تركيا في مهبّ تحوّلات المنطقة

حدثان يُعدَّان تحوّلاً استراتيجياً ناظِماً لموازين القوى في المشهد السوري، إحداهما صاغه الرئيس الأسد عقب زيارته إلى مناطق التماس في إدلب، أما التحوّل الثاني، فتمثّل باتفاق سوتشي بين بوتين وإردوغان.

تحوّلات استراتيجية هامة خرجت من سوتشي الروسية، عقب لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب إردوغان. هي تحوّلات تشي بأن التوازنات التي كانت دمشق سبباً رئيساً في صوغها، ستؤدّي حُكماً إلى واقعٍ جيواستراتيجي جديد شمال شرق سوريا، فالاتفاق في ظاهرة ثنائي جمع بوتين وإردوغان، لكن مضامينه كانت رُباعية، وجاءت عبر توافقات ضمنية سورية روسية أميركية وتركية، والواضح بأن جُملة الأزمات التي أطَّرت شمال شرق سوريا، أجبرت واشنطن على الانكفاء والتخلّي عن الشأن السوري، إضافة إلى أن ماهيّة الانسحاب الأميركي من سوريا، جاءت ضمن جُزئيات الاستراتيجية الأميركية حيال الشرق الأوسط عامةً.

المعادلات السياسية التي دأبت موسكو على بلورتها شمال شرق سوريا، رافقتها تحرّكات ارتكزت على طبيعة المناخ السياسي والعسكري في سوريا، كما أن جُملة التجاذبات السياسية المؤطّرة لمشهد الشمال الشرقي من سوريا، فرضت على روسيا احتواء التحرّكات الأميركية، والهواجِس التركية. من هنا فإن جُلّ التحرّكات الروسية كان ضمن إطار المُمكن سياسياً، وذلك لمنع أيّ تصادُم عسكري بين الأطراف الفاعِلة والمؤثّرة في شرق سوريا، فالصبر الاستراتيجي السوري الروسي أثمر توازنات قوى في إطاراتٍ توافقيةٍ استراتيجية.

