خطاب بايدن في دورة الأمم المتحدة... باكورة التسليم بسقوط النهج الأحادي الأميركي

ما يميز هذه الدورة هو الإصرار العالمي على التحرك ضمن آليات الأمم المتحدة، بما يشبه عمل اللوبيات الهادفة إلى التأثير في عملية اتخاذ القرار داخل تلك المؤسسات الأممية. 

  • خطاب بايدن في الأمم المتحدة.
    خطاب بايدن في الأمم المتحدة.

قد يكون منطقياً التعريف بالدورة الـ78 للجمعية العامة انطلاقاً من رمزيتها كمنبر للتعبير عن مواقف الدول النامية من النظام الدولي ورفض سياسات الهيمنة التي مارستها القوى الكبرى على آليات عمل النظام الدولي والمالي؛ فالأثر العميق الذي ستتركه تلك الدورة، من حيث تأكيد التوجه العالمي نحو التعبير عن ضرورة إصلاح هيكلية المؤسسات الدولية والتركيز على ضرورة التخلص من فكرة التسليم للتوازن الذي أرساه اتفاق مالطا عام 1945 لناحية الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، فزيادة عدد أعضاء المجلس من 11 إلى 15 الذي حصل عام 1965 لم يعد كافياً لمراعاة متطلبات الواقع الدولي المعاصر، وخصوصاً في فترة ما بعد الاستقرار الذي فرضته الأحادية الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. 

ولكنَّ ذلك لا يفترض إمكانية حصر تعريف هذه الدورة من خلال رمزيتها كمنبر عالمي، لأنه لن يعبر عن كل ما تختزنه دلالاتها؛ فمن المنطق عدم قراءتها كحدث منفصل عن الواقع الدولي، إنما يجب تظهير أهميتها من خلال انعقادها في لحظة تاريخية تتقاطع فيها رمزية المكان مع توالي القمم الدولية المناهضة لآليات الهيمنة الأحادية، إضافة إلى ما يظهر على أنه مقاطعة مقصودة لقادة الدول الأعضاء في مجلس الأمن.

يقدم انعقاد هذه الدورة بعد أيام من اختتام قمة الـ77 وقمة مجموعة الـ20 في الهند، وقبلها قمة البريكس التي عُقدت في جنوب أفريقيا الشهر الماضي، دلالات واضحة على تغير المزاج الدولي، إذ إن الاعتراض على قواعد اللعبة الاقتصادية المالية والدولية لم يعد مجرد ترف سياسي أو تعبير عن خطاب ثوري رمزي يستهدف إشباع الغرائز ودغدغة العواطف، إنما تحول إلى خطة عمل توحي خطابات القادة في الأمم المتحدة بجديتها.

وإذا كانت قمة مجموعة البريكس أو منظمة شنغهاي قد أسَّست سابقاً لآليات مواجهة مستقلة من خلال تبني نموذج عمل أحادي مستقل عن آليات المؤسسات الأممية المتمثلة بمنظومة الأمم المتحدة، والخاضعة دائماً للتوجهات الأميركية، فإن ما يميز هذه الدورة هو الإصرار العالمي على التحرك ضمن آليات الأمم المتحدة، بما يشبه عمل اللوبيات الهادفة إلى التأثير في عملية اتخاذ القرار داخل تلك المؤسسات الأممية. 

إضافة إلى ذلك، على النقيض من العدد المحدود المكون لمجموعة البريكس أو شنغهاي أو حتى مجموعة الـ20، يشكل عدد الدول المشاركة في أعمال دورة الأمم المتحدة عاملاً ضاغطاً على الأمم المتحدة والتوجهات العالمية، إذ إن أي توافق لمجموعة وازنة من الدول المطالبة بالإصلاح سيضع القوى الكبرى أمام مأزق مخالفة التوجه الدولي العام الساعي لتعديل آليات عمل منظمة الأمم المتحدة والدفع باتجاه إرساء نظام دولي ديمقراطي يعيد تقييم نفسه بنفسه ويكون قادراً على تصحيح عيوبه.

