فتاوى عيد الميلاد بين أزمتي الفتوى والثقافة

من مظاهر الأزمة انتشار "ثقافة الضجيج"، التي نشرت خطاب البدع والتكفير، وكانت المسؤولة عن هيمنة فتاوى الثرثرة.

  • من مظاهر الأزمة في الثقافة انتشار (ثقافة التيه)، فينشغل علماء الصحراء بقضايا هامشية ثانوية بدلاً من القضايا الجوهرية والمهمة.
    من مظاهر الأزمة في الثقافة انتشار (ثقافة التيه)، فينشغل علماء الصحراء بقضايا هامشية ثانوية بدلاً من القضايا الجوهرية والمهمة.

يتجدّد نهاية كل سنة ميلادية سيل الفتاوى حول حكم تهنئة المسيحيين بعيد ميلاد الرسول عيسى – عليه السلام – بحسب التقويم المسيحي، وحكم احتفال المسلمين بعيد الميلاد (الكريسمس)، ويتجدّد معه الجدل العقيم والسجال الذميم على صفحات التواصل الإلكتروني بين الناشطين وبعض الدُهماء والغوغاء. وتتجدّد تلك الفتاوى والمجادلات في العديد من المناسبات مثل: الاحتفال بعيد المولد النبوي، وعيد الأم، ويوم المرأة، وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية. وقد انقسمت تلك الفتاوى بين مدرستين إسلاميتين كبيرتين هما: المدرسة الأزهرية الأشعرية في مصر ومَن لحق بها، والمدرسة الوهابية السلفية في السعودية ومَن لحق بها، فجاءت فتاوى علمائهما متناقضة، وآراء أتباعهما متضاربة. 

يرى علماء الأزهر الأشاعرة تحليل تهنئة المسيحيين بأعيادهم؛ لأنه "يتوافق مع مقاصد الدين الإسلامي ويبرز سماحته ووسطيته"، وجواز الاحتفال بعيد الميلاد (الكريسمس) لأنه "لا حُرمة فيه لاشتماله على مقاصد اجتماعية ودينية ووطنية معتدّ بها شرعاً وعرفاً". 

ويرى علماء الوهابية السلفية تحريم تهنئة المسيحيين بعيد الميلاد، فهو "مُحرّم بالاتفاق، لأنه نوع من الموالاة للكفار وتشجيع لهم على الكفر"، وعدم جواز الاحتفال بعيد الميلاد، فإنه "لا يجوز مشاركة النصارى في أعيادهم، بل يجب ترك ذلك، لأنه مَن تشبّه بقوم فهو منهم". وهذا الاختلاف في الفتوى قد يكون دليل مرونة وسَعة وحيوية في الفقه الإسلامي، ولكنه قد يكون دليل أزمة إذا ما كانت الفتاوى متناقضة في المسألة الواحدة والزمن الواحد، كما هي الحال في تناقض فتاوى (الكريسمس) بين المدرستين الأشعرية والسلفية. 

التناقض في فتاوى المدرستين – الأشعرية والسلفية – سلّط الضوء على أزمتين في الفتوى والثقافة لدى علماء المسلمين وعامتهم، ومن مظاهر أزمة الفتوى تطويع فتاوى وتفصيلها لتبرير الواقع المُخالف للإسلام، وتقديم غطاء شرعيّ للواقع السيّئ بدلاً من تغييره، ما يجعل الواقع حاكماً على النص الديني، بدلاً من أن يكون النص الديني حاكماً على الواقع، إرضاءً لهوى كثير من الناس باتجاه الانحراف الأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي، وإرضاءً لجموح كثير من الحكام نحو الاستبداد السياسي، واحتكار السلطة، وتعطيل الشورى، وتكميم الأفواه. وهذا يختلف عن مبدأ مراعاة الفتوى لواقع الناس، كما يرى الإمام محمد أبو زهرة في ضرورة مراعاة الفتوى لواقع الناس وعرفهم من دون الإخلال بعملية الاستدلال بالقواعد الفقهية والاعتدال في الفتوى من دون تساهل يوهن الأمور الدينية أو تشدد يفتن الناس في دينهم. 

