سياسات التمدّد التركية وهواجس مئوية "لوزان"!
لعل الحقيقة المهمة التي قد لا يختلف عليها المتابعون والمطلعون على تفاصيل الأمور وجزئياتها، هي أن إمكانية قضاء تركيا على حزب "PKK" تبدو مهمة شبه مستحيلة.
بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) ببضعة أعوام، وتحديداً في 24 تموز/يوليو 1923، تم إبرام معاهدة لوزان بين الدول الأوروبية التي كان معظمها خاضعاً لسلطة الإمبراطورية العثمانية وسطوتها ونفوذها من جانب، والدولة التركية الجديدة وريثة الإمبراطورية المنحلة من جانب آخر.
وقد كانت تلك المعاهدة تصديقاً وتأكيداً وتثبيتاً لسلسلة هزائم وانكسارات وانتكاسات سياسية وعسكرية أتت على كيان عالمي امتد إلى أكثر من 6 قرون (1299-1922)، إذ كبّلت المعاهدة تركيا بالتزامات مفتوحة الأمد، بعد أن حجمتها وسلبت منها الجزء الأكبر مما حققته من مكاسب وإنجازات طيلة القرون الستة.
ومع اقتراب حلول الذكرى المئوية - لم يبق أمامها سوى 13 شهراً - راحت الكثير من القراءات والتحليلات الاستشرافية تذهب إلى أن أنقرة متجهة إلى خلط الأوراق وقلب الموازين، مستفيدة من ظروف وأوضاع إقليمية دولية مناسبة، فضلاً عن إمكانيات وقدرات يعتقد أصحاب القرار فيها أنها تمثل فرصة جيدة لهم لاستعادة أمجاد الإمبراطورية، ولا سيما مع الحديث القائل إنَّ عمر معاهدة لوزان هو 100 عام. وبعدها، يصبح بإمكان أي طرف فيها أن يكون في حلٍّ من الالتزامات التي رتبتها عليه، علماً أن المعاهدة بموادها الـ143 تخلو من أي نص أو إشارة إلى عمر محدد لها.
بشكل عام، وفي ضوء العديد من التجارب والوقائع التاريخية، وبعد مرور الزمن، وحين يستعيد طرف ما كان خاسراً ومرغماً على إبرام معاهدة معينة عواملَ قوة جديدة، فإنه يعمد بطريقة أو بأخرى إلى التنصل من التزاماته السابقة وفرض أمر واقع يقدّر أن الأطراف الأخرى لن تقوى على مواجهته بأكثر من الكلام. ويبدو أن تركيا بنظامها السياسي الحالي وطموحاته ومطامعه التوسعية سائرة بهذا التوجه والاتجاه.
ومن الطبيعي أن فرض الأمر الواقع يمكن أن يتحقق في المواقع الرخوة والهشة والميادين القلقة والمضطربة. وبالنسبة إلى تركيا الطامحة الطامعة، فإنَّ دولاً مثل العراق وسوريا تعدّ من أفضل المواقع والميادين الصالحة للتمدد والتوسع التركي.
وإذا كانت أنقرة قد نجحت قبل أكثر من 20 عاماً في إرغام دمشق على التخلي عن زعيم حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK)، وطرده في 9 تشرين الأول/أكتوبر 1998، تمهيداً لاعتقاله، وهذا ما حصل بالفعل بعد فترة وجيزة، وتحديداً في 15 شباط/فبراير 1999، حين تمكن جهاز الاستخبارات التركي (mit)، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد)، وأجهزة مخابراتية أخرى في الإمساك به واقتياده من كينيا إلى تركيا، وإذا كانت قد أدت دوراً كبيراً في تأزيم الأمور والعمل على إطاحة نظام الحكم السوري بدءاً من ربيع عام 2011، وحصلت على مواطئ قدم مهمة في الجغرافيا السورية، فإنها -أي أنقرة- وجدت منذ أكثر من 35 عاماً في حزب العمال مبرراً ومسوغاً قوياً للوجود في شمال العراق، عبر اتفاقيات أُبرمت مع نظام حزب البعث المنحل، الذي كان منشغلاً حينذاك بالحرب على إيران.
