من العراق إلى لبنان.. السيادة في مواجهة رأس المال المالي

هل هو عجز أميركيّ عن المواجهة أو استنفاد لطاقة الولايات المتّحدة بحركة رأس المال المالي؟

  • من العراق إلى لبنان.. السيادة في مواجهة رأس المال المالي
    من العراق إلى لبنان.. السيادة في مواجهة رأس المال المالي

عبَرت مختلف الدول العربية مراحل عديدة حتّمت عليها التغيير والتأطّر بأدوار ثقافيّة وسياسيّة وفقاً لفلسفة العصر والنسق الثقافي الَّذي حمله مفكّرو هذه الأدوار. 

مرَّت هذه الدول بمرحلة كيان الدّولة الإسلامية الموحّد، إلى مرحلة كيان خاضع للمستعمر وسياساته القمعية. توزّعت كيانات هذه الدول تحت راية الاستعمار القديم الَّذي اتبع منهج الاستعمار الكامل الذي شمل الأرض والإنسان، إلى كيان باحث عن الهوية بعد حركات التحرّر وانتقاله إلى النزعة القومية، لينتهي الأمر إلى الانكفاء ضمن إطار هُوية الدولة الوطنية، ليصل في نهاية القرن العشرين إلى كيان معرّض للتفكّك والتجزئة بفعل عوامل داخليّة وخارجيّة.

نتج من العامل الأخير خليط من القوى المتناحرة التي أثقلت كيان الدولة الوطنية، وأفلتت إشكاليّة الهوية الأزمة بين الهوية الحضارية والتبعية العرقية للثقافات المستوردة وأفرزت كماً هائلاً من الأجندات. حاولت الهوية الحضارية أن تواجه هذه الأجندات، لتصدّ أنواعاً عديدة من المناهج التي تحاول ضرب الجدار الأساس الذي تقف عليه نواة الدولة الوطنية، ألا وهو وحدة أبنائها نحو هدف الحفاظ على هذا الكيان.

واليوم لا يختلف كثيراً عن الأمس. تمر في هذه الأيام أزمات في بعض البلاد العربية، ومنها العراق ولبنان وسوريا، بدأت تأخذ منحى تصاعدياً يؤثر في الإرادة الحاكمة في البلاد. ومع التحفّظ على خصوصيّة السّاحة العراقيّة، على الرغم من أن هذه البلاد تعاني من أزمات عديدة بسبب التدخّل الغربي فيها، وخصوصاً الولايات المتحدة، فإنَّها تشهد اليوم عملية إحداث تغيير في العملية السياسية التي تمّت بإشراف الولايات المتحدة بعد العام 2003.

آخر رؤساء الوزراء العراقيين اليوم هو مصطفى الكاظمي، الذي جاء بعد مخاض عسير مرّ به العراق، ورافقه غضب الجماهير بسبب الفشل الحكومي في العبور بالدولة العراقية نحو تخطّي أزمتها، كما رافق غضب الجماهير أجندات أرادت عدم التفريط بقبضتها على مفاصل الدولة العراقية.

جاء الكاظمي على أساس أن يقوم بتفعيل قوانين للانتخابات المبكرة المزمَع عقدها لانتخاب رئيس وزراء جديد، إلا أنّنا نلاحظ أنَّ ما يقوم به هو عملية تغيير هادئة تحت ضغط فشل الوزارات في أداء مهامها، في ظل نزف جرّاء فشل في المجال الصحّي وتداعيات وباء كورونا، وبنية تحتية مدمّرة، وميزانية غير قادرة على تمويل العاملين والموظّفين للأشهر القادمة، وقيادات في إقليم كردستان تمتصّ ثروات الدولة بكاملها، مع إنفاق حكومي معدوم من الرؤى المستقبلية، وتعدٍّ عسكري من قِبَل تركيا على سيادة العراق وصولاً إلى اجتياح مناطق شمالي بلاد.

