حرب الجيل الخامس بين المارد الصيني والبلطجي الأميركي
لا أعرف إذا كان ترامب يُدرِك طبيعة الفرق بين اليابان والصين كدولةٍ وكحضارةٍ وكتاريخٍ معاصر؟ لكن لو كان مُدرِكاً للفرق لما ذهب إلى هذا الحد في الصراع مع الصين.
الحرب التجارية التي تخوضها الولايات المتحدة ضد الصين هي جزء من الاستراتيجية الشاملة للولايات المتحدة للهيمنة على العالم وثرواته، ولإحباط سعي ومحاولات العديد من دول العالم لاستعادة قوّتها الاقتصادية ومكانتها الدولية. إلى جانب الصين تشنّ الولايات المتحدة حروباً وعقوبات اقتصادية ضد روسيا الاتحادية وإيران وفنزويلا وسوريا وكوبا، وكوريا الشمالية، وقطاع غزَّة المُحتل، بل تعاقب حلفاءها متى شذّوا عن خط الإدارة الأميركية وتُريهم عصا الطاعة.
لإجهاض نهضة وتطوّر العديد من الدول والتكتلات الدولية التي إلى حد كبير تمتلك قُدرات علمية ومعرفية وصناعية وتكنولوجية واقعية وقادرة على أن تنافُس الغرب كله منافسة شريفة، الولايات المتحدة في حربها الجيوسياسية على الصين وروسيا، لا تستطيع الاحتكام إلى قواعد المُنافسة الشريفة والأخلاقية، المنصوص عليها في المؤسَّسات الدولية وفي منظومة العلاقات الدولية. دوماً تلوّح الولايات المتحدة بأساطيلها وجيوشها وبعصا البلطجة الاقتصادية، العقوبات الاقتصادية.
تسخّر الولايات المتحدة الأميركية الهيئات الدولية التي تُهيمن عليها منذ عقود، لفرض مصالحها ورغباتها بل وبلطجتها الاقتصادية، على الدول تحت يافطة لوائح هذه المنظمات، وتغلّف البلطجة الاقتصادية، بأنظمة ولوائح منظمّات الشرعية الدولية، ما أضرّ كثيراً بمصداقية هذه الهيئات. مَن يعترض على سياسات الإدارة الأميركية، تطاله عصا العقوبات الأميركية، وتوقف الإدارة الأميركية دفع ما يترتّب عليها مالياً إلى المنظمات الدولية، أو تنسحب نهائياً منها، كما حصل مؤخّراً مع منظمة الصحة العالمية، وفي أوج جائِحة الكرونا.
منذ وصول الرئيس اليميني المُتطرّف دونالد ترامب إلى سدّة الحُكم في الولايات المتحدة، رافعاً شعار "لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" وشعار "أميركا أولاً"، وتتّخذ إدارته من العجز في الميزان التجاري بين الولايات المتحدة والصين، ونمو ودخول الشركات الصينية إلى الأسواق الأميركية والغربية على أنه خطر عظيم على الأمن القومي الأميركي، ومن ثم تسخّر هذه الادّعاءات العدوانية كذرائع لتحجيم الشركات الصينية ومنعها من الوصول إلى الأسواق الأميركية وتأليب حلفاء أميركا عليها مُتّهمة الصين بالسطو على حقوق الملكية الفكرية الغربية.
رفعت إدارة ترامب الرسوم الجمركية من 10% إلى 25% على واردات من الصين، جهّزت لحرب تجارية كُبرى مع الصين، أعدّت قوائم لفرض رسوم على سلع صينية إضافية بقيمة 300 مليار دولار، لكي تُطيح بقُدرتها على التنافُسية. هذه هي أكبر حرب تجارية يشهدها الاقتصاد العالمي عبر التاريخ. الصين والولايات المتحدة، اليوم هما أكبر اقتصادين في العالم، وشنّ الأميركان لهذه البلطجة التجارية على الصين، بنهاية المطاف يضرّ بالمصلحة الأميركية المباشرة.
لم تحقّق بلطجة ترامب التجارية هذه، تقليصاً للعجز في الميزان التجاري بين البلدين، بل على العكس، لقد زاد العجز التجاري بحوالى 10.4% لصالح الصين، خلال العام الماضي. اليوم الفلاحون وعموم فئات المُستهلكين الأميركان والشركات الأميركية الأساسية، هم مَن يدفعون ثمن البلطجة الاقتصادية لإدارة ترامب.
