الوطنية والمواطنة بين فكرين

الوطنية والمواطنة شكّلتا عنواناً لأزمة في الفكر السياسي الإسلامي، وتلك الأزمة متعددة الأسباب والمصادر، منها عدم القدرة على تفكيك المفهومين نظراً إلى تداخلهما وتمايزهما في الوقت نفسه.

  • الوطنية والمواطنة بين فكرين
    الوطنية والمواطنة شكّلتا عنواناً لأزمة في الفكر السياسي الإسلامي

حين خرج رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من مكَّة مُهاجراً إلى المدينة، التفت إليها قائلاً: "ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ! ولولا أنَّ قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك"، وحين رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) رجُلاً من أهل الذمة يتسوّل في الطريق، أمسك بيده قائلاً: "والله ما أنصفناك! نأخذ منك شاباً، ثم نضيعك شيخاً"، فأخذه إلى بيت المال، وقال لخازنه: "افرض لهذا وأمثاله من بيت المال ما يُغنيه ويُغني عياله".

الحديث النبوي يتضمن جوهر الوطنية وأسمى معانيها المؤكّدة لحب الوطن وتفضيله على غيره من البلاد، والسياسة العُمرية تجاه أهل الذمة تُجسّد صميم المواطنة وأرقى قيمها المرسخة لمفهومي التوازن بين الواجبات (ضريبة الجزية) والحقوق (الضمان الاجتماعي)، والمساواة بين مواطني الدولة المسلمين وغير المسلمين. 

هذه المعاني والقيم لم تستمر بهذا الوضوح الموجود في صدر الإسلام، فقد خلف من بعدهم خلف أضاعوا التسامح واتبعوا التشدد، فرأوا في الغلو تديناً، وفي التطرف ورعاً، وفي التعصّب زهداً، فنثروا بذورهم الفكرية الجافة في أرضٍ صحراوية قاحلة، فأنبتت أشجاراً من أصل التصلّب والجمود، ثمارها بطعم التحجّر والركود، تجرّعها المسلمون كُرهاً، وبلعوها قهراً، فأصابتهم وعكة عقلية وعلّة فكرية، فتعطَّلت لغة الإبداع والابتكار، وفسدت ملكة الاجتهاد والتجديد، ونال فكرهم السياسي من ذلك نصيب، وما الارتباك في تحديد مفهومي الوطنية والمواطنة عن ذلك ببعيد!

الوطنية والمواطنة شكّلتا عنواناً لأزمة في الفكر السياسي الإسلامي، وتلك الأزمة متعددة الأسباب والمصادر، منها عدم القدرة على تفكيك المفهومين، نظراً إلى تداخلهما وتمايزهما في الوقت نفسه، فعلى الرغم من أنَّ الوطنية والمواطنة أصلهما اللغوي واحد من "الوطن"، بمعنى المكان الذي ولد فيه الإنسان ونشأ وسكن، فأصبح موطنه، بما فيه من جماعة بشرية (الأرض والناس)، ولكنهما يختلفان من حيث الاصطلاح، فالوطنية مفهوم ذو مضمون عاطفيّ يرتبط بمشاعر الحبّ والإخلاص والانتماء إلى الأرض والجماعة (الوطن)، ويُقاس بالاستعداد للتضحية من أجله، والمواطنة مفهوم ذو مضمون قانوني يرتبط بمفاهيم الجنسية والمسؤولية والالتزام بقوانين الدولة، ويُقاس بمدى الالتزام بالواجبات والحقوق القانونية. 

ومن أسباب الأزمة ومصادرها هو العجز عن التوفيق بين ثنائيات النص والعقل، والتراث والتجديد، والتقليد والاجتهاد، والنصوص الجزئية والمقاصد الكلية، وثوابت الدين ومتغيرات العصر. 

ومن مصادر الأزمة كذلك، إشكالية الفكر العربي المُعاصر الذي جعل الوطنية والمواطنة بديلاً من الإسلام، عندما استورد مضموناً إيديولوجياً مناقضاً له كمرجعية للوطنية والمواطنة، كالعلمانية اللادينية والاشتراكية المُلحدة، أو جعلهما بديلاً من العروبة عندما ارتدَّ إلى وطنيات ما قبل العروبة، كالفرعونية والفينيقية، أو جعلهما بديلاً من الوطن، عندما استدعى ولاءات ما دون الوطنية، كالقبلية والطائفية والحزبية، أو جعلهما بديلاً من الوطنية نفسها عندما ربط مفهوم الوطنية بطاعة أولي الأمر في الأنظمة الحاكمة، أو جعلهما بديلاً من المواطنة نفسها عندما اشترط الخضوع للنظام السياسي للتمتع بحقوق المواطنة.