من خلال هذا الركام، يبادر الكاظمي إلى إعادة التنسيق مع الولايات المتحدة لمعاهدة الإطار الاستراتيجي، على أن يتمّ التعمّق خلال الشهر المقبل في معظم بنودها، بما يخدم مصلحة البلدين. ومن ضمن بنود هذه الاتفاقيات، ضلوع الولايات المتحدة من خلال شركاتها في العمل في العراق.

في هذه الأثناء، يقوم الكاظمي بتغيير الوزارات وتطعيم الدولة العراقية بكوادر عسكرية وأمنية وإعلامية معارضة للنهج الثقافي والسياسي السابق وموالية للتغيير، وفق مبدأ المنفعة، على اعتبار أنَّ معظم الكتل أثبتت فشلها في تنمية هذه الكوادر الملحقة بالعملية السياسية العراقية التي أضافها الكاظمي، وهي شخصيات تلاحقها اتهامات تطبيع مع الكيان الصهيوني. 

أما مالياً، فيعتبر البنك المركزي العراقي الّذي يرأسه حالياً علي محمد إسماعيل العلاق، الواجهة الّتي تعطي صورة عن واقع الاقتصاد العراقي، ومدى سلطة هذا البنك أو مدى تبعيته لمصلحة الدولة العراقية. أصبح البنك بعد العام 2003 ذا تبعيّة إدارية للحكومة العراقية، وبات مستقلاً مالياً وإدارياً، وصارت علاقاته مباشرة مع مجلس النواب العراقي. يقول العلاق: "يُدار الاحتياطي العراقي من العملة من حيث النوعية والأداء وفق قواعد تحكم جميع بنوك العالم".

ومن خلال الاطّلاع على الجداول السنوية التي يصدرها البنك المركزي العراقي، نلاحظ أنَّ الهيكلية المالية فيه، الخاصة بالوضع الاقتصادي والصناعي العراقي، تشهد جميعها تراجعاً يصل إلى درجة الصفر، أو حتى ناقص تحت الصفر، لصالح الاقتراض، لغرض تأمين العملة في الأسواق المحلية. 

ومن خلال إصدار البنك تعليمات حول الشركات الأجنبية العاملة في العراق بتاريخ 17/5/2020، طلب البنك المركزي من البنوك العراقية الأخرى معاملة الشركات الأجنبية معاملة الشركات العراقية، مع التأكيد على الضمانات معها. 

من خلال هذه العوامل آنفة الذكر، ومن خلال رأس المال الذي يجتاح هذه البلاد بطرق عديدة، أخذ هذا البنك يمارس عملية إلحاق متعددة الأوجة للنظام المالي العراقي وربطه بشبكة رأس المال العالمي، من خلال خطة مدروسة، الظاهر منها منشور في الصَّفحة الرسمية للبنك: القروض والديون، أسعار البترول، تصنيف العراق دولة فاشلة اقتصادياً، تقديم المعونات عن طريق حكومة موالية تسمح بتوغّل الشركات المتعددة الجنسيات، وخصوصاً بعد أن تم إقرار قانون تشجيع القطاع الخاص.

 

موازين القوى في الداخل العراقي 

يجري إعادة تأهيل السّاحة العراقيّة من خلال السماح بعودة مجموعة من الشخصيات الملاحقة قانونياً بتهم الإرهاب. وقد تزامن ذلك مع إقرار قانون قيصر على سوريا، ووضعه موضع التنفيذ.

وبما أنّ هؤلاء العائدين هم من النخب ذات النفوذ في مناطق غرب العراق والمحاذية لسوريا، فإنهم من المرشّحين لقيادة المرحلة المقبلة، كنوع من توجيه ضربة إلى الداخل العراقي، وخصوصاً الحشد الشعبي وقياداته المقاومة وأحزاب عراقية لاحقتهم قضائياً، كما يعتبر نوعاً من التحدّي لضفتي العراق الشرقية والغربية، سوريا وإيران، والخط المموّل لمحور المقاومة.