تعمل الولايات المتحدة جاهدة لتُنهي هيمنة المجموعة الصينية العملاقة هواوي على سوق الجيل الخامس، من خلال جرّ كل من شركة "نوكيا" و"إريكسون" الأوربيتين إلى تحالف تكنولوجي مضاد لهواوي. أنا أدرك بأن دونالد ترامب لا يمتلك لا هو ولا مُستشاريه الذكاء ولا الخيال العلمي ليقوم بصوغ تحالفات وكارتل تكنولوجي للحد من قُدرات العملاق هواوي.
ترامب يُعيد تدوير تجربة قام بها في مطلع الثمانينات من القرن الماضي الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، ضد الشركات اليابانية رائدة صناعة"Semiconductors " أشباه الموصلات. هذه الشركات آنذاك جعلت من اليابان، سيّدة تكنولوجيا الإلكترونيات بلا مُنازِع. قام رونالد ريغان بصوغ كارتيل تحالف شركات تكنلوجية أميركية، موّلته أدارته وخلال بضع سنوات استطاع أن يزاحم اليابان، ليس بالمنافسة الشريفة والنجاح في تحقيق قفزات صناعية وتكنولوجية، بل من خلال فرض قوانين وإجراءات حدّت من قُدرة اليابان التنافسية ليس في السوق الأميركي وحده بل عالمياً أيضاً.
منذ حوالى الشهر، وبضغطٍ أميركي تم إنشاء كارتل تحالفت فيه نحو ثلاثين من شركات التكنولوجيا والاتصالات العملاقة في الغرب من أجل إنشاء أنظمة جيل خامس (5 جي)، وذلك لكي يستطيعوا اللحاق بهواوي العملاق الصيني رائد هذه التكنولوجيا، الذي يسبق الغرب بسنين في هذا المجال. تقوم هذه الشركات بإلغاء الاعتماد على هواوي كالمورد الأساسي لهذه التكنولوجيا ومُستلزماتها. وفي عضويّة هذا التحالف مجموعات عملاقة مثل "غوغل" و"مايكروسوفت" و"آي بي إم" و"إي تي أند تي" و"فودافون" بالإضافة إلى مجموعات تصنيع الرقائق الإلكترونية مثل "كوالكوم" و"إنتل" و"سامسونغ".
إدارة ترامب تسعى اليوم إلى إعادة عقارب الزمن إلى الوراء وأن تكرّر ما قامت به إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان، حين أجبرت اليابان على قبول القيود التي سمّاها الأميركان "بالطوعية" على صادراتها، وخاصة الإلكترونيات والسيارات، من أجل تقليص العجز التجاري الأميركي-الياباني وحماية الشركات الأميركية من القدرة التنافسية المرنة للشركات اليابانية.
للأسف لا أعرف إذا كان ترامب يُدرِك طبيعة الفرق بين اليابان والصين كدولةٍ وكحضارةٍ وكتاريخٍ معاصر؟ لكن لو كان مُدرِكاً للفرق لما ذهب إلى هذا الحد في الصراع مع الصين. هل يُدرِك بأن اليابان أحد دول المحور، إلى جانب ألمانيا النازية، قد هُزمت في الحرب العالمية الثانية. وآنذاك خشي البريطاني والأميركي، من الانتصارات والزحف السريع والمُبهِر التي يحقّقه الجيش الأحمر السوفياتي في تلك الأثناء؟ وقبل أن يواصل الغرب بتزييف تاريخ الحرب العالمية الثانية ويُظهر كما يدّعي اليوم، بأنه هو مَن حقّق هزيمة هتلر على كل الجبهات، واليابان أيضاً، وليس الجيش الأحمر السوفياتي، سأذكّرهم بالتالي:
في يوم 09 آب/ أغسطس 1945، شنّت الجيوش السوفياتية، عملية اقتحام وهجوم استراتيجية على منشوريا، تعتبر أعجوبة عسكرية، لضرب وطرد القوات اليابانية من هناك وعلى طول الحدود الصينية المنغولية. وفي هذه الحملة العبقرية تمكّنت فرق الجيش الأحمر السوفياتي من سحق الجيش الياباني، وفرض السوفيات سيطرتهم الكاملة على منشوريا. استسلمت كامل القوات اليابانية المتواجدة في المنطقة للجيش الأحمر، وبلغ عدد المُستسلمين 700,000 جندي ياباني، وأخذ الجيش الأحمر منشوكو ومينغجيانغ (منغوليا الداخلية)، وشمالي كوريا وجنوب ساخالين وجزر كوريل.
