي مرتبط بالسياسات العامة في المنطقة، وسوف يؤدي إلى تبعات هائلة ومتسارعة في السنوات المقبلة، إلى درجة قد تصبح هذه المنطقة غير صالحة للعيش خلال العقود المقبلة.

تغفل هذه الدراسات دور الصراعات الجيوسياسية وصراع المحاور والمخططات الأميركية كأسباب رئيسية تفسّر ما حدث في سوريا طيلة سنوات عشرية النار، إلا أنَّ ذلك لا يقلّل من أهمية عامل ندرة المياه التي تعود في أحد أسبابها الرئيسية إلى السدود التركية التي تتحكّم في منسوب نهري دجلة والفرات.

في العام 2014، أشار تقرير صادر عن البنك الدولي بعنوان "مواجهة الواقع المناخي الجديد" إلى أنَّ المنطقة العربية ستشهد تبخراً للموارد المائية الشحيحة، وخصوصاً في نهري دجلة والفرات ونهر الأردن وبحيرة طبريا، الأمر الذي سيؤدي إلى انخفاض غلّة المحاصيل بنسبة 30% في مصر والأردن وليبيا.

وتغلّب مجموعة من التقارير العوامل الطبيعية على العوامل السياسية، ولا سيما في سوريا، إذ يكتفي بعضها بالإشارة إلى شحّ المياه وتناقص الموارد المائية وشرح تبعاتها، من دون التوقّف عند مسبّباتها الرئيسية، من ذلك دور تركيا التي سعت إلى تطوير مواردها المائية في سبيل الوصول إلى أهدافها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد تبلور هذا الأمر في "مشروع الأناضول الكبير"، الذي يعدّ أكبر مشروع تطويري في تركيا، وجرى تعديله ليصبح موعد إكماله بحلول العام 2023، بعدما طُوّر كفكرة نهائية في العام 1977. 

وبحسب ما تؤكد تقارير مدعومة بأرقام علمية ورسمية، يعدّ "مشروع الأناضول" السبب الأساسي لشحّ المياه في نهري دجلة والفرات خلال السنوات الخمسين الماضية، ولا سيما في السنوات الأخيرة؛ فمنذ العام 1975، أي بعد بناء أول سد تركي على نهر الفرات، انخفض تدفّق المياه إلى العراق بنسبة 80%، وإلى سوريا بنسبة 40%. 

فرص للتدخل والاستثمار في ظل الصراعات الجيوسياسية

تتداخل أزمة المناخ وما يرافقها من ندرة في الموارد المائية مع المشاريع الاقتصادية والسياسية والصراعات الجيوسياسية في المنطقة. يوفّر هذا النوع من الأزمات فرصاً للتدخل والاستثمار الأمني والسياسي ضد البلد المنكوب في أمنه المائي، إذ يسمح بممارسة ضغوط سياسية وفرض إملاءات وشروط، أو مضاعفة التوترات السياسية والاجتماعية الناتجة من شحّ المياه. الأردن مثال واضح على ذلك، وكذلك إيران.

أزمة الأردن مع المياه ليست جديدة، إذ يعد ثاني أفقر دولة عالمياً في مصادر المياه. قبل نحو 5 سنوات، نشرت وكالة "ناسا"  دراسة مرفقة بصور جوية تظهر أن الأردن يعاني أسوأ موجة جفاف منذ 9 قرون. لا يقتصر الأمر على الأردن، بل يضم دولاً تقع شرق المتوسط، مثل لبنان وسوريا وتركيا وفلسطين المحتلة، إضافة إلى قبرص.

إلا أن توقيع عمان، وهي الأكثر فقراً بمصادر المياه، اتفاقية "وادي عربة" مع "إسرائيل"، لم يشفع لها ويحرّرها من الابتزاز الإسرائيلي؛ فخلال شهر آذار/ مارس المنصرم، رفض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آنذاك الاستجابة لطلب أردني مُلِح لنقل إمدادات المياه من الأراضي المحتلة إلى المملكة، على أثر الخلاف الذي تفاقم حينذاك، وتجلّى في إلغاء زيارة لولي العهد الأردني إلى الحرم القدسي، وامتناع الأردن عن الموافقة على طلب منح التصريح بعبور طائرة تقل نتنياهو للتوجه إلى الإمارات.

لم يمثّل هذا الأمر حافزاً للحكومة الأردنية في سبيل إجراء مراجعة كفيلة بالسيطرة على أمنها المائي والتحكم فيه وعدم رهن حاجتها المائية إلى "إسرائيل"، كما لا يبدو أن عمّان استخلصت العبر من المماطلة الإسرائيلية لسنوات في مشروع ناقل البحرين (الأحمر - المتوسط)، بعد تخلّي "تل أبيب" عنه في العام 2017، وعدم ردّها على الرسائل الأردنية بخصوصه، فاندفعت إلى التوقيع على اتفاق إعلان نيّات للتعاون الإقليمي في مكافحة أزمة المناخ مع "إسرائيل" والإمارات. 

يتضمّن الاتفاق إنشاء محطة طاقة شمسية ضخمة في الصحراء الأردنية لإنتاج الكهرباء لمصلحة "إسرائيل". في المقابل، يتم إنشاء منشأة خاصة على شاطئ البحر المتوسط في فلسطين المحتلة لتحلية المياه لمصلحة الأردن. 