من المُحتم على القيادات العراقية التصدّي القضائي لعودة هذه الشخصيات المتهمة بالإرهاب، من خلال الطعن بقرارات القضاء، وفق أدلّة جنائية جديدة مدعومة بالوثائق، وإيجاد نقطة الوصل بين العامل المحرّك لهؤلاء الإرهابيين، سواء كانوا في الأردن أو في دول الخليج، وعلاقات هذه الدول مع الكيان الصهيوني وأزلام البعث المنحل، وعلى رأسهم ابنة صدّام، وبين المسار الذي يراد أن يأخذ العملية السياسية في العراق.

كل هذا يتم من خلال حكومة الكاظمي، الّذي يعتبر إحدى الأيدي التي عملت على تسليم أرشيف الدولة العراقية لمؤسّسات البحث ومؤسّسات استراتيجية أميركية، علماً أن معظم من يشترك في هذه المراكز البحثية ينحدرون من أصول صهيونية. والمثير في الأمر أن بعض الباحثين في هذه المراكز من أصول عراقية، ويعملون كمستشارين للحكومات العراقية، ومعظم هذه المراكز تابعة من ناحية التمويل للبنك الدولي.

الكاظمي قادم من بريطانيا التي تعتبر أحد المنابع الأصلية لبلورة الليبرالية، إضافةً إلى هولندا والدنمارك وبلجيكا (تجدر الإشارة هنا إلى العلاقة التي تكمن في خط التشيّع العراقي القاطن في بريطانيا، والضغوط التي تتحكّم به، ومحاولة نقل الرؤى التي يؤمن بها في ظل النظام الليبرالي إلى العراق، ومحاولة زرع رؤى لا تخدم العراق).

من خلال ما تقدّم، نلاحظ وجود تصميم على تغيير الهيكلية الثقافية الاجتماعية العراقية. إذاً، النواحي التي يراد لها أن تبلغ ذروة النضوج في الساحة العراقية هي: نضوج التغيير الثقافي الذي سيتبعه التغيير السياسي من خلال إظهار فشل رئاسة الوزراء تحديداً دون الآخرين - رئاسة الوزراء العراقية تتحرّك ضمن منظومة تريد إفشالها، ألا وهي المنظومة الليبرالية القادمة للعراق في العام 2003 - في احتواء الأزمات التي تعصف بالدولة العراقية، وتحميلها بالمجمل لهذه الجهة بالذات، لأنها تمثل منهجاً ثقافياً طاغياً على الشعب، ويراد كسر هذا المنهج عن عمد، ومن دون المساس بالمناهج الأخرى المشاركة في الحكم، سواء الكردي الانفصالي أو السنّي الباحث عن عودته إلى قيادة الدولة العراقية، ولو بحزب البعث، لإفساح مجال للنهج البعثي مرة أخرى وعلناً. 

إنَّ عودة ممثلين سابقين لحزب البعث دليل على نضوج مشروع المرحلة القادمة، وهو لن يتم من دون مقابل من قِبَل دوائر الاستعمار العالمي، ليكون العراق بين خيارين، إما دولة فاشلة بقيادة غير متجانسة تستنزف الدولة، وإما دولة ليبرالية ينعم في ظلها رأس المال المالي بسلطة لا بأس بها في التحكّم بسيادة الدولة العراقية، وهذا ما سيتم تفصيله في الشهر القادم مع الجانب الأميركي.

 

سلطة رأس المال للتحكم بالسيادة الوطنية

إذاً، ما هو رأس المال المالي؟ وكيف يكسب سلطته على اكتساح البلاد؟ إنه ليس بالأمر الجديد، حيث اعتبر منذ بدايات تراكم رأس المال أنه الوسيلة التي تساعد على التوسّع في العالم. يعرّف فلاديمير لينين رأس المال المالي بالقول: "هو نتيجة اندماج مجموعة من البنوك الاحتكارية الكبرى برأسمال اتحادات الصناعيين الاحتكارية، والذي ينتج منه استعمار الدول صناعياً واقتصادياً ومالياً من دون عائق".

