مع ماري كلود نجم في ضيافة جورج عبد الله

كانت نجم في زيارة عائلية إلى باريس، حين قرَّرت أن تزور عبدالله في سجن "لانيميزان"، لتُسجّل أوّل زيارة لمسؤول لبناني بهذا المستوى لأقدم معتقل سياسيّ لبنانيّ في الخارج.

  • اللافت هو محاولة الفرنسيين دائماً إنكار الطّابع السياسيّ لتوقيف عبد الله.
    اللافت هو محاولة الفرنسيين دائماً إنكار الطّابع السياسيّ لتوقيف عبد الله.

راجعت وزيرة العدل في حكومة تصريف الأعمال ماري كلود نجم - كما يروي أحد المطّلعين - كلاً من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ووزير الخارجية شربل وهبة بنيَّتها زيارة المعتقل اللبناني في فرنسا جورج عبد الله، فرحَّبوا جميعاً، لتبدأ مرحلة المعاملات المعقّدة مع السلطات الفرنسية، وخصوصاً أن إدارة السجن الفرنسية، وهي المعنيَّة بالسماح بالزيارة أو رفضها، لم يسبق لها التعامل مع طلب زيارة من وزير أجنبي، في ظل إصرار فرنسي على نزع الطابع الرسمي عنها، وهو ما أكدته وزيرة العدل، باعتبارها في زيارة عائلية - غير رسمية - لفرنسا، وهو ما ينزع عن جميع لقاءاتها الصّفة الرسميّة، مع التمنّي الفرنسي أيضاً بأن لا تتداول نجم بها، سواء قبل حصولها أو بعده، وهو ما يفسّر التعتيم اللاحق والمتواصل عليها، وبحث (الميادين نت) أكثر من 3 أسابيع عن حقيقة ما حصل في 19 آذار/مارس الماضي.

أما اللافت، فهو محاولة الفرنسيين دائماً إنكار الطّابع السياسيّ لتوقيف عبد الله، فيما كان واضحاً في معاملات السماح لوزيرة العدل اللبنانية بزيارته أنَّها جميعها إجراءات سياسية، علماً أنَّ عبد الله تقدّم حتى اليوم بعشرة طلبات ترحيل، اضطرّت السفارة الأميركية في فرنسا إلى إصدار بيان للردّ على أولها، بموازاة الضّغوط الأميركية المتراكمة على القضاء الفرنسي الذي اشترط عدة أمور إدارية صعبة بالتوازي مع إلزام عبد الله بالإعراب عن أسفه وندمه، وهو ما رفضه المعتقل السياسيّ اللبناني منذ 37 عاماً في زنزانة فردية، في واحدة من أكثر الدول كذباً ونفاقاً بشأن الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان، علماً أنَّ الأميركيين لا يتردّدون في المجاهرة بالتدخّل في الشأن القضائي الفرنسيّ. أما اللبنانيون، فيضعون السؤال عن عبد الله في سياق السؤال الإنساني عن أحوال السجناء اللبنانيين في الخارج.

في النتيجة، وافقت السلطات الفرنسية على منح الإذن لوزيرة العدل اللبنانية بزيارة عبد الله، لكن في الطريق، كان هناك مدير السجن. لم يخفِ الأخير إعجابه بما وصفه بـ"اتزان جورج عبد الله وثقافته الواسعة وهدوئه الشديد"، إذ لا تصله أي شكاوى بحق سجينه الذي وطّد علاقته مع سجناء إقليم "الباسك" الثوريين بغالبيتهم، ولديه في سجنه حاسوب وهاتف منذ تشرين الأول/أكتوبر 2020.

سنوياً، منذ توقيفه في العام 1984، تنظم المجموعات الداعمة لعبد الله تظاهرة تضامنية معه، يشارك فيها المئات من جميع أنحاء أوروبا. ويشير السجّان إلى أنَّ جدول مواعيد المعتقل اللبناني حافل بالزيارات لشباب بعضهم لا يعرفونه، لكنهم يطلبون لقاءه، وهو يخصّص غالبية وقته للقراءة والمراسلة من غرفته المليئة بالكتب والمجلات وقصاصات الصحف.

كما أنه لم يستخدم أبداً الشقّة التي خصَّصتها إدارة السجن منذ العام 2016 للقاءات العائلية لمدة 72 ساعة متواصلة، علماً أنَّ عبد الله دخل قريباً منذ فترة قريبة عامه الـ70، وهو ما يسمح بطلب إطلاق سراحه لأسباب إنسانية ترتبط بتقدمه في العمر، لكن عبد الله الذي يرفض الاعتذار أو إبداء الندم، يرفض أيضاً أن يطلب إخراجه من السجن لأسباب إنسانية، في موقعة نضاليَّة رائعة بشجاعتها.

لقاء ماري كلود نجم مع جورج عبد الله كان لقاءين؛ الأول قبل الظهر، من العاشرة وحتى الحادية عشرة والنصف، والآخر بعد الظهر، من الثانية وحتى الثالثة والنصف. بداية، أخبرهم عبد الله بأنه أصيب بكورونا في أواخر تشرين الأول/أكتوبر الماضي، لكن الإصابة مرت عليه من دون عوارض مرضية. 

