آفاق المقاومة الشعبية الراهنة في فلسطين (3)

مراجعة نقدية لظروف الانتفاضة الأولى والثانية وسماتهما واحتمالية انتفاضة ثالثة، ومقارنة الوضع الراهن بالتجربتين السابقتين. في هذا الجزء إحاطة بسمات المقاومة الفلسطينية الراهنة وآفاقها المستقبلية.

  • آفاق المقاومة الشعبية الراهنة في فلسطين (3)
    استمرَّت المقاومة الشعبية الفلسطينية خلال السنوات الماضية وأخذت أشكالاً مختلفة

لم تكن ظروف اندلاع المواجهات مع قوات الاحتلال خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة أفضل مما كانت عليه عشية الانتفاضتين الأولى والثانية. العالم منشغل برسم نظام دولي وشرق أوسطي جديدين، وكلٌّ في هذا الشرق يبحث عن موقعه ومصالحه (وهذا أيضاً من ميزات الوضع الدولي عشية الانتفاضة الأولى).

خلال هذه السنوات، سقطت بعض الأنظمة العربية، وبعضها مهدَّد بالسقوط باسم ثورات تسيطر عليها قوى رجعية دموية ومتخلفة، متحالفة أو مدعومة من أميركا وفرنسا و"إسرائيل"، ومموّلة من أنظمة النفط الرجعية أو أصحاب الأحلام العثمانية، وبعضها الآخر منشغل بالدفاع عن بقائه، وثالثهم وظّف ويوظّف مئات المليارات لإحراق وتدمير بلاد عربية كانت بالأمس منارة وسنداً وطنياً للشعب الفلسطيني. أضف إلى ذلك ظروفاً فلسطينية يسيطر عليها الانقسام السياسي والفصائلي إلى أبعد الحدود، إلى درجة وجود سلطتين فلسطينيتين؛ الأولى في رام الله والثانية في غزة، وهو ما لم نشهده عشية الانتفاضتين السابقتين.

ليس هذا فقط، بل نستطيع أن نميز غُربة لم يشهدها الشعب الفلسطيني من قبل، ما بين مجمل المواطنين من جهة، والقيادة السياسية المتمثلة بالسلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس من جهة ثانية. إنهما عالَمان مختلفان! وإذا كانت الانتفاضة الأولى قد شهدت ملامح فساد هنا وهناك، وشهدت الانتفاضة الثانية ظاهرة أكثر انتشاراً، فقد أصبح الفساد المالي والأخلاقي والمصلحة الفردية على حساب المصلحة الوطنية العامة في السنوات الأخيرة سمات مميزة للقيادة السياسية النافذة.

اقتصادياً، تعاظمت قوّة ونفوذ البنوك وأصحاب رأس المال الاستثماريّ في ظلّ السلطة الفلسطينية، فأغرق القطاع الحكومي بالموظفين، وأغرِق الموظّفون في الديون لأصحاب البنوك، وتعاظم ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي من خلال اتفاقيات باريس الاقتصاديّة.

رغم ذلك، استمرَّت المقاومة الشعبية الفلسطينية خلال السنوات الماضية، وأخذت أشكالاً مختلفة، منها المسيرات الشعبية السلمية، وأحياناً بمرافقة قوى إسرائيلية مناهضة للاستيطان وللاحتلال عامة، باتجاه قرية بلعين على سبيل المثال. هذه المسيرات، على الرغم من سلميَّتها، حصدت أرواحاً فلسطينية كثيرة، ومنها الوزير الشهيد زياد أبو عين، ولم تتردد قوات الاحتلال والمستوطنون على حد سواء في إطلاق النار باتجاه المتظاهرين، ما كان يوقع عدداً من الإصابات في صفوفهم.

من ناحية أخرى، شهدنا في السنوات الأخيرة محاولات متكرّرة ومكثّفة لجماعات متديّنة يهودية متطرّفة، مدعومة من قوات الاحتلال، لاقتحام باحة الحرم القدسي أسبوعياً ومحاولة الصلاة فيه. وكان المصلون المسلمون يتصدّون لهذه المحاولات بالتكبير والاشتباك مع قوات الاحتلال المرافقة للمستوطنين.