تدفع هذه الاتفاقية الغريبة إلى السؤال عن سبب هذا الالتفاف: لماذا لا يقوم الأردن بكل بساطة بإنشاء محطة لتحلية المياه على أرضه، وتنشئ "إسرائيل" محطة شمسية في صحراء النقب؟ السبب على الأرجح هو التشبيك الاقتصادي الذي يسير مع الوقت بقوة الأمر الواقع والقوانين الناظمة للاتفاقيات، ما يؤبّد هذه التشاركية ويرسّخها، كما يحدث في اتفاقيات الغاز السابقة، ما يجعل التعاون الإلزامي مع "إسرائيل" طريقاً إجبارياً للأجيال المقبلة. 

من هذا المنطلق، يتضافر تحدّي ندرة المياه والتصحّر والأمن الغذائي مع مجموعة تحديات أخرى، مثل الحروب الاقتصادية والتطبيع بأشكاله المختلفة، وعلى رأسه التطبيع الاقتصادي.

بروباغندا على وتر الجفاف في إيران

منذ أيام، تكرّرت الاحتجاجات التي تشهدها مدينة أصفهان على خلفيّة شحّ المياه الناتج من الجفاف. وتحدّث قائد شرطة المدينة عن "انتهازيين" و"أعداء للثورة" شاركوا في أعمال العنف، فيما أشارت صحيفة "كيهان" المحافظة إلى "مرتزقة بلطجية". وقال المرشد الإيراني السيد علي خامنئي إن أزمة المياه هي أكبر مشكلة في البلاد. 

لم تكن تلك الاحتجاجات الأولى من نوعها، فخلال شهر تموز/ يوليو المنصرم، اندلعت تظاهرات مندّدة بشحّ المياه في محافظة خوزستان جنوب غرب إيران، واستمرت أياماً. اللافت في كل هذه التظاهرات مواكبتها من قبل الإعلام الغربي وبعض الإعلام العربي، مع التركيز على الجانب الطائفي أو القومي عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، وتصوير الأمر أحياناً على أنه تمييز مقصود في الخدمات من السلطات، غير أن التدقيق في المسألة يظهر أنّ نهر كارون الحيوي بدأ بالجفاف، إضافة إلى مصادر المياه الأخرى، وذلك بالنسبة إلى المنطقة التي كانت تحتوي على مياه وفيرة.

صحيفة "صنداي تايمز" أفردت مقالاً خلال تلك الفترة للحديث عن "إفلاس" إيران المائي، معتمدة على خبير إيراني يعيش في المنفى، في حين كتب مراسلها لشؤون الشرق الأوسط، ريتشارد سبنسر، مقالاً حول تكرار أزمة المياه والجفاف مؤخراً في المنطقة، من سوريا إلى العراق ولبنان، مذكّراً بأن الأزمة في الشرق الأوسط تختمر منذ سنوات، مع تحذيرات متكررة من "حروب المياه".

أما السبب الرئيس في أزمة المياه، فيعود إلى أسوأ موجة قحط تتعرض لها إيران في نصف قرن، إضافة إلى أسباب أخرى تقع في إطار وضع السياسات البيئية والزراعية الملائمة وترشيد استخدام المياه، بحسب بعض الخبراء والدراسات.

وفي نيسان/أبريل المنصرم، حذرت هيئة الأرصاد الجوية الإيرانية من "جفاف غير مسبوق"، ومن مستويات هطول الأمطار التي كانت أقل بكثير من معدلاتها المعتادة. وقدّرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة أن نحو ثلث حقول القمح في إيران تعتمد على مياه الري. لذلك، إن عدم هطول الأمطار له ثمن باهظ.

ووفقاً لمركز الأرصاد الجوية المائية في جامعة كاليفورنيا، كانت الأشهر الثلاثة الأولى من العام 2021 أقل بكثير من متوسط الهطول على مدى 40 عاماً في إيران. ووفقاً للخبراء، تعاني إيران أحد أسوأ معدلات نضوب المياه الجوفية في العالم، إلى جانب الهند والولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية والصين.

ووفقًا لشركة المياه في البلاد، انخفض تدفق المياه من السدود بنحو 60% العام الحالي، وتصنف نحو 100 مدينة باللون الأحمر كمؤشر إلى الإجهاد المائي. وتنسجم هذه المعطيات مع اقتناع لدى بعض المراقبين وتنبيههم من أن أزمة المياه ستكون إحدى الأزمات الرئيسة في المنطقة خلال العقد المقبل.

هذه الأزمات بدأت إرهاصاتها تظهر أخيراً في أكثر من مكان؛ فمنذ مدة، اتّهم بعض الصحف الإيرانية تركيا بإطلاق حرب مياه على إيران، عبر سلسلة من مشاريع بناء السدود جنوبي شرقي البلاد. وتشمل هذه السدود أجزاءً من نهر أراس، وهو ما يهدّد النهر على نحو مباشِر، وخصوصاً أنه بدأ يعاني، منذ فترة، من قلةَ المياه الواردة إليه.