كلّ شيء عالق منذ أكثر من 10 سنوات

في لبنان، لا عام ينتهي، ولا حقبة جديدة تبدأ. نحن نراوح في مكاننا، بلا حرب ولا سلم.

  • كان عاماً كاملاً من الوقت الضائع، وهو ما يجعل من وداعه مجرد طقس روتينيّ لرفع العتب.
    كان عاماً كاملاً من الوقت الضائع، وهو ما يجعل من وداعه مجرد طقس روتينيّ لرفع العتب.

فجأة، توقف الوقت أو انعدم الزمن. انعدمت الحركة. انعدم كلّ شيء. تجمدت الشمس في مكانها، رذاذ الأمواج المتطايرة عند كورنيش البحر، الكورنيش، الأولاد الذين كانوا يحملون البالونات ويركضون خلف طابتهم، الطابة، صياد السمك والسمكة العالقة في خطاف صنارته والطيور الباحثة عن كسرات الخبز. 

حين أرسل أحد الزملاء في "الميادين" يعلمني نيتهم إعداد ملف خاص عن نهاية عام وبداية حقبة، حاولت جاهداً تحريك عينيّ لأرى الأرض تكمل دورانها الطبيعيّ حول الشمس، من حولنا، فيما نحن مُجمدون، لا يمكننا التلويح لهم وهم يعبرون من حولنا وفوقنا وتحتنا، أو التبسم لهم أو العبوس. ينكبّون حول العالم على إحصاء ما تحقّق وما لم يتحقق، باستثنائنا. لم يتحقق شيء. كنا لا أحد، لا شيء، لا لون، لا رائحة في هذا العالم. لم نربح، ولم نهزم. لم نفرح ولم نحزن. توقف الوقت بنا وانعدم الزمن. 

يسأل الزميل في "الميادين" عما إذا كنت أودّ الكتابة عن أبرز الملفات اللبنانية العالقة من العام الراحل إلى العام المقبل، فأرى يدي العالقتين ورجلي وعقلي ومشاعري، ثم الملفات. لا يوجد ملف أو شيء أو إنسان غير عالق هنا. هنا، كلّ ما يرى وما لا يرى عالق منذ أكثر من 10 سنوات. نحن لم نعد نوصف بأننا لبنانيون منذ أكثر من 10 سنوات، إنما نحن العالقون هنا في رقعة ينعدم فيها الزمان والمكان والحركة منذ أكثر من 10 سنوات. أكثر من 10 سنوات بكثير، وتحديداً منذ العام 2005. منذ ذلك العام المشؤوم، تجمّد النمو الطبيعي للأشجار والأطفال والعقول والمشاعر والحسابات. 

ينتهي عام ويبدأ آخر. أكثر من 10 مرات ونحن عالقون هنا. من دون كهرباء، من دون مياه، من دون أدوية أعصاب وأدوية سرطان وأدوية قلب وسكري وضغط، من دون محاسبة أو نية بالمحاسبة، من دون تغيير أو نية للتغيير، من دون أموال المودعين التي تكاتف أفرقاء كثيرون لنهبها أولاً، و"تضييع الشنكاش" بشأنها ثانياً، من دون هواء نظيف، من دون شبكات صرف صحي، بحيث نحوّل مجارير المنازل والفنادق والمصانع إلى مجاري الأنهار التي نسقي بواسطتها المزروعات التي نأكل منها، من دون أملاك عامة أو خاصّة، من دون فرص عمل، من دون أوكسجين، من دون مطر، من دون حب، من دون سهر، من دون بيروت، من دون صخب طرابلس قبل الصباح وخلاله وبعده، من دون مدن، من دون طموح، من دون قدرة على النهوض عند الصباح، من دون بنزين في السيارات الفخمة الجديدة التي سبق للمصارف أن أهدتنا إياها على حساب المودعين، من دون القدرة على إنارة الشقق الفخمة الجديدة التي أهدتنا إياها المصارف أيضاً على حساب المودعين، من دون غاز، من دون قهوة، من دون صابون.