كان هدف هذه المحاولات، وما يزال، هو فرض أمر واقع جديد يكرس السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الحرم القدسي، وفرض طابع ديني على الصراع وعلى أي رد فلسطيني. وكانت الهبة الشعبية الفلسطينية ضد نصب كاميرات في باحة الأقصى ووضع بوابات إلكترونية لمراقبة دخول المصلين المسلمين، إحدى أهم المحطات لهذه المقاومة الشعبية.

خلال السنوات الثلاث الأخيرة، حاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بقوة سطوته، فرض صفقته بتسوية مذلة للشعب الفلسطيني وقيادته تنتهك أبسط الحقوق المشروعة لشعبنا، لكنه عجز عن فرض سطوته على الشعب الفلسطيني وقيادته.

في المقابل، استطاع أن يخترق النظام العربي، ويجر بعضه إلى إقامة علاقات رسمية مع "دولة" الاحتلال، على قاعدة مبادئ صفقة ترامب، ضارباً بعرض الحائط الحقوق الفلسطينية المعترف بها دولياً والمبادرة العربية للتسوية، لا بل دفعهم إلى إنشاء تحالف عسكري إسرائيلي - عربي ضد إيران، وضد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وأمور أخرى.

وفي قطاع غزة المحاصَر، على الرغم من الضربات العسكرية الموجعة التي تلقّتها المقاومة وعموم أبناء الشعب الفلسطيني هناك، جراء القصف الهمجي المدمر خلال 3 حروب عدوانية على القطاع (2008، 2012، 2014)، وعلى الرغم من الحصار الاقتصادي والسياسي الخانق، فإنَّ فصائل المقاومة المسلَّحة نجحت في تطوير أسلحتها وأساليب مقاومتها، وهي مستمرّة في تجهيز نفسها عسكرياً ولوجستياً للمعارك القادمة مع قوات الاحتلال، وهذا الاستعداد ليس دفاعاً عن قطاع غزة فقط، بل دفاعاً عن فلسطين عامة.

وقد زاد انتصار المقاومة اللبنانية سياسياً على "إسرائيل" أو صمودها العسكري الأسطوري في تموز/يوليو 2006، من ثقة المقاومة الفلسطينية في غزة بأن الانتصار على المحتل الإسرائيلي ممكن وواقعي، بخلاف كل التصريحات المحبِطة الصادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله.

هنا، لا بدَّ من أن نشير إلى حالة الانقسام المدمّر بين فتح وحماس منذ العام 2007 حتى اليوم، وتأثيره الذي يعكس نفسه على فاعلية المقاومة الشعبية وجماهيريتها في الضفة الغربية، وقدرتها على مواجهة المحتل الإسرائيلي، إضافة إلى ما ساهم به الوضع العربي المتساوق مع المحتل الاسرائيلي، والذي شجّع "إسرائيل" في عدوانها المتكرر على القطاع في العامين 2008 و2012، وفي العام 2014 أيضاً.

رغم ذلك، لم تنكسر إرادة الشعب الفلسطيني، ولم تستسلم المقاومة هناك لأي ضغوط عربية. وقد اعتمدت على استقلالية قرارها إلى حد كبير، كما اعتمدت على تنوع مصادر الدعم المادي لها، بحيث لا تكون رهينة لقوى يمكن أن تبيعها ضمن عملية مساومة مع المحتل الإسرائيلي أو إرضاءً للسيد الأميركي.

وقد تكون بوادر المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام هذه الأيام عاملاً مساعداً لاستنهاض الجماهير الفلسطينية للتصدي للاحتلال الإسرائيلي، ولكن ذلك يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين واستعادة ثقة الجماهير بالقيادة الفلسطينية، وهو أمر مشكوك فيه!

كانت المقاومة في القدس والضفة قد بدأت بعد الانتفاضة الثانية مع محاولات المستوطنين اقتحام باحة الحرم القدسي الشريف، لتحقيق هدف التقسيم المكاني والزماني لباحة الحرم، وتمهيداً لبناء هيكل يهودي مكان قبة الصخرة. هذه المقاومة ما تزال مستمرة، رغم تراجع طابعها الشعبي في الميدان، مع تراجع الدور الأردني التاريخي في توجيه دائرة الأوقاف، وتقدم الدور التركي الإردوغاني بموازاة الدور الأردني.