ومع استمرار التداعيات الكارثية في العراق، المرتبطة بغزو دولة الكويت صيف عام 1990، وحرب الخليج الثانية عام 1991، ومن ثم بعد 12 عاماً، إطاحة نظام صدام، ووقوع العراق تحت وطأة الإرادات الدولية والإقليمية المختلفة والمتقاطعة، كانت تركيا تعزز وجودها وحضورها الميداني، الذي وصل إلى حد إنشاء قواعد ومعسكرات ثابتة في عدة مدن عراقية من إقليم كردستان في شمال البلاد، ناهيك بالمقرات والأوكار الاستخباراتية. كل ذلك كان تحت ذريعة ملاحقة عناصر حزب العمال وتعقبهم وحماية الأمن القومي التركي.
ومع مرور الوقت، راحت أنقرة تفصح أكثر فأكثر عن مطامعها التوسعية. على سبيل المثال لا الحصر، ادعى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في خطاب له عام 2016 أن الموصل وكركوك العراقيتين وحلب السورية هي مدن تركية في الأصل، ولا بد من ضمها إلى الأراضي التركية.
وفي السياق نفسه، ما زالت بعض وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والأوساط السياسية التركية تروج لخرائط تاريخية قديمة تظهر الموصل وكركوك وحلب وبعض الجزر اليونانية في بحر إيجه ضمن حدود الدولة التركية، إلى جانب دعوات أطلقها إردوغان بضرورة تعديل معاهدة لوزان، بما يفضي إلى استعادة بلاده حقوقها المسلوبة في الماضي.
ومن الملاحظ أن تزايد الحديث خلال الأعوام الماضية عن حقوق تركيا المسلوبة ووجوب تعديل معاهدة لوزان، وحماية الأمن القومي التركي، ترافق مع الترويج والتسويق لمفهوم أو مصطلح "الوطن الأزرق"، الذي يعني بشكل أو بآخر أن حدود تركيا تمتد إلى أعماق البحر الأسود وبحر إيجه والبحر الأبيض المتوسط، أو بحسب تعريف بعض الباحثين والساسة الأتراك، يقصد به "الهيمنة على المنطقة الاقتصادية الخالصة، والمياه الإقليمية المجاورة، والجرف القاري، أي شرق المتوسط، والبحر الأسود، وبحر إيجه، ما يسمح لها -أي لتركيا- باستخدام كل الموارد البحرية بحرية أكبر"، ويقال إن أول من استخدم ذلك المصطلح هو اللواء التركي المتقاعد، الذي كان يشغل منصب رئيس الوحدة المسؤولة عن خطط تركيا البحرية وسياساتها عام 2006، جيم غوردنيز.
ليس هذا فحسب، فقد ترافق كل ذلك مع انخراط تركي واضح جداً في الكثير من القضايا والملفات والأزمات، ليس في الجوار أو المحيط الجغرافي فحسب، إنما امتد إلى مسافات أبعد بكثير في شمال أفريقيا وجنوبها، وفي مناطق مختلفة من آسيا، وخصوصاً بعض جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق الناطقة باللغة التركية.
ولم تترك أنقرة أسلوباً إلا واستخدمته، فهي في الوقت الذي تنهمك في إنشاء قواعد عسكرية، كما هو الحال في العراق وسوريا، تحرص على دعم أحزاب وشخصيات سياسية ونخب وفئات مجتمعية من لون طائفي وقومي معين، فضلاً عن إنشاء منظمات مجتمع مدني وجامعات ومؤسسات تعمل تحت غطاء خيري إنساني. وأكثر من ذلك، الدخول على خط الأزمات والتناحر السياسي بين الفرقاء، واحتضان شخصيات سياسية متهمة أو مدانة بدعم الجماعات الإرهابية والتورط بارتكاب جرائم جنائية.
ولا شكّ في أنَّ مجمل تلك الأساليب لم تفرز نتائج إيجابية، بل على العكس من ذلك تماماً، تسببت بقدر كبير من التعقيد والتأزم والإرباك، ووفرت المزيد من المبررات والذرائع لحزب العمال بتوسيع نطاق وجوده في الساحة العراقية، حتى بات أيضاً رقماً في معادلات الميدان، وطرفاً في الصراعات والاصطفافات الكردية الداخلية، إلى الحدّ الذي أصبح العراقيون عاجزين عن فك عقدة الصراع بين تركيا وحزب العمال، إذ إن كل طرف من الطرفين يدعي أن وجوده وتمدده هو بسبب استهداف الطرف الآخر له، ومن أجل الدفاع عن نفسه فقط لا غير.
