الحصار الأميركيّ.. دروس من دول "معاقَبة"!

هذه العبارات ليست شعارات لتخدير الشعوب من آلام الحصار والعقوبات واستبداد الدول الغربية، بل هي تاريخ طويل من النضال.

  • جعلت أميركا الكثير من الدول التي ترفض اتباع سياستها تعيش تحت وطأة الحصار الاقتصادي
    جعلت أميركا الكثير من الدول التي ترفض اتباع سياستها تعيش تحت وطأة الحصار الاقتصادي

بمئات الآلاف من السواعد، ومئة ألف ثور في زمن الآلات الحديثة، ما جاع شعب كوبا، وما باع شبراً من أرضه للمنظمات المالية العالمية. وبملايين الأصوات الثائرة، أخرج الشعب الإيراني المستكبرين من أرضه. وبآلاف الشهداء والجرحى، تقاوم سوريا الاحتلال، وتصمد أمام أكبر هجمة متعددة الأطراف... إنها ثلاث دول يجمع بينها عامل واحد هو التحدي.

هذه العبارات ليست شعارات لتخدير الشعوب من آلام الحصار والعقوبات واستبداد الدول الغربية، بل هي تاريخ طويل من النضال الذي شهده ويشهده العالم، في غياب الشرعية والقوانين الدولية التي تحمي الشعوب. هذا النضال هو الحل الوحيد أمام هذه الدول الثلاث.

لقد جعلت الولايات المتحدة الأميركية الكثير من الدول التي ترفض اتباع سياستها تعيش تحت وطأة الحصار الاقتصادي، ولم تختلف هذه السياسة الأميركية بتغير رؤسائها، فباراك أوباما الذي تفاءلت العديد من القيادات والشعوب به، سار على نهج أسلافه، والرئيس الحالي دونالد ترامب الذي وعد قبل انتخابه بأنه لن يخوض حروباً في الشرق الأوسط، لم يكد يدخل البيت الأبيض حتى بدأ سلسلة عقوبات على الكثير من الدول، ولم يتغيّر شيء، بل على العكس، ضاعف الأزمات!

وفي هذا السّياق، يؤكد جيفري ديفيد ساكس (Jeffrey David Sachs)، الاقتصادي الأميركي الشهير، أن ترامب "مستمر في سياسته الخارجية في سلسلة من الحصارات الاقتصادية القاسية، وكلّ منها مصمّم على إفزاع الدولة المستهدفة وإرغامها، وحتى تجويعها، لحملها على الخضوع للمطالب الأميركية". 

هذه النظرة التي يعبّر عنا ساكس كانت على الدوام هي النظرة الغربية إلى باقي العالم: دول "ضعيفة، مستسلمة، خانعة، يمكن التلاعب بها وبشعوبها". ولذلك، تستخدم العقوبات والتدخلات والحروب. صحيح أنها نجحت في الكثير من التجارب في تغيير الأنظمة والقادة، وجعل دولٍ تابعة لها، أو تركها غارقة في حروب أهلية طويلة، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها في حالات كثيرة. 

هنا، نستذكر ما قاله البروفيسور الأوغندي، ياش تاندون، في كتابه "التجارة حرب.. حرب الغرب على العالم": "الأقوياء لا يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون. هناك مقاومة من الأسفل. الشعوب في كل مكان تقوم بالابتكار وإيجاد طرق جديدة لمواجهة العدوان والظلم وعدم المساواة". 

ومن بين هذه الدول كوبا، التي تقدم، ولليوم، مثالاً عن مقاومة الدول الصغيرة لأعتى الدول وأقذر أنواع الحصار. هذه الدولة ليست غنية فقط بالنيكل (ثاني أكبر احتياطي في العالم بعد روسيا)، بل تملك أيضاً "احتياطاً" أكبر منه... إنّه العلم، ففي واحدة من المفارقات، نتج من الحصار الأميركي لكوبا أن عدد الأطباء في كوبا يفوق عدد الأطباء في الولايات المتحدة الأميركية بثلاث مرات!

كوبا اليوم تصدّر آلاف الأطباء إلى العالم. كوبا التي يذهب فيها المزارع للدراسة مساء، والتي يمتد فيها التعليم الإلزامي إلى المرحلة الثانوية، هي النموذج الذي اقتدى ويقتدي به أحرار العالم، فقد واجهت هذه الدولة أقسى أنواع الحصار باعتمادها على مواردها الذاتية. 