إنَّ الطابع المقدسي للمقاومة منذ عقدين من الزمن على الأقل، دمَّر الحلم الإسرائيلي إلى حد كبير، بتدجين سكان القدس الفلسطينيين، من خلال الهوية الزرقاء وما يتبعها من خدمات وإغراءات مادية، وهذا أكثر ما بحثته الدراسات التي تراقب المقاومة الفلسطينية بمراحلها المختلفة، إلى درجة أن أودي ديكل (جنرال احتياط ورئيس سابق لدائرة المفاوضات) قال: "الوضع الاستراتيجي للقدس يتطلَّب تغيرات سياسية".

إنَّ أكثر ما يميز المقاومة الفلسطينية الراهنة للاحتلال في الضفة الغربية والقدس هو ما يمكن تسميته "المقاومة الشعبية السلمية"، برعاية السلطة الفلسطينية، ووفق إيقاعها المعلن مسبقاً، في ظلّ غياب التنسيق الأمني مع قوات الاحتلال مؤخراً، كما أعلنت السّلطة رسمياً، وغياب أيّ علاقة رسمية مع الولايات المتحدة.

في المقابل، هناك هجمة عربيّة خليجيّة للتطبيع الرسمي بين "إسرائيل" وعدد من الأنظمة العربيّة. أما المقاومة في قطاع غزة، فتتمثل في السنوات الأخيرة بإطلاق البالونات الحارقة على مستوطنات ما يُسمى "غلاف غزة"، وإطلاق صواريخ بين الحين والآخر رداً على الاعتداءات الإسرائيلية أو تذكيراً للعالم بضرورة التحرّك لرفع الحصار عن القطاع.

في المقابل، لا بدَّ من السؤال عن موقف السلطة الفلسطينية من هذه المقاومة بأشكالها المختلفة! لا يخفى على أحد أن السلطة الفلسطينية، متمثلة برئيسها محمود عباس، تعارض مبدئياً، وبشكل قاطع، المقاومة المسلّحة وأيّ شكل من أشكال العنف ضد الاحتلال، إن كان من قطاع غزة أو في الضفة والقدس، بل تقف ضد المقاومين ميدانياً، وتتفاخر بإحباط أجهزتها الأمنية لكل نشاط من هذا النوع، وتعتبر أنَّ الطريق الوحيد للوصول إلى إقامة الدولة الفلسطينيّة هو طريق المفاوضات السلمية، رغم عبثيّتها المثبتة منذ 29 سنة، وباعتراف السلطة نفسها بذلك.

رغم ذلك، لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ السلطة ورئيسها يدعمون المسيرات السلمية إلى قرية بلعين وغيرها، ويبررون التصدي السلمي للمستوطنين عند اقتحامهم باحة الحرم القدسي، ولكنهم لا يدعون إليه، خشية اتهامهم "بالتحريض" ضد الاحتلال الإسرائيلي، ومنعاً لتحول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني إلى صراع ديني، كما يريده نتنياهو.

أمّا في ما يخصّ العمليات الفدائية بالسكين، فموقف السّلطة يتراوح بين التبرير باستحياء والعمل على إحباطها بالاعتقالات المسبقة أو التنسيق الأمني مع المحتلّ الاسرائيليّ. وقد كشف رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، اللواء ماجد فرج، في مقابلة لصحيفة "ديفنس نيوز" الأميركية، يوم 18 كانون الثاني/يناير 2016، عن أنَّ "الأجهزة الأمنية الفلسطينية أحبطت خلال شهرين أكثر من 200 عملية مقاومة" ضد الاحتلال الإسرائيلي.

بعد أيام قليلة، وفي ظلّ الانتقادات التي لاقاها هذا التصريح من قبل الفصائل الفلسطينيّة، بما في ذلك حركة فتح، قام الرئيس محمود عباس بتغطية ماجد فرج ودعمه، بالقول: "إن إحباط هذه العمليات جاء بأمر منه شخصياً"، الأمر الذي أدى إلى تراجع الهبة الشعبيّة التي بدأت في أيلول/سبتمبر 2015 واستمرت حتى بداية العام 2016، وهذا ما يفسّر انحسار الهبّة وعدم اتّساعها إلى أماكن عديدة في الضفة الغربية، وحصرها في القدس والخليل، من دون الاقتراب من الحواجز العسكرية.

