نصر التحرير والاقتراع على ثياب المقاومة

مثل من اقترعوا على ثياب المسيح، وُجد في الاستحقاق الانتخابي من اقترع على سلاح المقاومة، ولم يبادل الدم بالوفاء.

  • أسَّس التحرير لمعادلة ردع فرضت حماية كلّ مقدرات لبنان وثرواته.
    أسَّس التحرير لمعادلة ردع فرضت حماية كلّ مقدرات لبنان وثرواته.

قبل شهر من الخامس والعشرين من شهر أيار/مايو من العام 2000؛ يوم النصر والتحرير، جمع لقاء ليلي في عين التينة، المقر الرئاسي لرئيس مجلس النواب اللبناني، الرئيس نبيه بري وأمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله ومعاونيهما السياسيين، للتباحث في ما بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي التي كانت عاجزة عن تحمل ضربات المقاومة، وتحديداً حفظ الناس في قرى منطقة الشريط الحدودي وبلداتها، كي لا تتكرر تجارب انسحاب قوات العدو من جبل لبنان وإقليم الخروب وشرق صيدا وساحل جزين.

يتحدث المعاون السياسي للرئيس بري، النائب علي حسن خليل، في كتابه "صفحات مجهولة من حرب تموز" عن ذاك الحدث، فيقول: "بدأ اللقاء بتقييم اللقاء السابق والأحداث التي جرت بين اللقاءين، ثم انتقل الحديث إلى اقتراب لحظة انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي الجنوبية المحتلة وانتصار خيار المقاومة". 

ويتابع: "بلهجة الواثق، تحدث الرئيس بري قائلاً إن تحليله، وكذلك بعض المعطيات، تؤكد أن إسرائيل لم تعد تحتمل خسائرها في الجنوب، وأن خروجها سيكون قبل نهاية شهر أيار، وبدا حاسماً ومقتنعاً، وقد وافقه التوقع السيد حسن نصر الله مؤكداً تلك المعطيات. وقال نصر الله إن إسرائيل ستخرج حتماً، ولكن علينا أن نقدّر أن يطول الوقت قليلاً، غير أنَّ الرئيس بري رأى أنَّ إسرائيل لن تهتم بترتيبات العملاء، مشدداً على ضرورة الاستعداد والجهوزية قبل نهاية شهر أيار... وكان التركيز على وجوب حماية المدنيين، وخصوصاً المسيحيين، بعد التحرير الذى أخذ حيزاً من النقاش، نظراً إلى حرص الرجلين على ألا يتعرض أي من هؤلاء المواطنين وغيرهم لأذى".

وبالفعل، خرجت "إسرائيل" في التوقيت المتوقع، ولم يحصل ما كانت تترقبه، على غرار ما حصل إثر انسحابها من جبل لبنان والمناطق الأخرى التي تلته. لقد حررت المقاومة الجنوب، ولم يرشق أي من سكان الشريط ممن تعاملوا مع الاحتلال بحكم الأمر الواقع طوعياً أو مرغمين، بوردة، بل على العكس، لاقى الجنوبيون رجال المقاومة بالزغاريد ونثر الأرز، ولم تسقط نقطة دم واحدة، ولو عن طريق الخطأ. أما العملاء، فقد هربوا ذليلي النفس مطأطئي الرؤوس إلى الداخل الفلسطيني المحتل بعد ساعات من الإذلال عند بوابة فاطمة؛ المعبر الذي شيده الاحتلال بين لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة.

لم يكن لـ"إسرائيل" ما أرادت، وكما خططت، في كل منطقة وزاوية خرجت منها. لقد أرادت للمسلمين أن يقتلوا المسيحيين، ويتم تهجير من تبقى منهم إلى خارج المنطقة، أو أن يتقاتل الشيعة والدروز ربما، لكن حسابات الجنوب وأبناء الجنوب اختلفت عن حسابات الآخرين، وأسقطوا مشروع "إسرائيل".

