حزب الله خط الدفاع الأول والأخير

استطاع الرد الصاروخي الإيراني الأوسع في تاريخ الصراع البدء بتعديل حالة الردع التي تزلزلت بدءاً من الـ 17 من الشهر الماضي من لحظة انفجار أجهزة البيجر، ولم يكن الرد وحيداً، بل كان منسّقاً من غرفة عمليات مشتركة.

  • لا تستطيع دول المحور أن تقبل بأي شكل من الأشكال التخلي عن حزب الله.
    لا تستطيع دول المحور أن تقبل بأي شكل من الأشكال التخلي عن حزب الله.

ارتفع مستوى الشكوك قبل الردّ الإيراني الواسع والكبير، وبدأت تتشكّل سرديات إعلامية ممنهجة، ترسّخت سريعاً في أذهان عامة الناس ولدى شريحة ليست بالقليلة، التي تعدّ نفسها في صف خيار المقاومة، بأنّ رحلة المقاومة في الجهاد ومقارعة المشروع الغربي الصهيوني خلال 42 عاماً قد وصلت إلى نهايتها، وخاصةً بعد الزلازل الأمنية الكبيرة التي تعرّض لها حزب الله، والتي كان أشدّها اغتيال أمينه العام السيد حسن نصر الله، مما عزَّز الشكوك وتحوّلت إلى يقينيات بأن هناك تسوية دولية قد حصلت كان ثمنها المقاومة.

شكّل حزب الله في تاريخه المديد حالة استثنائية في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني، وقد تحوّل بتجربته الفريدة على مدى أربعة عقود إلى ظاهرة لم يشهد لها عالم العرب نموذجاً بهذه الفرادة، من حيث التنظيم والبناء المؤسساتي المتكامل والقدرة على الالتصاق بواقع التحوّلات السياسية والاجتماعية للدرجة التي دفعت الشهيد ناهض حتر أن يطلق على أمينه العام لقب "قائد حركة التحرّر العربية"، بالرغم من التباين الفكري الواسع بين الشهيدين من حيث النشأة والمنطلقات الفكرية، لبيئتين مختلفتين (المسيحي الولادة واليساري النشأة والعلماني السلوك وبين المسلم الولادة والإسلامي النشأة والسلوك).

هذه الظاهرة ما كان لها أن تحقّق النجاحات المتراكمة على مدى العقود السابقة لولا توفّر عوامل ذاتية خاصة للنواة الصلبة الأولى التي شكّلت الحزب، وعوامل موضوعية وفّرتها إيران ما بعد الثورة وسوريا بعد اجتياح الكويت من قبل العراق 1990، التي اكتشفت كنزاً استراتيجياً في الصراع الإقليمي والدولي المستمر على جغرافيتها السياسية، ويمنحها دور اللاعب الإقليمي المحوري من جراء غياب الدور المصري، مما منحها هامشاً للمناورة بعد انهيار الاتحاد السوڤياتي، وبقاء الولايات المتحدة كقوة عظمى مهيمنة وحيدة على النظام العالمي. وكان القطاف الأول من جراء التحالف مع الحزب لكلّ من إيران وسوريا بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، كمؤشّر أوّلي على تقليص فارق القوة مع الكيان الصهيوني.

أفصح رئيس الوزراء الصهيوني "نتنياهو" من على منبر الأمم المتحدة وبكل صلافة، ورغم الاعتراض الكبير الذي عبّر عنه عدد كبير من رؤساء الوفود الدولية بمغادرة القاعة، عن تصوراته لمنطقة غرب آسيا بإعادة تشكيله علناً وفقاً لما يعتبره من دور لـ "إسرائيل" كعقل كلي للعالم، محدداً بالخرائط التي رفعها ما يعدّه بلاد اللعنة (لبنان وسوريا والعراق وإيران)، مقابل بلاد النعمة (إسرائيل ومصر والسودان والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية)، وهو بهذا الإفصاح أعطى الدلائل الواضحة على طبيعة الخطوات المقبلة وهو يعيش ما يعدّه نشوة الانتصار، وما تحمله من مخاطر وجودية على المنطقة، والتي لن يسلم منها أحد، حتى الدول التي أوغلت معه بعيداً بمشروعه.

يظهر بوضوح ضمن هذا الإطار العام للصورة ما يمكن أن نسمّيه الدور الأساسي للمقاومة في إفشال مشروع "العقل الإسرائيلي الكلي للعالم" من بوابة فلسطين ولبنان معاً، وهما الساحتان المشكّلتان لتصوّر مختلف لمنطقة غرب آسيا، وقد تحوّل لبنان إلى الساحة الأساسية لتحديد مسارات المنطقة المقبلة، بعد أن استطاعت "إسرائيل"  تدمير غزة بشكل شبه كامل رغم بقاء مقاومتها حتى الآن، مما يلقي بثقل المسؤولية على المقاومة في لبنان كسد أساسي وربما وحيد في مواجهة الجنون الغربي "الإسرائيلي" سيضع قدمه حيث يصل كحدود للسيطرة.