وإن كان تطويع الفتوى للواقع السيّئ المُخالف للإسلام أحد مظاهر أزمة الفتوى، فإنَّ التشدّد وعدم مراعاتها للواقع هما مظهرها الآخر، مثل استحضار فتاوى العصور السابقة وإخراجها من إطارها الاجتماعي من دون تمحيص وتطبيقها على عهدنا، واستدعاء فتاوى الأزمنة الغابرة وانتزاعها من سياقها التاريخي من دون تمييز وإسقاطها على واقعنا، واتّباع الحرفية النصية الجامدة في الفتوى من دون اعتبار لمقاصد الشريعة وروح الدين، والتوسّع الزائد في باب سدّ الذرائع والأخذ بالأحوط، فيجري التشدّد في الفتوى نحو التحريم والتضليل والبدع والتكفير. ولقد انتبه إلى ذلك العلامة ابن القيّم الجوزية في كتابه (أعلام الموقعين عن رب العالمين) عندما أفرد فصلاً بعنوان (فصل في تغير الفتوى بحسب تغير الأمكنة والأزمنة والأحوال والعوائد)، واعتبر أنَّ "الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه".

 ومن مظاهر الأزمة في الثقافة انتشار (ثقافة التيه)، فينشغل علماء الصحراء بقضايا هامشية ثانوية بدلاً من القضايا الجوهرية والمهمة، فتغرق الأمة في طوفان فتاوى موضوعها: صوت المرأة، وقيادة المرأة للسيارة، وإرضاع الكبير، وأعياد الميلاد، وشكل اللحية... بدلاً من البحث في قضايا: وحدة الأمة، وتحرير فلسطين، وشروط النهضة، وعوامل النصر... ومن مظاهر ثقافة التيه انتشار فتاوى تحريم الاحتفال بعيد الأم وإحياء يوم المرأة، بدلاً من البحث في كيفية تمكين المرأة في المجتمع، وتعزيز مشاركتها في الإنتاج الاقتصادي، وزيادة دورها في النضال الاجتماعي والوطني، وكذلك انتشار فتاوى تحريم الفن بمعظم أشكاله، من تصوير وموسيقى وتمثيل، بدلاً من البحث في كيفية توظيف الفن في الدعوة إلى الإسلام، والتحريض على الثورة، وتهذيب ذوق المجتمع، وترقية أخلاق الفرد، وكذلك انتشار فتاوى تفرّق بين المسلمين وتؤجّج الصراع بين مذاهبهم، بدلاً من البحث عن القواسم المشتركة التي توحّد الأمة، وطرق التعايش السلمي بين أتباع جميع مذاهب الأمة. 

ومن مظاهر الأزمة في الثقافة انتشار (ثقافة الضجيج)، التي نشرت خطاب التحريم والبدع والتكفير، وصراخ الغضب والعويل، وكانت المسؤولة عن هيمنة فتاوى الثرثرة بمواضيعها الثانوية وهيمنة الإعلام المبتذل برسائله الرديئة، والأدب السخيف بأساليبه الركيكة، والأغاني الهابطة بموسيقاها الصاخبة، وهي الثقافة التي مارسها الكفار للتشويش على دعوة الإسلام "وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ"، واستخدمها الشيطان لتضليل الناس "وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ". وثقافة الضجيج تُصيب الأُمم والشعوب في مراحل هزيمتها وهبوطها وأزمنة تراجعها وانحدارها، فتبدّل العمل بالقول، والتجديد بالتقليد، والإبداع بالاتباع.

تجاوز أزمتي الفتوى والثقافة يحتاج إلى جهد عظيم من علماء الأمة ومفكريها وقادتها، ويضع الفتوى في مكانها الطبيعي من الواقع، حاكمة للواقع لا محكومة له، ومراعية لواقع الناس لا مُبرّرة له، فتوى معتدلة من دون تساهل يُوهن الدين، أو تشدّد يُبطل الدين، ويضع الثقافة في إطارها الصحيح، بعيداً عن ثقافة التيه بقضاياها الهامشية ومواضيعها الثانوية، وثقافة الضجيج بثرثرتها الكلامية وصراخها الصوتي، وقريباً من ثقافة البصيرة والرشد بقضاياها الجوهرية ومواضيعها المهمة، وثقافة التأمل والتدبر بمنطقها العقلي والعملي.