وإذا عدنا إلى الخلف، فقد كان أكبر تحدٍ لـ"الكوماتندي" فيدال كاسترو ورفيقه تشي غيفارا إنجاح المشروع الاقتصادي والاجتماعي الذي اعتمد على الإنسان الكوبي، عبر مجانية التعليم والصحة، وتوفير فرص عادلة في العمل والتدريب والتأهيل. 

وبذلك، نجحت كوبا في إلغاء الأمية، واستطاعت القضاء على الأوبئة والأمراض التي كانت موجودة في ذلك الوقت، كما أنها استطاعت تطوير الزراعة والصناعة الدوائية على وجه الخصوص، فأكثر من 60% من صادراتها، مثلاً، هو خدمات طبية، إضافةً إلى تحقيقها نجاحات باهرة في مجالات أخرى، مثل البحث العلمي والطب والرياضة. 

وبمعزل عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع سياسة كوبا الداخلية، التي ما زالت تنتهج رؤية الراحل فيديل كاسترو، فإن الأخير في تعريفه لنظام اقتصاد بلاده يقول: "لا توجد شيوعية ولا ماركسية، بل ديموقراطية نموذجية وعدالة اجتماعية في ظل اقتصاد منظم". هذا الاقتصاد هو الذي يحمي أسوار كوبا اليوم، وهو الذي أنهى عقوداً من الاستعمار الأميركي الذي كان يرى فيها حديقة يقضي فيها الإجازات وينهب خيراتها.

النّموذج الآخر للدول التي تقاتل يومياً بالعلم والعمل من أجل تنمية اقتصادها في ظل العقوبات والحصار، هو إيران، التي أصبحت قوية بعشرات المرات مما كانت عليه قبل فرض العقوبات عليها، والتي تعود إلى 1979، فطهران تعتمد منذ سنوات على سياسة اقتصادية أطلقها المرشد الأعلى للثورة الإسلامية السيد علي خامنئي، وهي "الاقتصاد المقاوم"، باستثمارها في الطاقات البشرية التي أدارت عجلة التنمية، ونجحت في العديد من المجالات، منها الزراعة والصناعات التحويلية والبحوث العلمية، وصولاً إلى الصناعات العسكرية.

في الحالتين الإيرانية والكوبية، يدرك الشعبان أسباب عداوة الولايات المتحدة لبلديهما، وهو ما يجعلهما يدافعان، وبشراسة، عن سياسة بلديهما وقادتهما، وهو ما جعلهما نموذجين في مقاومة الحصار. 

سوريا صديقة كوبا وإيران 

المثال الثالث على صمود الدول هو سوريا، لكنَّ الفرق بينها وبين إيران وكوبا أنَّ عاصمة الأمويين تشهد حرب استنزاف متعددة المستويات، تشكّل العقوبات أحدها فقط، فمنذ بداية الحرب عليها وحتى اليوم، كان واضحاً أن الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، كانت تخطط لتدمير سوريا اقتصادياً، من خلال قيام المجموعات المسلحة التي تديرها بتدمير البنى التحتية، وسرقة المصانع والنفط، وإحراق المحاصيل الزراعية، وتهجير الناس من بيوتهم، إضافة إلى فرض المزيد من العقوبات الجائرة التي بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، واشتدَّت وتيرتها مع الأزمة الحالية، ما أدى إلى تراجع النمو والتنمية بسبب تضرر القطاعات الحساسة التي كانت البلاد تعتمد عليها، كالنفط والزراعة والتجارة والصناعة، إضافة إلى السياحة.

السؤال المطروح هنا: هل سيبقى الحال على ما هو عليه إلى أمد طويل أو أنَّ للدولة السورية خططاً لإنعاش الاقتصاد وتخفيف معاناة مواطنيها؟ 

الخروج من الوضع الاقتصادي المتدهور الذي تمر به سوريا يحتاج إلى استراتيجية تعتمد على شحذ الهمم، وتطوير آلية التفكير والعمل، بالتوازي مع إجراء إصلاحات إدارية واقتصادية، وتطوير القدرات البشرية وتنميتها، وتوظيف الكفاءات العلمية والمهنية والحرفية.

واليقين أن سوريا قادرة على اجتياز هذا الوضع، والتاريخ يشهد على كل التجارب المؤلمة والصعبة التي مرت بها البلاد، لتعود وتكون أقوى في كل مرة. 

في العديد من الدول الَّتي فرضت عليها العقوبات، لم يكن الاستسلام هو منطق الأقوياء والمؤمنين بقوة أوطانهم، وقد نجحوا إلى حد كبير عبر الاعتماد على مواردهم الذاتية.