من هنا، يتّضح أنَّ النخب المسيطرة على الاقتصاد والإقطاعيات المالية في هذه البلاد هي النخبة الّتي توفر الغطاء للشركات المتعدّدة الجنسيات، ومن خلفه رأس المال المالي. وهنا تكمن مهمة هذه النخب في الاعتماد على الحلول التي تطرح من البنك الدولي أو صندوق النقد، والقبول بالحلول السياسية التي تلائم المصلحة العليا للولايات المتحدة وعولمة حركة رأس المال، فيتم إغراق الدول بالديون والقروض، إلى درجة أنها تصبح عالقة بين كماشة الواضع الاقتصادي الراهن القائم على فشل خطط التنمية، فتسقط البلاد في دوامة التضخّم وغلاء المعيشة وجيل مهدّد بانعدام التخطيط، سواء في الصناعة أو الزراعة، ما ينعكس سلباً على خزينة الدولة وإنفاقاتها الضخمة، وبين إلحاق ثقل هذه الديون لأجيال المستقبل، فيتم ربط الدول بالمنظومة الاقتصادية التابعة لرأس المال المالي، ليصبح الجهاز الذي يقود الدول مستقل بقراراته عن الدولة الوطنية ومصلحتها العليا، فيكون المجال مفتوحاً لإملاءات خارجية.

لكن في الوقت نفسه، علينا أن نشير إلى أنَّ هناك معوّقات عملت على وقف تثبيت سلطة رأس المال المالي، وأوقفت عولمة حركته، فبين إرادة الاقتصاد، تبرز إرادة دفاع الدّولة الوطنيّة عن نفسها.

يمثّل منهج المقاومة العقبة الأكبر أمام دخول حلول البنوك والشركات الاحتكارية. قامت المقاومة من خلال انتمائها إلى الشعب والوطن بالتصدّي باتجاهين، الأول إفشال النخب الموكله إليها مهمة تذليل قوة المقاومة، وإفشال حركة الجهات الدولية التي تمارس دور النخب الداخلية نفسه، لكن بإطار أممي دولي. 

هل ما تتعرّض له بعض البلاد العربيّة من تهديد للسيادة الوطنية من قبل المؤسّسات المالية هو مسألة قد تأخذ بالتوسّع إلى دول أخرى بحجم تفجّره نفسه في الساحة العراقية أو اللبنانية، أو أنه دليل على وجود خلاف في قلب النخب المسؤولة عن حركة رأس المال المالي؟ 

 

الحالة اللبنانية

لنتناول لبنان. كما هو معلوم، يُدار البلد من قبل إقطاعيات برجوازية تتمتع بإدارة سياسية، وتقوم إدارتها السياسية على تقسيم طائفي جغرافي. منظومة في المال تسيطر تقريباً على الاقتصاد اللبناني، من خلال علاقاتها مع المملكة العربية السعودية ومع الدول الغربية.

 وبالتالي، إنّ هذه النخب تسيطر على الاقتصاد والإرادة السياسيّة، وجميعها، بحكم الدَّعم الذي تتلقّاه، تقف في موقف تحاول فيه إضعاف دور المقاومة وحزب الله ومواقفه في المحافظة على سيادة الجغرافيا اللبنانية وما تحتويه من ثروات في برّها وبحرها، ولا سيّما مسألة حقول الغاز المكتشفة في حوض البلاد المطلّة على البحر المتوسط، ولبنان إحداها، وخصوصاً الأزمة التي تعصف اليوم به، وما يروّج له من مطالب صهيونية على لسان السفيرة الأميركية فيه ووزير الخارجية الأميركية، بنزع سلاح المقاومة، ما يعطي إيحاء بأنَّ الإرادة التي تقف خلف حركة رأس المال تحاول أن تعصف بإطار الدولة الوطنية بالقوة.

وعلى الرغم من الاختلاف في التفاصيل بين العراق وسوريا ولبنان، فإنَّ الهدف واحد، وهو محاولة سلطة البنوك الدولية الاشتراك في قيادة الدولة الوطنية أو إسقاط الدولة الوطنية الحالية، لإدخالها ضمن دائرة الاستعمار المالي أو تطبيق الرؤى والسياسات التي تخدم عولمة رأس المال. والهدف من هذه السياسات ضمان أمن الكيان الصهيوني. لذلك، نلاحظ التركيز على تعطيل الجانب النقدي والاقتصادي في لبنان، والإضرار بسعر صرف العملة، وغلاء المعيشة، لدفع الناس إلى الفلتان.