إنَّ خشية المقاومين الفلسطينيين من المخابرات الفلسطينيَّة لا تقل عن خشيتهم من أجهزة المخابرات الإسرائيليّة، بل تزيد، حتى لو أعلنت السلطة وقف التنسيق الأمني مع المحتل الإسرائيلي. مثل هذا الموقف والسلوك من القيادة الفلسطينية لم نشهده في الانتفاضتين السابقتين، كما أننا لم نشهد حالة من فقدان الثقة بين الجماهير وقياداتها الرسمية في أي مرحلة نضالية سابقة، وهذا يشكل فارقاً جوهرياً بين الحالة النضالية في الوقت الحاضر وما كانت عليه عشية الانتفاضتين الأولى والثانية.

القوى المحركة للانتفاضة الأولى والثانية مقارنة بالمقاومة الراهنة

ترتبط القوى المحركة للمقاومة الراهنة بسماتها التي أُشرنا إليها أعلاه إلى حد كبير، مع القناعة الشعبية بأن ما يبدو ظاهراً مختلف عما يدور في الخفاء. من الصعب أن نشير اليوم إلى قيادات فصائلية تقود المقاومة، ومن الصعب الإشارة إلى التأييد الشعبي للمقاومة من خلال مشاركة جماهيرية واسعة، ما عدا تلك المشاركة خلال جنازات الشهداء.

ولكن في حقيقة الأمر، تشير استطلاعات الرأي العام الفلسطيني إلى أنَّ هذا الرأي العام منقسم بنسبة متساوية تقريباً، بين التأييد لانتفاضة مسلّحة وانتفاضة غير مسلحة. وللرأي العام الفلسطيني نماذج من الانتفاضة الأولى والثانية، ويعود هذا إلى أسباب عديدة، منها التغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي حصلت خلال العقدين الأخيرين في المجتمع الفلسطيني، وتبلور قوى اجتماعية اقتصادية ذات تأثير سياسي قوي، لا مصلحة لها في ضرب مكتسباتها التي حققتها خلال هذه الحقبة، الأمر الذي يوجب الحذر من تحوُّل الانتفاضة إلى مسار قد لا تحتضنه غالبية الشعب والقوى النافذة.

وإذا ما بحثنا عمَّن يحرّض الجماهير لمقاومة الاحتلال، لوجدنا أنَّها ليست بحاجة إلى قيادة أو نخبة ثورية تحرِّضها، بل يكفي قمع الاحتلال الذي يطال كل مدينة وقرية ومخيم وكل أسرة فلسطينية، والتحريض المستمرّ من قِبَل رئيس حكومة الاحتلال ووزرائه، ومطالبتهم بالمزيد من القمع والقتل، وسياسة القهر والحصار والإذلال على الحواجز، والاعتقالات الإداريّة وغير الإداريّة، وتعثّر عملية التفاوض العبثية منذ 29 سنة ونيفاً. كلّ هذا يكفي لتحريض الجماهير الشعبية ضد الاحتلال.

أما الوعي الفلسطيني الذاتي بضرورة مقاومة الاحتلال لتحقيق أهداف الشعب في إقامة الدولة المستقلة والعودة... كل هذه العوامل وغيرها تشكل القوة الدافعة للشعب الفلسطيني للخروج أفراداً وجماعات لمقاومة الاحتلال، بما يتوفر لديهم من أدوات، ومن دون قرار مسبق أو توجيه من أحد.

مرة أخرى، تعود الثورة الفلسطينية لتنطلق من رحم الشّعب لتُحرِّك النخبة أو القيادة، وليس العكس، كما هو حال الثورات التي نعرفها، بما في ذلك الثورة الفلسطينية عند انطلاقتها في العام 1965.

تلخيص

إذاً، إذا ما أردنا تحديد القوى المحركة للمقاومة الراهنة، مقارنة بالقوى التي حركت الانتفاضتين الأولى والثانية وقادتهما، يمكن القول إنهما انطلقتا من رحم معاناة الجماهير الفلسطينية في الأرض المحتلة في العام 1967 بكل فصائلها وطبقاتها وشرائحها الاجتماعية، وأدى أبناء المخيمات دوراً مركزياً في إشعال الانتفاضة الأولى واستمراريتها، حتى تمت تسميتهم بـ"حطب الانتفاضة". وقد قامت القيادة الوطنية في الأرض المحتلة بتنظيم الانتفاضة الشعبية، وتلقَّفتها منظمة التحرير الفلسطينية، فاحتضنتها علناً، وإن حصل ذلك لاحقاً.