هو "نهاية عام وبداية حقبة" في غالبية دول العالم. أما في لبنان، فلا عام ينتهي، ولا حقبة جديدة تبدأ. نحن نراوح في مكاننا، بلا حرب ولا سلم. شعارات مملة كثيرة من دون خرائط طريق لما يمكن تنفيذه فعلاً. في كلّ يوم مثل هذه الأيام من كل عام منذ أكثر من 10 أعوام، كنا ننتظر تشكيل الحكومة كعيدية، وها نحن ننتظر عودة الحكومة إلى الانعقاد. 

تدهورت الأوضاع من صعوبة تشكيل الحكومة إلى صعوبة اجتماع الحكومة التي تشكّلت. فلسفة وجودية حقيقية. ملفّ الحكومة يرحل من عام إلى آخر، وكذلك ملف التحقيق في جريمة مرفأ بيروت الذي توقف عند استنسابية المحقق العدلي طارق البيطار ورفضه إجراء تحقيق شفاف مع كلّ من سمح بدخول الباخرة وتفريغ نيتراتها، من قوات اليونيفيل، إلى الجيش اللبناني، إلى وزير العدل السابق أشرف ريفي، إلى جميع قضاة 14 آذار المحظيين والمدعومين، بحيث تمنع مساءلتهم. وبموازاتهما ملف ترسيم الحدود البحرية، وعودة ائتلاف النفط إلى العمل بعد القرار الدولي بمنعهم من مواصلة العمل، بحيث يذهب "لبنان النفطي" إلى صندوق النقد والبنك الدولي لتسوّل الأموال واسترضاء فلان وعلتان من الدول الإقليمية بدلاً من الاستفادة من ثرواته الذاتية. 

ومن الملفات أيضاً التدقيق الجنائي، وما يوصف بخطة التعافي الاقتصادي و"الكابيتال كونترول"، وما يصفها البنك الدوليّ بالإجراءات الإصلاحية، وهي في غالبيتها مزيد من الإجراءات الانتقامية من المواطنين العاديين من دون مسّ بالفاسدين الحقيقيين. 

ومن عام إلى آخر، سيتواصل طبعاً الصراع العبثي بين معارضة لا أحد يعرف ممن تتكوَّن وماذا تريد، وسلطة لا أحد يعرف ممن تتكوَّن هي الأخرى وماذا تريد. ومن الملفات العالقة، ملفّ تغذية لبنان بالكهرباء من مصر والأردن، والذي أعادته الإدارة الأميركية إلى رفّ الابتزاز، حيث كان يقبع منذ عدة سنوات. هذا كلّه عبارة عن عناوين عامّة لملفات كبيرة لا تعني المواطنين مباشرة.

أما الملفات المعيشية، فأنهت عملياً هذا العام حقبة، لتبدأ مع العام المقبل رسمياً حقبة أخرى: لا استشفاء إلا لقلة من المواطنين. لا قدرة شرائية إلا لقلة من المواطنين. لا كهرباء إلا لقلة من المواطنين. لا قدرة على استخدام المواصلات إلا لقلة من المواطنين. لا وظائف إلا لقلة من المواطنين. لا أساسيات إلا لقلة من المواطنين. ولا أمل بالقدرة على تجاوز هذا كلّه والنهوض إلا لقلة من المواطنين.

أحد شروط النجاح في توديع عام أو شيء أو إنسان هو أن يعني لك شيئاً. العام الراحل لم يكن يعني الكثير لكثيرين. كان عاماً كاملاً من الوقت الضائع، وهو ما يجعل من وداعه مجرد طقس روتينيّ لرفع العتب. ومن شروط النجاح في استقبال الحقبة الجديدة هو أن تشعر بأنها يمكن أن تحمل بالفعل تطورات جديدة أفضل، وهو ما لا يمكن لكثيرين الشعور به اليوم، ما يجعل من استقبال العام الجديد مجرد طقس روتيني لرفع العتب.

يمكن أن نحرّك أعيننا لرؤية الأرض تحتفل بمواصلتها الدوران حول الشمس من حولنا، فيما نحن مجمدون. يمكن أن نجاريهم بابتسامة تشجيع أو عبوس أنانيّ، لكن لا يمكننا التلويح لهم وهو يعبرون من حولنا وفوقنا وتحتنا. نحن خارج الزمان والمكان.

بعد أن عشنا في عام 2021 الكثير من الأحداث المهمة والمفصلية، يشرف هذا العام على الأفول، ولكنها ليست فقط نهاية عام عادية، هي بداية حقبة في حياة شعوب المنطقة والعالم.