تُروى حكايات حرب الجبل ووقائعه مع بدء الانسحاب الإسرائيلي منه ليل السبت 3 أيلول/سبتمبر 1982 على لسان من عايشها: بدأ الجنود الإسرائيليون بإخلاء مواقعهم في بحمدون وصوفر وباقي المناطق المحيطة. القوات اللبنانية والمقاتلون الاشتراكيون في سباق محموم بالقذائف والنار لتسلّم المواقع التي ستُخلى. أحد الضباط الإسرائيليين المنسحبين مما يسمى موقع "جبل عرام" القريب من صوفر، ووسط اشتباك الطرفين المتزاحمين للاستيلاء عليه، يقول لأحد مسؤولي القوات اللبنانية: "تستطيعون الآن أن تفنوا بعضكم بعضاً، لكن دعونا نبتعد قليلاً". 

ابتعد الإسرائيليون عن الجنوب، ولم يفنِ أحدٌ أحداً. حمت المقاومة كلَّ أبنائه، وزرعت الطمأنينة وكرستها في نفوسهم، مسيحيين ودروزاً قبل الشيعة. بعد التحرير، صار الكل ابناً لها، وصارت الأم الحاضنة لهم. إنها أولى الهزائم التي مُنيت بها "إسرائيل" على امتداد التاريخ، وفي كلِّ جبهات دول الطوق المحيطة بها... وإن سبقتها هزائم متعددة من خلال العمليات التي كانت المقاومة تنفذها ضد أهداف الاحتلال.

لم يؤسّس تحرير العام 2000 لانتصار تموز 2006 فحسب، أو للطمأنينة التي ينعم بها أبناء الجنوب الذين ينصرفون بشكل عادي لاستغلال مواسمهم، مستهزئين بقوة "الجيش الذي لا يقهر" و"أسطورته" التي تحطمت عند أبواب عيتا الشعب وبنت جبيل وغرقت في وادي الحجير فحسب، بل أسس أيضاً لمعادلة ردع فرضت حماية كل مقدرات لبنان وثرواته، والأهم أنه زرع ثقة بالمقاومة من غالبية اللبنانيين، وفي مقدمهم شريحة كبيرة من المسيحيين، وأدت هذه الثقة إلى تفاهمات، وإن كان أبرزها تفاهم مار مخايل 6 شباط/فبراير 2006 بين حزب الله والتيار الوطني الحر، مع استمرار العلاقة الصلبة والمتينة السابقة لهذا التفاهم بين المقاومة وتيار المردة وسواه من بعض المكونات المسيحية والمستمرة إلى الآن، ما يدل على أهمية حدثي التحرير وحرب تموز.

إن علاقة المقاومة بالمسيحيين تخطت حدود لبنان، ومن شواهد ذلك حماية بلدتي صيدنايا ومعلولا من الإرهابيين التكفيريين في سوريا، وهما اللتان تحفظان إلى اليوم لغة السيد المسيح، حيث سقط للمقاومة شهداء دفاعاً عن المقدسات. 

وأبعد من لبنان وسوريا، فإنَّ الفاتيكان، حيث عاصمة الكثلكة في العالم، يدعو باستمرار إلى فتح حوار مع حزب الله، في دلالة على سقوط كل التهم التي يحاول العالم الغربي إلباسها للحزب المقاوم، وسط دعوات هذا العالم لمعاقبته وحصاره ونزع سلاحه.

أمام كلّ ما تمثّله المقاومة من قيم تجسدت في أكثر من واقعة، وأولها حماية لبنان والمساهمة في حفظ سلمه الأهلي، نجد موجة هجوم شرسة تُشن عليها، تجلَّت في التحريض عليها خلال الاستحقاق الانتخابي الأخير لاختيار أعضاء جدد للبرلمان اللبناني. 

جرفت هذه الانتخابات من ضعيفي النفوس ما جرفت، كما جرفت الطامعين بثلاثين من فضة... ومثل من اقترعوا على ثياب المسيح، وُجد في الاستحقاق الذي أفل من اقترع على سلاح المقاومة، ولم يبادل الدم بالوفاء.