وإذا عدنا إلى توالي انعقاد القمم في الأشهر الماضية، انطلاقاً من قمة مجموعة شنغهاي، وصولاً إلى دورة الأمم المتحدة الحالية وإعلان الرئيس بايدن خلالها دعمه إصلاح الأمم المتحدة وتوسيع مجلس الأمن من خلال زيادة أعضائه الدائمين وغير الدائمين، مروراً بقمتي البريكس ومجموعة العشرين ومجموعة الـ77 والقمم التي عقدتها مجموعة آسيان مع كل من الصين والولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية وكندا، من دون أن ننسى القمة الصينية العربية الأخيرة في السعودية أو حتى اجتماع القمة الذي جمع الرئيس الروسي مع زعيم كوريا الشمالية كيم جون أون، فإن القاسم المشترك الذي تمخض عن تلك القمم واللقاءات كان مرتبطاً بتوازي تقبل الجانب الأميركي فكرة انعدام قدرته على المحافظة على أسس الأحادية الأميركية الحاكمة وضرورة العمل على رسم توازنات دولية جديدة مع سعي دولي لا يمكن حصره بروسيا أو الصين أو بمجموعة محصورة من الدول، كالبرازيل أو جنوب أفريقيا أو إيران، إذ برز الخطاب الهندي في الأمم المتحدة حول ضرورة إصلاح الأمم المتحدة بما يتماشى مح حقائق القرن العشرين وضرورة ضمان تمثيل الأصوات المهمة لضرورة إرساء آليات تساعد في التأسيس لنظام دولي متعدد الأقطاب.

وفي هذا الإطار، سيكون من المشروع البحث في مدى قدرة هذه التكتلات أو القمم على الاستفادة من اللحظة الاستثنائية التي مثلها التسليم الأميركي بعدم إمكانية استمرار آلياته كأطر حاكمة للنظام الدولي ومحاولته البحث في كيفية تكييف واقعه الجديد مع طموحاته بالحفاظ على موقع متقدم في النظام الدولي المستجد. 

وإذا كانت الإشارات التي أمكن التقاطها من قمة الـ77 والصين أو قمة البريكس أو غيرها من المحطات التي أثبتت عدم الالتزام بخطوط الولايات المتحدة الأميركية الحمر قد بينت إصراراً على مواجهة الأحادية الأميركية، فإن السلوك الأميركي الذي تجسد بالقفز فوق خطوط الأحادية الحمر الاستراتيجية، لناحية مقاربة المواجهة مع روسيا وصفقاته الأخيرة مع الجمهورية الإسلامية، وصولاً إلى مشروع الممر الاقتصادي الهادف إلى مواجهة الصين، يؤكد فقدانه أدوات القوة التي ضمنت له خلال المرحلة الماضية التزاماً عالمياً بخياراته.

 من ناحية أخرى، وبدلاً من الدفع باتجاه استغلال غياب الرئيسين الروسي والصيني والتأثير في المزاج العالمي لمصلحة الإجراءات الأميركية ضدهما، جاء خطاب الرئيس الأميركي متواضعاً، وأظهر تأثراً بنتائج الحراك الدولي الرافض للأحادية، والذي لم يستثنِ دولاً كانت مصنفة ضمن ركائز الإستراتيجية الأميركية في العالم. 

وإذا ربطنا هذا التواضع بما تمخَّض عن قمة العشرين من فشل في حشد المجموعة ضد روسيا أو من خلال محاولتها تجييش المجموعة لمواجهة الصين من خلال مشروع الممر الاقتصادي الذي سيربط الهند بأوروبا عبر المملكة العربية السعودية والكيان الإسرائيلي، إضافة إلى دول أخرى، فستظهر قناعة الولايات المتحدة بعدم قدرتها على التدخل بشكل أحادي وانكفائها عن التحرك المباشر. 

وإذا كان هذا الانكفاء لا يعني بالضرورة انهيار قوتها، إذ إنها ما زالت من أهم الفواعل في النظام الدولي، فإن ما رشح عن الرئيس بايدن في دورة الأمم المتحدة الحالية يؤكد الاتجاه إلى تقبل بدء دورة جديدة للنظام الدولي.

وبناءً عليه، إذا كان من الصعوبة ادعاء تحول النظام الدولي من الأحادية إلى التعددية بشكل كامل، فإن تعدد القمم والمؤتمرات التي تجاهر بإصرار على التخلص من آثار الأحادية، معطوفة على ما يرشح من المؤتمرات التي تشكل آليات للأحادية، إضافة إلى خطاب بايدن الأخير في الأمم المتحدة، يؤكد كله خسارة الولايات المتحدة موقعها القيادي.

التأثير والريادة لم يعودا ترجمةً للتفوق والأحادية. وإذا كانت بداية القرن العشرين قد ارتبطت بمفهوم أميركي أساسه أن المهمة هي التي ترسم أطر الحلف، بما يعتبر دلالة على التفرد والأحادية الأميركية، فإن الواقع الدولي فرض على الولايات المتحدة الأميركية أن تعود لتتبنى مفهوماً تقليدياً أساسه أن الحلف هو الذي يرسم أطر المهمة، فالتسليم الأميركي بتغيير مفاهيم التعاطي مع الحلفاء، إضافة إلى توالي القمم واللقاءات الرافضة للأحادية، يؤكد واقعية خطاب بايدن وحتمية التحول في النظام الدولي من الأحادية إلى التعددية.