المعنويات أساسية بالنسبة إليه. يقول عبد الله: "أنا أتواصل مع مناضلين مقرّبين إلى حزب الله، لكنَّ المدّة الزمنيّة للحوار معهم لا تكفيني أبداً"، قبل أن يشير إلى أن الراحل أنيس نقاش كان يؤدي دوراً رئيسياً كصلة وصل، مؤكداً أن حركة الزوار كبيرة جداً من كلّ الأراضي الفرنسية، ومن بلجيكا وإيطاليا، وهو يركز في قراءاته على القضية الفلسطينية والتطورات اللبنانية. وقد أشار إلى وفاة إحدى شقيقاته خلال اعتقاله، فيما زاره اثنان من أولاد أشقائه، وترفض السلطات الفرنسية منذ اعتقاله منح أذوانات زيارة لشقيقاته وأشقائه.

جورج عبد الله يعتني بصحّته ويمارس الرياضة الصباحية. "تجمعني علاقة طيبة مع الأولاد البؤساء في غالبيتهم (السجناء الآخرين)، الذين تعكس مسيرتهم أمراض المجتمع ومشاكله خارج السجن"، يضيف. وهنا، يوضح أنّه في سجنه الرابع، وهو أفضل من غيره بعد تحديثه في العام 1996، ويلفت إلى أن السجون "تعكس وعي الحركة الاجتماعية في الدول. لذلك، تعد فرنسا في أسفل السلم الأوروبي في ما يخص مقاربتها للسجون". 

ويشير إلى علاقته الجيّدة بنحو 15 معتقلاً من إقليم الباسك المسجونين بتهمة الإرهاب، والذين وافقوا على حل حزبهم وتسليم أسلحتهم وتنازلوا عن كل شيء، لكن فرنسا تراعي إسبانيا في هذا الملف، معتبراً أنَّ زخم قضيّتهم في الخارج يتراجع، وهو ما يؤثر فيهم: "في السجن، لا تقيس الزمن إلا بحسب مسار الحركة السياسية في الخارج، فإذا انتهى النضال في الخارج، فإنك تموت في السجن".

من الباسك إلى فلسطين، ينتقل المناضل الأممي في حديثه، معتبراً أنَّ البرجوازية العربية، ومنها الفلسطينية، انتقلت إلى موقع العدو بشكل واضح. ورغم الانتكاسة في الوعي الثوري، فـ"ما زلت أرى أنّ ثمة وعياً جماهيرياً يمكن البناء عليه". وقد ولَّت مرحلة القدرة على القضاء على ملايين البشر.

ويشير إلى أن موقع مصر أساسي، وهي العمود الفقري، مقارنة بـ"الخليجيين الذين يبرمون اتفاقيات سلام لا قيمة شعبية لها"، ويشدد على أن التغيير الثوري لا يقتصر على التغيرات السياسية، إنما يجب أن يشمل العلاقات الاجتماعية كافة، ومنها الحريات والمساواة بين الجنسين والمواضيع الاقتصادية والبيئية.

أما الملف اللبناني، فيظهر جورج عبد الله أنه يتابعه أكثر من كثيرين، محدّثاً ضيوفه في السجن عن مجموعة استحالات: يستحيل على من تصدّى لحركة الجماهير أن يقدّم حلولاً وبدائل، ويستحيل أن ينجح "رئيس الجمهورية الوطني" في بناء دولة ديمقراطية تكافح الفساد، "لأن الغرب يعارض هذا التوجه"، كما يستحيل قيام كتلة وطنية، لأن البرجوازية تحكم من خلال التركيبة الطائفية القائمة.

يقول عبد الله إنَّ على القوى الاجتماعيّة أن تفرض التغيير، لكن تقديره ينبئه بأنها غير مهيأة بعد لهذه المهمة. في المقابل، يفتقد المسؤولون الحد الأدنى من المسؤولية المنوطة بهم، ما سيؤدي إلى تفشي ظواهر العنف الفردي، في ظل انتشار الجوع بين مكونات المجتمع.

عبد الله المتابع لتفاصيل التفاصيل يقول إنه يجب حلّ الإشكاليات القائمة بين حزب الله والحزب الشيوعي اللبناني بتروٍّ: "نحن لسنا حياديين، فالمطلوب اليوم نقل لبنان إلى المحور المعادي للمقاومة؛ المطلوب رأس المقاومة!". ويدخل في تفاصيل التفاصيل في ما يخصّ حزب الله والتيار الوطني الحر، الذي يجب أن يعود إلى "جذور مواقف الرئيس عون الوطنية، وأن يبتعد عن الخطابات المتطرفة التي تدلّ على غباء سياسي وتستجلب حرباً أهلية ستكون في حال وقوعها كارثة على الموارنة والبلد".

جورج عبد الله ذكّر زائرته بأن القضاء الفرنسي والأجهزة الأمنية عجزوا عن إثبات تواجده في مكان الجريمة، فلا توجد أدلّة على ذلك، ولا يوجد شهود، مؤكداً أن قرار توقيفه سياسي منذ بداية القضية، لافتاً إلى أنه في موقع الضحية منذ البداية، وهو لن يتنازل عن مبادئه، وسيبقى صامداً: "صمودي ليس أسطورياً، فهو ينبع من صمود المناضلين خارج السجن".

وقبيل المغادرة، توجّه جورج عبد الله إلى زائرته بالقول: "أتمنّى أن أخرج في أسرع وقت، وأن ينجح الرئيس عون بتحريري قبل نهاية ولايته، لكنني لن أخرج إلا بكرامتي، كما دخلت، ومع احترام كامل لنضالاتي".