ولكن واقع الحال يؤكد خلاف ذلك، كما أنَّ الحكومة التركية غالباً ما تقول إن عملياتها العسكرية في الأراضي العراقية تجري بالتنسيق مع حكومة بغداد، وهذا ما قاله بوضوح قبل فترة وجيزة الرئيس التركي إردوغان، الذي قدم شكره لكل من الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان المحلية، إلا أن الحكومة العراقية تنفي باستمرار وجود أي تنسيق من حكومة أنقرة معها، وكذلك فعلت وزارة البشمركة الكردية، التي أكدت في بيان لها بخصوص العمليات الأخيرة عدم مشاركة أي قوات كردية فيها.
وتقول أنقرة أيضاً إنَّ عملياتها العسكرية داخل العراق تتم وفقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تجيز ممارسة حق الدفاع عن النفس، إلا أن بغداد أكدت على لسان المتحدث الرسمي باسم الخارجية أحمد الصحاف، "أن الجانب التركي يتذرع بالمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تنص على الدفاع عن النفس. هذه المادة بذاتها لا يمكن الاستناد إليها، لأنها لا تجيز انتهاك سيادة الدول المستقلة، والوزارة تعتبر العمليات العسكرية في الأراضي العراقية انتهاكاً سافراً لسيادة العراق وتهديداً لوحدة أراضيه، لما تخلفه العمليات من رعب وأذى للآمنين من المواطنين العراقيين".
هذه التفاعلات جاءت مؤخراً على خلفية قصف تركي طال مناطق في مدينة دهوك وقضاء سنجار، تسبب بمقتل وإصابة عدد من المدنيين العراقيين، فضلاً عن هجمات بطائرات مسيّرة قيل إنها استهدفت عناصر من حزب العمال الكردستاني في مدينة السليمانية.
وما يساعد أنقرة على القيام بما تخطط له وتريده، من سياسات توسعية، هو طبيعة علاقاتها بالولايات المتحدة الأميركية، التي تغض النظر عن الكثير من تجاوزات أنقرة، بحكم المصالح المتشابكة والملفات المتداخلة بينهما، إلى جانب التعاون والتنسيق الاستخباراتي والأمني العالي المستوى مع "إسرائيل"، وخصوصاً في المناطق التي يسعى الطرفان إلى الحضور فيها، كما هو الحال بالنسبة إلى إقليم كردستان وشرق سوريا.
ولم تعد أنقرة بنظامها ذي الصبغة الإسلامية تجد حرجاً في التحرك بصورة علنية لتعزيز علاقاتها مع "تل أبيب" وتقويتها، رغم الجو السياسي والشعبي العام المناوئ والمناهض لها في المنطقة. وما يساعد على التعاون والتنسيق بين أنقرة و"تل أبيب" في العراق، هو أن هناك أطرافاً سياسية عراقية تمتلك علاقات عميقة مع "إسرائيل" وتربطها علاقة قوية بها، ما يؤهّلها لأداء دور في تهيئة الأرضيات والبيئة المناسبة لكلّ من أنقرة و"تل أبيب"، لتكريس وجودهما وترسيخه، وتمرير أجنداتهما الأمنية والسياسية.
ولعل الحقيقة المهمة التي قد لا يختلف عليها المتابعون والمطلعون على تفاصيل الأمور وجزئياتها، هي أن إمكانية قضاء تركيا على حزب "PKK" تبدو مهمة شبه مستحيلة، ما لم تكن مستحيلة أبداً، حتى لو ألقت القبض على كل قيادات الحزب، وليس على أوجلان وحده.
يدرك صنّاع القرار السياسي وكبار رجال العسكر والأمن في أنقرة ذلك جيداً، إلا أن الـ"PKK" أضحى مع مرور الوقت يمثل ذريعة وغطاء جيداً لتركيا من أجل الاقتراب أكثر فأكثر من كركوك والموصل، ولا سيما أن حلول مئوية "لوزان" بات على الأبواب.