صُدِم الأميركان من هذه النجاحات السوفياتية الخاطفة والباهرة، وتخوّف الأميركان من دخول الجيش الأحمر السوفياتي إلى الصين، واحتلاله اليابان نفسها، كما فعل الجيش الأحمر في ألمانيا، بوصوله إلى مقر هتلر نفسه وقيادة الجيوش الألمانية ورُفع العلم السوفياتي فوقها، قبل 75 عاماً من اليوم.
استسلمت اليابان بعد هذه الهزيمة لقوات الحلفاء ورفعت الرايات البيض، لكن لم تكتف الولايات المتحدة برفع الرايات البيض في اليابان، وبموجب أمر رئاسي تنفيذي أصدره الرئيس هاري ترومان، في التاسع من شهر آب\ أغسطس، قامت الطائرات الأميركية بإلقاء السلاح النووي "الولد الصغير" على مدينة هيروشيما فقتلت أكثر من 140,000، وبعدها ألقيت قنبلة "الرجل البدين" على مدينة ناكازاكي، وقتلت ما يزيد عن 80،000.
الهدف الرئيس من وراء هذه الوحشية المفرطة بضرب المدنيين العُزَّل في هاتين المدينتين في بلد كان للتوّ قد أعلن الاستسلام، كان هو بالتحديد الإعلان للعالم وللاتحاد السوفياتي بالذات، الذي أظهر على عكس ما كان مرجوّاً له من هزيمة ساحقة ماحِقة عل يد جيوش الفاشية. بل على العكس من كل ذلك أظهر قوّة لم يتوقّعها الغرب في تكبيد اليابان وألمانيا هزائم ساحقة. القنابل ضربت لتعلن الولايات المتحدة الأميركية بأنها تمتلك سلاحاً يشكّل كابوساً للبشرية، رهيباً ومرعباً ويأتي بالدمار الشامل، والفناء الكامل.
اليوم، اليابان ورغم كل إنجازاتها الصناعية والتطوّر الذي حقّقته، إلا أنها لا تزال تعتبر دولة عملياً تحت سيطرة الولايات المتحدة ورغم انتهاء الاحتلال الأميركي لجزيرة أوكيناوا في عام 1972، إلا أن القواعد الأميركية منتشرة فيها وتجبر الولايات المتحدة اليابان على دفع 6 مليارات دولار سنوياً لصيانة القواعد الأميركية على ترابها. أهم بنود الاتفاقية الأمنية الأميركية - اليابانية التي وقّعت عام 1951 المادة الأولى: تحدّد واجبات القوات الأميركية في اليابان "حماية اليابان من أيّ اعتداء خارجي أو اضطرابات داخلية واسعة ضد السلطات اليابانية".
المحتل سيحمي البلد من اعتداء خارجي، والأهم سيقمع الشعب الياباني إذا ثار ضد السلطات اليابانية المفروضة أميركياً بقوّة السلاح الأميركي، أي بقوّة "الولد الصغير" و "الرجل البدين".
في حين أن الصين كحضارةٍ وكشعبٍ وقبل أن تكون دولة اشتراكية عصريّة، كانت تواجه الفاشية اليابانية والعدوان الأوروبي والغربي المستمر، وحروب الأفيون البريطانية. قاد "ماو تسي تونغ"، مؤسّس الصين الحديثة، وبدعمٍ وإسنادٍ سوفياتي حقيقي، ثورة عمالية فلاحية عظيمة، ضد الاستعمار وبقايا الاستعمار والتخلّف.
هذا الشعب الصيني العظيم، صبر وكابد الأمرّين، في رحلة تحقيق النهضة وإعادة البناء والتصنيع والتطوير، وقد استطاع أن يبعث الحياة من جديد في حضارته الصينية العظيمة، التي نُهِبت ودُمّرت على يد الغازي الغربي والياباني.