استطاع الرد الصاروخي الإيراني الأوسع في تاريخ الصراع البدء بتعديل حالة الردع التي تزلزلت بدءاً من الـ 17 من الشهر الماضي من لحظة انفجار أجهزة البيجر، ولم يكن الرد وحيداً، بل كان منسّقاً من غرفة عمليات مشتركة، بدأت بقصف مركز الموساد انطلاقاً من لبنان بصواريخ فادي 4، ومشاركة أنصار الله في اليمن بتدمير  ناقلتي نفط في البحر الأحمر كتهديد واضح لتوريدات الطاقة العالمية، ثم العملية الاستشهادية التي قام بها شابان من حركة حماس في حيفا، ليأتي الرد الصاروخي لتتبع ذلك الخسائر الدامية التي تعرّض لها "جيش" الكيان في العديسة ويارون ومارون الراس.

لا تستطيع دول المحور أن تقبل بأي شكل من الأشكال التخلي عن حزب الله، الذي وُضعَ على لائحة الإزالة الغربية كضرورة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط الجديد، في إطار الصراع الدولي المحتدم على بنية النظام الدولي، فالاستسلام للإرادة الغربية تعني الاختناق لحركات المقاومة في فلسطين المحتلة، التي تتنفّس وتتكامل مع مقاومة لبنان، مما يدفع بالإسرائيلي لاستكمال عملية الإبادة والتغيير الديموغرافي بتهجير من تبقّى من الفلسطينيين خارج غزة والضفة الغربية.

ولبنان سيكون له وجه وحيد بانتهاء الانقسام المزمن ورجحان الوجه المكمل للكيان، على حساب القوى الوطنية التي رسخت وجود لبنان ضمن الحالة المشرقية الرافضة للهيمنة الغربية و"الإسرائيلية"، بما يفتح الخاصرة الرخوة لسوريا على مصراعيها، بموازاة تحركات أميركية لفتح جبهة الجنوب على دمشق انطلاقاً من التنف والسويداء ودرعا والجولان، بالإضافة إلى جبهة الشمال، وخاصةً بعد الأنباء عن حشود عسكرية لهيئة تحرير الشام وبقية القوى الإسلامية ومن كل الجنسيات الموجودة، في جبهات ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، والأمر لا يتوقّف فقط على السوريين بل يستهدف الوجود الروسي المتموضع ضمن خارطة "نتنياهو" السوداء، والذي تأكّد من تزويد هذه المجموعات المسلحة بالطيران المسيّر الحديث بواسطة خبراء أوكرانيين عبر تركيا، وتمّ تأكيد ذلك بالهجوم الواسع الذي تعرّضت قاعدة حميميم صباح الخميس من يوم 3 تشرين الأول/أكتوبر.

وهذا بالمحصّلة سيعني انهيار المنطقة من شرق المتوسط إلى داخل إيران، التي ستخسر جبهاتها الدفاعية المتتالية بسهولة من جرّاء المشروع الإسرائيلي الغربي، وتخسر كل ما بنته من قدرات متراكمة، وخاصةً المشروع النووي الذي أصبح رمز سيادتها واستقلالها، عدا عن إمكانية تحريك الانقسام الداخلي بوجود شريحة سكانية كبيرة تعدّ الغرب نموذجها الأفضل.

ضمن هذا السياق يمكننا فهم الردّ الإيراني المنسّق ضمن إطار وحدة الساحات، الذي رسم لكل الأطراف بعد اغتيال الغرب لرمز التحرّر الثوري السيد حسن نصر الله، بالإضافة إلى ضراوة المعارك البرية التي بدأت على الحدود اللبنانية الجنوبية لفلسطين، فما تمّ إنجازه خلال أربعة عقود لا يمكن التخلي عنه بعد أن أصبح الصراع في مستوى وجودي لكل الأطراف التي لا يمكن لها أن تتراجع إلى الخلف، ولو خطوة واحدة، التي تعني الهزيمة، مما يضعنا في إطار صراع متصاعد مديد، عنوانه الأساس قدرة حزب الله على بقائه كخط دفاع أول وأخير عن كل مناهضي الهيمنة الغربية في العالم، وليس في منطقة غرب آسيا فقط، وانهياره ممنوع وبقاؤه عنوان للانتصار، وهو سيبقى. 

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.