أليس الشّعب اللبناني مسؤول أيضاً عن انفجار بيروت؟

الشَّعب اللبناني تسبَّب بانفجار بيروت. كيف لا وهو من وضع هؤلاء في مناصبهم؟ كيف لا وهو متمسّك باعتقاده بأنَّ زعيمه دائماً وحصرياً على حقّ؟

  • الشعب اللبناني مشارك أيضاً في تفجير مرفأ بيروت لأنه انتخب هؤلاء السياسيين
    الشعب اللبناني مشارك أيضاً في تفجير مرفأ بيروت لأنه انتخب هؤلاء السياسيين

نعم، قلتها ومن دون تهكّم. هذه المرة يجب أن نعترف، وبكلِّ صدق، الآن، وبعد أن استقرَّ الغبار (ولم ولن تُشفى الجروح)، بأنّ السلطة السياسية تتحمّل مسؤولية ثانوية فقط. 

لست أدري لماذا لا نسمع اليوم إلّا بمن يلوم الطبقة السياسية الحاكمة أو سابقاتها، وكأن اللبنانيين كانوا بانتظار أن تذوب بيروت كي يُدركوا أن حكامهم فاسدون. إذا تجاهلنا حالات التلاعب في فرز وتعداد الأصوات التي لا شكَّ في أنها كانت تحصل، وإن لم تكن بكثرة، فلا بدَّ من أن نعترف بأنّ حكّام لبنان وصلوا إلى الحكم ديموقراطياً؛ وصلوا ديموقراطياً في العام 2018، ووصلوا ديموقراطياً في العام 2009، ووصلوا ديموقراطياً في العام 2005. وهذه السنوات الخمس عشرة، منذ العام 2005 إلى العام 2020، هي أشدّ سنوات الانشقاق المعاصر لدى الطبقة الاجتماعية اللبنانية.

من وجهة نظر الداروينية الاجتماعية، سياسيو لبنان ليسوا على خطأ. لا، بل ما فعلوه ويستمرون في فعله، مما له علاقة بتأمين استمرارهم وحماية عائلاتهم وممتلكاتهم ومحيطهم، يدلّ على ذكاء وحكمة وتصوّر وتأقلم مع التغيّرات المحلية والإقليمية كافة. هنيئاً لهم. هذه الدرجة وهذا النوع من الذكاء الشخصي (الذي يتظاهر أنه ذكاء سياسي) يتفوّقون به على معظم الحكام العرب الطامحين إلى الدكتاتورية، وبالتأكيد يتفوّقون به على أغلبية الشعب اللبناني. لو كنت شخصياً أتمتّع بذكاء كهذا، لكنت سعيت منذ سنوات إلى أن أصبح سياسياً في بلدي لبنان، لأنها قد تكون الوظيفة الوحيدة في العالم التي يُكافَأ فيها الموظّف عندما يخطئ. 

أنا لا أتكلَّم عن جرمهم، ولا عمّا كانوا مؤتمَنين عليه، أو ما كان من المفترض بهم أن يفعلوه أو لا يفعلوه، ولكن عن ذكائهم الذي يهنّئهم قلّة من الناس عليه، وعن تورّط الشعب اللبناني في هذه الجريمة، والذي لا يتكلّم أحد عنه.

إنَّ كلَّ من انتخبهم مشارك أيضاً في المسؤولية لأن انتخابات 2018 كانت الأكثر وفرة بخيارات بديلة رُفِضت من قبل أغلبية الشعب لأسباب تبدأ من الخوف من التغيير، إلى ما فُسّر عن مفهوم الدولة المدنية من أنه تخلٍّ عن الدين والطائفة، إلى فشل في القدرة على تخيّل لبنان كبلد طبيعيّ (معظمنا لم نعرفه إلا بوضع "مزرٍ")، وأخيراً إلى القول إنَّ هؤلاء الجدد "ما عندن وهرة" و"يلّي عم يطالبو في بيزبط بسويسرا مش بلبنان". باختصار، نقص في الثقافة السياسية وفي التخيّل البنّاء.