حدثان يُعدَّان تحوّلاً استراتيجياً ناظِماً لموازين القوى في المشهد السوري، إحداهما صاغه الرئيس الأسد عقب زيارته إلى مناطق التماس في إدلب، هي زيارة لم تكن مَحْض صُدفة، ولا يُمكن وضعها في إطار الزيارات التفقدّية لمراكز تموضع الجيش السوري، خاصة وأنها سبقت بساعاتٍ لقاء سوتشي بين بوتين وإردوغان.
وعليه، يبدو واضحاً أن الرئيس الأسد ومن خلال هذه الزيارة يضع شروطه على أيّ اتفاق تركي روسي، فحين يصف الرئيس الأسد إردوغان باللص، فهذا يُعدّ ترجمة واضحة إلى أن دمشق لن تقبل أيّ تواصل مع تركيا في ظلّ التعنّت التركي حيال ملف إدلب.
وزيارة خطوط النار تؤكّد في جانبٍ آخر، أن أيّ اتفاق لا يحتوي تفاهمات حيال إدلب، لا يمكن أن يرى النور. من هنا فقد تمكَّن الرئيس الأسد من تأطير طموحات إردوغان في سوريا، ولا يُمكن لأيّ تواجد غير شرعي في سوريا أن يُبرّر بقاءه بعد ما تمّ إنجازه سورياً، والرئيس الأسد اختصر كل هذه المسارات وترجمها بقوله لدى استقباله مبعوث الرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف قبل أيام، مُحدِّداً وراسِماً الخطوط العريضة لأبعاد المرحلة القادمة سياسياً وعسكرياً، حيث قال إن "الأطماع الخارجية بدول منطقتنا لم تتوقّف عبر التاريخ، والعـدوان التركي الإجـرامي الذي يشنّه نظام إردوغان على بلادنا حالياً يندرج تحت تلك الأطماع مهما حمل من شعاراتٍ كاذبة، وسنردّ عليه ونواجهه بكل أشكاله وفي أية منطقة من الأراضي السورية وعبر كل الوسائل المشروعة المُتاحة".
أما التحوّل الاستراتيجي الثاني، فتمثّل باتفاق سوتشي بين بوتين وإردوغان. صحيح أن الرئيس إردوغان نجح في الحفاظ على توازن علاقاته مع موسكو وواشنطن، حتى لو بدا أن خياراته في سوريا قد تمّت بالفعل. لكن الصحيح ايضاً أن موسكو تمكَّنت وعبر شراكات اقتصادية استراتيجية من إيصال إردوغان إلى المُعادلة السورية التوافقية، وإنزاله عن شجرة الطموحات التي سوَّقتها له واشنطن.
علاوة على ذلك، فإن الاتفاق الروسي التركي يؤسِّس لشراكاتٍ استراتيجيةٍ بين موسكو وأنقرة، وتصل إلى دمشق، فقد شدَّد بوتين في المؤتمر الصحافي عقب محادثاته مع إردوغان، على أن مشكلة الشمال السوري، حيث تجري العملية التركية، لا يمكن حلّها من دون حوار يتّسم بالاحترام المُتبادَل بين دمشق وأنقرة. وفي ذات السياق، اعتبر رئيس لجنة مجلس الاتحاد الروسية للشؤون الدولية أندريه كليموف، في مقابلةٍ مع صحيفة إزفستيا الروسية، إن بإمكان روسيا في الوقت الحالي أن تصبح وسيطاً في العلاقات بين أنقرة ودمشق، موضِحاً أن "الجانب الروسي قد يدفع الرئيس التركي نحو الحوار مع سوريا واستئناف اتفاقية أضنة للعام 1998"، لا سيما وأن موسكو قادِرة حالياً على تقديم ضمانات ملموسة بأن التشكيلات الكردية لن تشكّل تهديداً لتركيا.
هناك نقطة لا بد من الإضاءة عليها، رغم أنه لم يتمّ تداولها صراحة في تفاصيل لقاء سوتشي، حيث أن اتفاقية أضنة سيتم تطبيقها وفق مُقتضيات الأمر الواقع، وفي ضوء الاتفاق بين دمشق وكردها، وبين روسيا وتركيا. فقد تم الاتفاق على أن الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري سيدخلان إلى الجانب السوري من الحدود السورية التركية، خارج منطقة عملية "نبع السلام"، بغية تسهيل إخراج عناصر "قسد" وأسلحتهم حتى عُمق 30 كم من الحدود السورية التركية، وينبغي الانتهاء من ذلك خلال 150 ساعة، لتنتشر بعدها دوريات الشرطة العسكرية الروسية، وبعد إنهاء عملية الانسحاب سيتم تنظيم دوريات روسية تركية مشتركة في تلك المناطق. إضافة إلى أن الاتفاق ينصّ على تعهّد الطرفين بالتصدّي للمجموعات الإرهابية كافة على الأراضي السورية. وهذا يُعدّ تطبيقاً واقعياً لاتفاقية أضنة بين دمشق وأنقرة، لكن بشروطٍ مُعدَّلةٍ ووفق مُقتضيات الأمر الواقع.

بقي أن نقول، إنه بالنسبة إلى دمشق، فإن الاحتلال التركي لمناطق الشمال السوري، يُمكن معالجته عبر طُرُق عدّة، بينما يبدو مستحيلاً فرض رحيل مُبكِر للقوات الأميركية المنتشرة في شمال شرق سوريا، من دون مُراكمة البيانات السياسية والعسكرية المؤثّرة على طبيعة التواجد الأميركي في سوريا. بين المعادلتين نجحت دمشق بتمرير خيوطٍ سياسيةٍ وأخرى عسكرية، أفضت إلى مشهد الشمال الشرقي من سوريا.
من هنا جاءت التوافقات السورية الروسية ضمن أطر دبلوماسية سياسية مانعِة لأيّ تصعيد، من شأنه حَرْف كافة المسارات بعيداً عن التوجّهات الأساسية للاستراتيجيات السورية الروسية، وعليه بات واضحاً أن دمشق نجحت وعبر استراتيجيّتها بتطويع الوقائع السياسية والعسكرية، وترجمتها واقعاً مؤسِّساً لجملةٍ واسعةٍ من التحوّلات الاستراتيجية، التي لا تبتعد مضموناً وهدفاً عن خارطة الطريق التي هَنْدَستها الدولة السورية وجيشها، لوضعِ حدٍ لكافة التجاذبات السياسية والعسكرية وتدخّلات القوى الاقليمية والدولية.