كذلك، تلقّت الانتفاضة الأولى منذ اللحظة الأولى دعماً من جماهير الشعب الفلسطيني في مناطق الـ48 وقيادته الوطنية، حتى قيل إن صحيفة "الاتحاد" الحيفاوية كانت صحيفة الانتفاضة، وهي من أطلق عليها اسم "الانتفاضة الشعبية"، وأدخلها إلى القاموس السياسيّ بكلّ اللغات. 

إضافةً إلى ذلك، لاقت الانتفاضة الأولى تضامناً دولياً بفضل طابعها السلمي والتحرري، وبفضل العلاقات التي نسجتها المنظمات الأهلية الفلسطينية، ومنها وسائل الإعلام الفلسطينية، داخل الأرض المحتلة في العام 1967، مع قوى سلامية وتحررية في أوروبا، واستطاعت أيضاً أن تستميل تضامن قوى ديموقراطية وسلامية من المجتمع اليهودي داخل "إسرائيل". مثل هذا التطور يمكن أن يوصف بالحالة الثورية، وهي التي مكَّنت منظمة التحرير الفلسطينية من تحقيق إنجازات سياسية من خلال مؤتمر مدريد، وهي الإنجازات التي تمَّ تقزيمها لاحقاً من خلال مسار أوسلو في الغرف الخلفيَّة.

أما الانتفاضة الثانية، فقد كانت رداً شعبياً طبيعياً على اقتحام أرئيل شارون لباحة الحرم القدسي يوم 28 أيلول/سبتمبر 2000، بهدف فرض السيادة والسيطرة الإسرائيلية الكاملة عليه، في حين كانت المفاوضات تجري في كامب ديفيد في الولايات المتحدة بين الوفد الفلسطيني برئاسة ياسر عرفات، والوفد الإسرائيلي برئاسة إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية؛ هذه المفاوضات التي انتهت إلى فشل ذريع، وردّ فعل فلسطيني على التعنّت الإسرائيلي، ورفض الحكومة الصهيونية الانصياع إلى القانون الدّولي والاتفاقيّات الموقّعة والمعترف بها دولياً، والتي تعني ضرورة الانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران/يونيو. اعتمد المفاوض الإسرائيليّ على المناورة والهروب من الاستحقاقات ومحاولات الضغط والابتزاز بواسطة ومساعدة الراعي الأميركي المنحاز كلياً إلى "إسرائيل". 

للمقارنة والتقييم، لا بدَّ من السؤال: هل استطعنا استخدام الأدوات التكنولوجية التي استحدثها العالم خلال العقدين الماضيين لمصلحة النضال ضد الاحتلال بما يكفي، أو أن هذه الأدوات بقيت من نصيب العدو، بما في ذلك ما امتلكناه بين أيادينا، مثل الإنترنت والخلوي وغيرهما؟ وهل أنتجنا لأنفسنا، وفق حاجاتنا، أدوات خاصة تساعدنا في تحقيق أهدافنا؟ وهل استطعنا استخدام التكنولوجيا الحديثة لحماية مناضلينا وتنظيماتنا، أو أن المحتل الإسرائيلي هو الذي استبدل العملاء الذين أدوا دور وسيلة الاتصال الأساسية مع المحتل في الانتفاضة الأولى، واستخدم أدوات تكنولوجية حديثة خلال الانتفاضة الثانية، وما يزال؟ إضافة إلى ذلك، علينا أن نراجع ما إذا كنا نستخدم وسائل الإعلام بالشكل والمضمون الذي يخدم هدفنا؟

كما يجب علينا أن نتساءل عما إذا كان نهجنا السياسي، التفاوضي والدبلوماسي، والسلوك الأمني والإداري للسلطة الفلسطينية، ساهم في تعزيز القوة النضالية للشعب الفلسطيني لمواجهة التحديات القادمة أم العكس! ومن يتحمل مسؤولية ما وصلنا إليه من تراجع وطني؟