وبما أنَّ النخب والإقطاعيات، سواء السياسية أو الاقتصادية، تابعة لحركة رأس المال هذا، ولأن العديد من الشركات الأمّ التابعة ضمناً لرأس المال المالي، لديها من الفروع ما توغّل في اقتصاد البنوك اللبنانية ومنظومتها، فبالتالي إنَّ ما يسقط هو لبنان الذي تمثله هذه النخب، وليس لبنان الذي تمثله دولة وطنية تدافع عن نفسها بكلّ جوانب الدفاع، وخصوصاً لبنان المقاوم. لذلك، إنَّ ما يحدث في هذه البلاد لا يخرج عن أنه حدث مترابط سوف يُبنى عليه أفق لتحرّك استراتيجي لاحق لا يخرج عن موضوع تقييد المقاومة أو تحييدها.

إنَّ حزب الله هو حزب أصبح عنوان المقاومة عربياً، ونقطة ارتكاز يقوم عليها لبنان. ومن دونه، في خضمّ كل هذه الضغوط التي تحيط بلبنان، تكون مسيرة البلد ماضية نحو المجهول. لقد فات معظم باحثي مراكز الدراسات الأميركية من ذوي الأصول اللبنانية أنهم خطّ غدار لبلدهم، وتناسوا أن حزب الله نشأ في بيئة مجاورة للكيان الصهيوني، وفاتهم أيضاً أن هذا الحزب الذي يحمل اسم الله سبحانه وتعالى، يعتبر دافعاً معنوياً وعقائدياً طرد الكيان الصهيوني من أراضي الجنوب المحتلة، فلم يكن أيّ تأثير لما يعرف بحصار أو قانون أو حتى حرب يثنيه عن استمراريتهم في الدفاع عن لبنان، وما يصدق على حزب الله هنا يصدق على كل محور المقاومة.

ولو أردنا أن ننصف التاريخ مع المقاومة في لبنان، فإننا نقول إنَّها اتخذت من الكيان الصهيوني عدواً؛ هذا الكيان الذي تسنده دوائر الاستكبار العالمية، والذي يعتبر المغذّي لحركة الفعل ورد الفعل لعولمة رأس المال المالي في الشرق الأوسط تحديداً. 

هذه المقاومة الشّريفة بزعامة السيّد حسن نصرالله، مثلما تدافع عن الإنسانيَّة في وضع العقبات أمام سلطة الطاغوت، فإنها تعتبر داعش عدواً، وما أدراك ما داعش، ومن يقف خلفه، وهو الآتي تحت شعار خلافة على منهاج النبوّة!

إن أول ما قامت به هذه المنظمة الإرهابية أنها رفعت شعاراً سياسياً، وهو نسف حدود سايكس بيكو، وذبح المسلم المخالف لأنه محكوم سلفاً بأنه منافق، والمساهمة في تفتيت الدولة الوطنية، وإعلان كانتونات طائفية. هذا هو داعش الذي امتصّ بحركته القوى البشرية والاقتصادية، أينما كان، فهجّر الطاقات البشرية إلى مختلف دول العالم، وباع مخزون نفط العراق وسوريا بخمسة دولارات للبرميل الواحد إلى مختلف دول العالم، مدمّراً البنية التحتية.

اعتبر حزب الله العراق وسوريا امتداداً طبيعياً للبنان، وما يجري عليهما يجري عليه، فاستطاع في معظم المعارك التي دخلها، وخصوصاً في سوريا، أن يغيّر من معادلات موازين القوى بين قوّة اندفاع مجاميع الإرهاب ومموّليهم على الأرض إلى خسائر تحسب نتائجها لصالح سوريا دولياً. 

