مؤتمر "نداء الأقصى" ورسائله البليغة

مؤتمر "نداء الأقصى الدولي" في كربلاء المقدسة، وفي ظل أجواء الاستذكار المليوني لثورة عاشوراء، أحد مصاديق الترجمة العملية للشعارات وتحويلها إلى ممارسات وسلوكيات ومناهج عمل. 

  • مؤتمر
    مؤتمر "نداء الأقصى" ورسائله البليغة

أكثر من نقطة جوهرية جعلت مؤتمر "نداء الأقصى الدولي" الأول، الذي احتضنته مدينة كربلاء المقدسة يومي 6 و7 أيلول/سبتمبر الجاري، الموافق 9 و10 صفر في التقويم الهجري القمري، يبدو استثنائياً وخارج السياقات المألوفة والتقليدية والروتينية لعموم المؤتمرات والفعاليات والملتقيات السياسية التي ترعاها حكومات أو مؤسسات مرتبطة أو متشابكة بعلاقات ومصالح مع السلطات السياسية الحاكمة في هذا البلد أو ذاك.

صفة الدولية التي اقترنت باسم المؤتمر، لم تكن شكلية، بل جاءت معبّرة تعبيراً واقعياً عنه، إذ إن طبيعة الشخصيات الدينية والسياسية والثقافية والفكرية التي شاركت في المؤتمر، وتجاوز عددها 250 شخصية، مثلت مشارب وانتماءات دينية وقومية ومذهبية وعرقية وقومية مختلفة، فكان هناك رجال الدين الشيعة إلى جانب رجال الدين السنة، وكانت الشخصيات المسيحية جنباً إلى جنب مع الشخصيات المسلمة، وكذلك الشخصيات السياسية العلمانية، من آسيا وأفريقيا وأوروبا وأستراليا والأميركيتين. 

وكان من بين أبرز المشاركين في المؤتمر، الأمين العام لمجمع التقريب بين المذاهب الإسلامية الشيخ محسن الاراكي، ورئيس الإدارة الروحية لمسلمي روسيا المفتي رافيل عين الدين، ومفتي الديار العراقية الشيخ مهدي الصميدعي، وتوشار غاندي، حفيد الزعيم والثائر الهندي الشهير الماهاتما غاندي، وكذلك زويل فيليل مانديلا، حفيد الزعيم جنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا، ورئيس أساقفة سبسطية الروم الأرثوذكس في القدس المطران عطا الله حنّا، وغيرهم. 

 و"نداء الأقصى" انطوى على أولوية القضية الفلسطينية، وإيلائها الاهتمام الذي تستحقه، انطلاقاً من ثوابت ومبادئ دينية وعقائدية وأخلاقية وإنسانية، وحقائق تاريخية وجغرافية، وهذا ما تجلى وانعكس واضحاً من خلال مجمل الخطب والكلمات التي ألقيت في المؤتمر، والتي ربما اختزلها بعض مما قاله الشيخ الاراكي في كلمته بأن "نداء المسجد الأقصى هو نداء الحسين "هل من ناصر ينصرني"، وهو نداء رسول الله، صلّ الله عليه وعلى آله وسلم".

وارتباطاً بمسمى المؤتمر، فإن شعاره الموسوم (مبادئ النهضة الحسينية ودورها في تحرير القدس وثورة الشعب الفلسطيني)، عكس في جانب منه فلسفة ومغزى اختيار زمان عقده ومكانه. فالزمان تمثل في التزامن مع إحياء ذكرى أربعينية الأمام الحسين، عليه السلام، التي تعدّ، بحسب مختلف التقديرات والإحصائيات المحلية والعالمية، المناسبة الأكبر من حيث المشاركة الجماهيرية، إذ يشارك سنوياً ما يربو على العشرين مليون شخص من داخل العراق وخارجه في زيارة الأربعين سيراً على الأقدام. 

أما المكان، فهو كربلاء، التي شهدت قبل 1383 عاماً ملحمة الطف الخالدة، بكل ما حفلت به من مآثر وتضحيات قلّ نظيرها، إن لم يكن لها نظير في عموم تاريخ البشرية، والتي-أي كربلاء-تحتضن اليوم ملايين الناس من شتى بقاع المعمورة، وكما قال رئيس حزب الأمان الماليزي المشارك في المؤتمر"نحن الآن نشهد تغير مواقع القوة من الغرب إلى الشرق، نستمع إلى نداء الأقصى، نقترب أكثر فأكثر إلى المسجد الأقصى، وكربلاء أفضل مكان في العالم لنبدأ فيه هذا المؤتمر".

ومن خلال شعار المؤتمر، يمكن القول بمحورية الثورة الحسينية في مجمل مسيرة النضال من مواجهة الظلم والطغيان والاستبداد والانحراف من أجل ترسيخ قيم الحرية والعزة والكرامة الإنسانية وتكريسها، باعتبار أن القضية الفلسطينية بإطارها العام الشامل تمثل أنموذجاً ومثالاً شاخصاً في عالم اليوم لذلك النضال، والذي يرتبط في مضمونه وجوهره بقضية الإمام الحسين، عليه السلام، وثورته، وقد أريد من خلال شعار (مبادئ النهضة الحسينية ودورها في تحرير القدس وثورة الشعب الفلسطيني) التأكيد على ذلك الارتباط. 