من خلال الانضباط والالتزام الاجتماعي والادخار والتقشّف، وحرمان الشعب الصيني لنفسه من ملذّات نماذج الاستهلاك الرأسمالية، نجح في إنشاء بنى تحتية مُتطوّرة وخَلْق نظام تعليمي مُتقدّم جداً يوفّر مستقبلاً كريماً لهم ولأبنائهم.
في حين يغرّد ترامب يومياً، قائلاً بأن الصين سرقت الاختراعات التكنولوجية الغربية والأسرار التجارية وحقوق الملكية الفكرية. مَن يقول ذلك، دونالد ترامب، الذي يسعى إلى لوم الصين على جهله وفشله في إدارة شؤون بلده. والصورة الأكثر سطوعاً، هي أن المجتمع الغربي بشكلٍ عام تخلّى عن روح الجماعة والمجتمع والتضحية بالنفس، التقشّف وشدّ الحِزام، كما فعل ويفعل الشعب الصيني، بل نجد مجتمعات تنغمس في سياسات تشجّع الاستهلاك وتسوّق الاقتراض لإشباع شهوات الاستهلاك الرأسمالي المُتعاظِم، مؤمنة بتحقيق النمو الاقتصادي من خلال الصرف والاقتراض على الاستهلاك لإشباع الرغبات الفردية. لاحظ تقديس النماذج الفردية والإسراف في تلبية رغباتها، ورفض المتعاظم لروح الجماعة، وتحلّل فكرة المجتمع والابتعاد عن المفهوم الكلاسيكي للأسرة كأساسٍ للمجتمع ووحدته البنيوية.
خلال عام 2018 أنفقت الصين كدولةٍ أكثر من 300 مليار دولار أميركي على البحث العلمي وحده. هذا أعلى مما تنفقه دول أوروبا الغربية وأعضاء الاتحاد الأوروبي مجتمعين، والذي لم يتجاوز 280 مليار يورو عام 2019 أي بنسبة (2.03 %) من الناتج المحلي الإجمالي.
في حين تنفق الصين نسبة (2.08 %)، هذه الأرقام وفق هيئة الإحصاء الأوروبية. خلال سنوات قليلة ولا تُذكَر في عُمر الشعوب، وبروح الكفاح الثوري وخطط التنمية المركزية، والحرب المستمرة على الفاسدين، كباراً وصغاراً، بالعطاء ونُكران الذات، وتحت إشراف قيادة ثورية صينية صلبة استلهمت غدها من عراقة أمسها. بالعمل الدؤوب من أجل تحقيق مستقبل كريم لكل فئات وأفراد الشعب الصيني. حقّقت الصين المُعجزة، النهضة، القفزة، الرخاء والرفاه لأكثر من مليار وثلاثمائة مليون صيني، خلال عشرات السنوات من دون أن تحتل الصين دولة أخرى أو أن تقوم بنهب خيرات وثروات أمم وشعوب ضعيفة. لم تستعبد ولم تسخّر شعوباً لتعمل لها بالمجّان أو بفتات الخبز، لتراكم الثروات، كما فعلت الإمبراطوريات الغربية قاطبة.
أنجزت الدولة الصينية المعاصرة، تنمية شاملة، وبسموّ أخلاقي واضح للعيان. أول مَن يحسدها على هذا النجاح، هو العالم الغربي، الذي استمر يغزو وينهب ويستعمر شعوب الأرض ويسفك الدماء، ولعدّة قرون في سبيل تحقيق مُراكمة رأس المال والثروات. الشعب الصيني ليس ضعيفاً، بل هو صانع مُعجزة وانتصارات هذا العصر، هو سيّد وطنه وهو حاضِنة لمصانع الكرة الأرضية.
في هذه الأثناء حيث تفتك جائِحة كورونا في غرب وشرق الأرض. شاهدنا مُعجزة أخرى، كيف سيطرت الصين على الجائِحة، وكيف أذهلت العالم بشعبها الذي أظهر انضباطاً وحسّاً وطنياً عالياً، وشاهدنا كيف سخّرت الدولة التكنلوجيا فائقة التطوّر بطرق غير مسبوقة في خدمة الناس في بيوتهم وهي تشنّ حربها على الفيروس.