الشَّعب اللبناني تسبَّب بانفجار بيروت. كيف لا وهو من وضع هؤلاء في مناصبهم؟ كيف لا وهو، حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها، متمسّك باعتقاده بأنَّ زعيمه دائماً وحصرياً على حقّ؟ أنا أُقدّر، وهذا فقط تقدير متواضع، أنه وعلى الرغم من كلّ ما حصل، لا يوجد في لبنان اليوم أكثر من 15 إلى 20% من مواطنين لا ارتباط فعلياً لهم بأحزاب الحرب. أما الباقون (80%)، فيفضّلون الجوع على أن تُمسّ "كرامة" زعيم طائفتهم، ولكن هذا لا يعني أن 80% من اللبنانيين في لبنان أغبياء أو أشرار مثل زعمائهم. 

أعتقد أنّ هناك عدداً لا يتعدّى 20% من هؤلاء الـ80% الذين هم فعلاً متعصّبون وعنصريون وكارهون لكلّ ما هو على اختلاف منهم، مسلمين كانوا أم مسيحيين. هؤلاء هم الأشرار الحقيقيون الذين يُفرَض علينا جميعاً محاربتهم أينما وُجدوا. أما الباقون، الـ80% من الـ80% الذين يشكّلون أغلبية الشعب اللبناني في لبنان، فهم ليسوا أغبياء ولا أشراراً.

الـ918 شخصاً الذين ماتوا، معظمهم انتحاراً، وفي يوم واحد، في "جونزتاون" في غايانا، لم يكونوا أغبياء ولا أشراراً، لكنهم وجدوا أنفسهم تحت تأثير شخص اسمه جيم جونز، وهو رجل ذو "كاريزما" عالية جداً، نجح في إقناعهم بأنه يملك خلاصهم. ولأن أحوالهم الشخصية والنفسية كانت مضطربة وحائرة ومتعطّشة إلى تغيير ما، كانوا فريسة البلاغة في الإقناع بالأهداف السامية - الفارغة، وقاموا بالانتحار وقتل أبنائهم (من لم يقتنعوا) تسميماً. 

هذا هو سيناريو الـ80% من الـ80% بنكهته اللبنانية.

شعب خرج من الحرب مستعداً للقبول بأي شيء، مضطرب الهوية، حائر الانتماء، متعطشاً إلى أي مجموعة "تلمّه"، وربما من قلة الخيارات آنذاك، أو من قلة المعرفة بالخيارات المتاحة، قرّر الانضمام والانصياع إلى مجموعات طائفيّة ذات زعماء بشخصيات جذّابة نجحت في إقناعهم بأنها وحدها من تمتلك الخلاص.

من المعروف علمياً بأنَّ من الصعب جداً على الإنسان التخلّي عن عادات ومعتقدات قديمة كانت قد ترسّخت في العقل والوجدان ومن أصعبها المعتقدات الدينية والسياسية، فكيف لو كانت كلاهما موجودتين في آن واحد، في تبريرنا لارتباطنا بهذه المجموعات؟

 ولكن هذا هو الوضع، فما العمل؟

التخلي، حتى لو بالقوّة (على أنفسنا). حتى ولو اضطررنا إلى اللجوء إلى أساليب غير تقليدية، مثل إعادة تكرار جملة "بحبّو، بس خِلص دَورو"، أو "في يحميلي طايفتي حتّى لو ما كان بالحكم"، أو "كان نضال حلو بس هلأ ممكن يفيد البلد أكتر إذا كان برّات السلطة"، أو "أنا مش عم إتخلّى عن مبادئي إذا فضّلت الوطن على الزعيم". 

اختر الجملة التي تناسبك. ابتكر جملاً مختلفة. كن خلّاقاً، حتى لو بهدف التغيير المؤقت، لتجربة الخيارات الأخرى فقط. 

اليوم، وبعد الفشل التاريخيّ، ليس هناك مبرّر منطقي لمن لا يزال في جمهور هذه المجموعات يحارب الطواحين. العزلة باتت أفضل من شعور الانتماء إليهم، ويجب العودة إلى الفردية لنعيد الحسابات. وكلّ من لا يستطيع العثور على الشجاعة الكافية لينظر إلى نفسه في المرآة، ويقول إنه على استعداد كامل للاطلاع على الخيارات الأخرى، فهو، للأسف، يقف على حافة الغباء.

في الساعة السادسة و 6 دقائق من عصر يوم الرابع من آب/أغسطس هز انفجار ضخم العاصمة اللبنانية ووصل صداه إلى مناطق بعيدة. شحنةٌ من نترات الأمونيوم مخزنة منذ سنوات في مرفأ بيروت انفجرت وحولت المرفأ ومحيطه إلى أثر بعد عين.