وهذا ما أوضحته وشددت عليه الجهات المعنية والمسؤولة عن تنظيم المؤتمر وعقده، عبر إشارتها إلى أنه "جاء عقد هذا المؤتمر انطلاقاً من جملة معطيات، أهمها، ضرورة التعاون والتضامن الدولييْن بين المؤمنين بالقضية الفلسطينية من أجل تحقيق مبادئ العدالة ومساندة الشعوب المظلومة، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض لأبشع أشكال الظلم واستلاب الحقوق، إلى جانب اعتبار ما تمثله ثورة الإمام الحسين، عليه السلام، وشهادته من نموذج رائد في الدفاع عن الحق والخير وبذل التضحيات في سبيل الإصلاح والانتصار لحقوق المستضعفين".

ولعل ما رسخ صفة شمولية المؤتمر وعالميته، هو الجهات التي تبنته، متمثلة في الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدسة، ودار الإفتاء العراقية، والحملة العالمية للعودة إلى فلسطين، إذ إن كل واحدة من الجهات الآنفة الذكر، تحمل هوية خاصة بها وتمتاز بطابع معين، إلا أنها لا تختلف على الأبعاد الإنسانية والأخلاقية والتضحوية للثورة الحسينية، ولا تختلف أيضاً على عدالة القضية الفلسطينية، ووجوب دعمها ومساندتها حتى استعادة الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطيني. 

 وطبيعي جداً أن يكون ذلك الحضور الإسلامي الكمي والنوعي المتميز، بمنزلة رسالة عميقة وبليغة عن وحدة المسلمين على اختلاف مشاربهم وعناوينهم وقومياتهم وجنسياتهم وأعراقهم ومذاهبهم، ودحض كل ما يشاع عن تصارع وتقاتل المسلمين فيما بينهم، لأن التصارع والاقتتال اللذين نشهدهما هنا وهناك هما في الحقيقة، جزء من المؤامرات الدولية التي تستخدم فيها القوى الخارجية بعض الفرق والجماعات التكفيرية المنحرفة والضالة كأدوات لإحداث الفتن وزرع الشقاق بين أبناء الدين الواحد.

 وتلك الأساليب ليست وليدة الأمس أو اليوم، وإنما كانت وما زالت حاضرة في كل الحقب والمراحل، ولكن بأشكال وصور ومظاهر مختلفة، ومسميات وعناوين متعددة، وتنظيم القاعدة وتنظيم داعش وسواهما، ليست إلا نتاجاً لتلك المؤامرات، وليست إلا صوراً مشوّهة وزائفة للدين الإسلامي المحمدي الأصيل الذي يقر بالاختلافات لا الخلافات.

ولعلّه أمر مهم جداً، أن يكون الإمام الحسين وثورته الخالدة، نقطة التقاء، ليس المسلمين فحسب، وإنما البشرية عموماً، بشتى عناوينها ومسمياتها، وفي الوقت ذاته، تكون فلسطين-القدس، نقطة التقاء أخرى بين الجميع، استناداً إلى مبادئ رفض الظلم والطغيان والاستبداد من أجل نيل الحرية والكرامة وصون المقدسات والحرمات، والأهم من ذلك، أن تترجم الشعارات والأطروحات النظرية إلى ممارسات عملية على أرض الواقع.

وقد كان مؤتمر "نداء الأقصى الدولي" في كربلاء المقدسة، وفي ظل أجواء الاستذكار المليوني لثورة عاشوراء، أحد مصاديق الترجمة العملية للشعارات وتحويلها إلى ممارسات وسلوكيات ومناهج عمل. 

ولم يذهب بعيداً، إن لم يكن قد أصاب كبد الحقيقة، من قال "إن طرح القضية الفلسطينية ومبادئ النهضة الحسينية، إنما هو باعتبارهما نقاط وحدة والتقاء بين جميع الناس من كلّ جنس وبلد ودين".

ولا شك بأن مبادئ رفض الظلم والطغيان والاستبداد، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين، يندرجان تحت عنوان واسع وعريض هو الإصلاح، الذي شكل المنطلق الأساس للثورة الحسينية، حينما قال الإمام الحسين، عليه السلام (إني لم أخرج إشراً ولا بطراً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله). 

ومن هذا المنطلق، يكون رفض الركون إلى الكيان الصهيوني بأي شكل من الأشكال، سواء تحت مسمى التطبيع أو أي مسمى آخر. وقد كانت رسالة مؤتمر "نداء الأقصى" بهذا الخصوص واضحة إلى حد كبير، بالتعبير عن الرفض القاطع لكل مشاريع التطبيع ومبادراته وخططه، وقد عبّر رئيس مجلس الأمناء بتجمع العلماء المسلمين في لبنان، الشيخ غازي حنينة، عن ذلك المبدأ بقوله، "في ديننا وشريعة ربنا وكتاب الله وهدي رسول الله (ص) لا مجال للحياد والوقوف على رصيف الأحداث وهامش الصفحة، ولا بد أن نكون مع فلسطين والساحة مفتوحة والأحداث تجري عليها منذ وعد بلفور المشؤوم، وأن الذين يطبعون مع العدو الصهيوني أخذوا الدرس من يزيد الذي طبّع مع اليهود".

ولأن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كانت أرضياته وأسسه رصينة وقوية ومتماسكة وغير مخترقة من قبل الخصوم والأعداء، فمن الطبيعي جداً أن يكون متقاطعاً ومتناقضاً بالكامل مع التطبيع بمفهومه الانهزامي المتخاذل.

ويبقى الأهم من كل ذلك، أن يتحول مؤتمر "نداء الأقصى الدولي" إلى ملتقى سنوي، بمشاركات كمية ونوعية أوسع وأشمل، وبأفكار وآفاق متجددة ومختلفة، وبمخرجات عملية قابلة للتطبيق.