إجمالاً، إن مشروع داعش بكلّ الحيثيات السياسية الداخلية والدولية والمعنوية والعقائدية التي عملت على إنجاحه، فشل في العراق وسوريا ولبنان، بفضل منهج المقاومة الذي تم إسناده من قبل إيران الإسلامية. ومثلما يتم تصدير هذه المجاميع إلى مناطق أخرى، فسيتم خلق مقاومة تقف منه بالضدّ.

ومثلما تتمركز عملية تراكم رأس المال تاريخياً في الولايات المتحدة الأميركية، وتلحق دول العالم ضمن حركتها وسيطرتها، فإن محور المقاومة أصبحت له مركزية استقطاب أفرزت الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة على أنها عضو دولي فاعل في الساحة العالمية من جهة.

 

المقاومة ضد التبعية

لقد أظهرت إيران وجه الدبلوماسية الأميركية وفشلها في إدارة الحوار معها في مختلف الملفات، من الحصار الاقتصادي المفروض على إيران، إلى المعركة على الإرهاب، والملف النووي، وحظر بيع السلاح لها، ودورها في مساعدة العراق ضد داعش، ودورها مع روسيا في سوريا، ودورها في دعم حزب الله، ودورها أيضاً في دعم حركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني، كحماس والجهاد الإسلامي. استطاعت إيران ملء الفراغ الَّذي حدث جراء انحسار دول الخليج كلاعب أساسيّ. 

يتصاعد دور إيران في الخليج العربي الَّذي يعتبر مجالاً حيوياً له أهمية قصوى للولايات المتحدة، فهل هو سوء إدارة من قبل الإدارات الأميركية أو أنه تداعيات سياسية تفرض من قبل تحرّكات جيوسياسية واقتصادية؟ إنَّ الهدف من هذه الحركة هو تحقيق المكاسب، على اعتبار أن العالم يعتبر مجالاً حيوياً لأميركا، فتفشل في ذلك، فيتداعى الأمر على السياسة.

لا نريد الدخول في تفاصيل الخطوات الأميركية، لنكتفي فقط بأميركا ترامب. إن واجهة ترامب، كما قلنا سابقاً، هي واجهة تمثل إمبريالية رأس المال المالي الذي أراد أن يخلق أزمات بعد فشل مشروع داعش، فتنازل عن القدس والجولان، إلا أنَّه لم يصل إلى مبتغاه في تطبيق "صفقة القرن"، لتطوى صفحة ترامب الذي حمل معه تغييراً ثقافياً قائماً على العنصرية، ترجمها ببشاعتها أحد رجاله بقتل جورج فلويد علناً أمام الكاميرا.

 إنها عملية استنجاد إمبريالية بأحد الأسس التي قامت عليها، وكبديل لها من الخوض في حروب غير محسوبة النتائج. إنه تراجع أميركيّ نحو مربع الكانتونات الطائفية، وخصوصاً إذا جاء في الانتخابات القادمة جو بايدن، منظّر سياسة الأقاليم الطائفية، فذهب الكيان الصهيوني مع رئيس وزرائه نتنياهو ليبحث عن النصر وحيداً، لعلّه يجده في "صفقة القرن" وضم مناطق جديدة من فلسطين، إلا أنَّ قدرة الكيان على امتصاص ثورة حجارة جديدة ضعيفة، فلم يجد غير الأردن الذي يعتبر مجالاً حيوياً لامتصاص انتكاساته، فأعلن عن رغبة الكيان في ضم غور الأردن.

أما عالمياً، فإنَّ أميركا طوّرت مفهوم المجال الحيويّ، معتبرة العالم كله مجالاً حيوياً للمصالح الأميركية، أي بمعنى أن الشرق الأوسط والشرق الأقصى والاتحاد الأوروبي وأميركا اللاتينية مجال حيوي للمصلحة الأميركية. ومن هؤلاء نستطيع أن نميّز دول الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي وإيران، ووفق مفهوم استراتيجية الحرب الشاملة ونصف الحرب، هل تستطيع الولايات المتحدة قيادة حرب شاملة، في حال نشبت، ونصف حرب في بقعة أخرى؟