مهما كان مصدر الأزمة في الفكر السياسيّ الإسلاميّ وأسبابها، فالنتيجة ارتباك في الموقف من الوطنية والمواطنة. ولعلَّ أحد مظاهر ذلك الارتباك، بروز اتجاهين فكريين ما بين التقليد والتجديد، فالاتجاه التقليدي لا يرى في الوطنية أي قيمة خارج رابطة العقيدة، ولا يعترف بوجود الوطن خارج الشريعة، ولا يُقر بأي انتماء إلى الجماعة بعيداً من الأمة الإسلامية. 

وفي هذا المعنى، قال مؤسس جماعة الإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا: "إنَّ رابطة العقيدة أقوى من كل الروابط، وإننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وإنَّ أساس وطن المسلم العقيدة"، وقال مؤسس الجماعة الإسلامية في باكستان أبو الأعلى المودودي: "لو كان ثمة عدو لدعوة الإسلام بعد الكفر والشرك، فهو شيطان القوم والوطن"، وقال المفكر الإسلامي سيد قطب في المعالم: "لا وطن للمسلم إلا الذي تُقام فيه شريعة الله... ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته".

أما مفهوم المواطنة، فظل مُقيّداً بمفهوم "أهل الذمة" في صورته المتطرفة المُعتمدة على ممارسات تاريخية في عصور إسلامية متأخرة، أكثر من اعتماده على أحكام النصوص القطعية، المُعتمدة على تراث فقهي من عصور الانحطاط أكثر من اعتمادها على مقاصد الدين الكلية. 

وفي هذا الإطار، أبدعت المدرسة السلفية تخلّفاً وتعصباً، فتنافس أقطاب التيار السلفي المصري في إصدار فتاوى التصغير والتحقير ضد نصارى مصر الأقباط، بهدف وحيد هو نزع حقوق المواطنة من المصريين الأقباط، وهدم العلاقات الودية بين المصريين المسلمين والنصارى، بتحريم رد السلام عليهم، وتهنئتهم في أعيادهم، وإظهار المحبة لهم، والتبسم في وجوههم... ولم يكن جهّال داعش بعيدين من ذلك، فأصدروا القوانين العديدة عندما كانت دولتهم باقية وتتمدد، قبل أن تزول وتتبدد، ومحورها الوحيد هو إذلال وإهانة غير المسلمين من السوريين والعراقيين، وتحويلهم إلى مواطنين من الدرجة العاشرة، بعد أنَّ حوّلوا المسلمين إلى رعايا ليس لهم إلا السير مع قطيع الخراف أو الذبح كالخراف.

الاتجاه التّجديدي يتفق مع الاتجاه التقليدي في مفهوم الوطنية من زاوية حب الوطن والدفاع عنه، كفريضة دينية بنص الحديث النبوي: "من قُتل دون أرضه فهو شهيد"، وبنصوص الآيات القرآنية التي تدعو إلى التصدي للعدوان، ورفض الظلم، ومقاومة الإخراج من الوطن، ولكن يختلف الاتجاهان في مفهوم "الجماعة الوطنية"، كما استنبطه مؤسس حركة النهضة التونسية راشد الغنوشي من نصّ "صحيفة المدينة" التي اعتبرت "أن اليهود والمسلمين أمة"، سمّاها أمة الوطن على اختلاف الدين. 

والخلاف موجود في مفهوم "الأخوّة الوطنية" الذي استقرأه الشيخ العالم يوسف القرضاوي من مجموعة الآيات القرآنية التي تصف علاقة الأنبياء بأقوامهم بالأخوّة رغم اختلاف الدين، ومنها قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}، فالاشتراك في الوطن يفرض الأخوّة الوطنية، والخلاف موجود في مفهوم "الوحدة الوطنية" الذي دعا إليه الإمام المُجدد محمد عبده، بقوله: "لا بد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها ويجتمعون عليها، وإنَّ خير أوجه الوحدة الوطن لامتناع النزاع فيه".

ويتفق الاتجاهان - التقليدي والتجديدي - في بعض حقوق المواطنة الأساسية، كحرية العقيدة، والمساواة أمام القضاء، وإدارة الأمور الدينية والأحوال الشّخصية... ولكنَّ الخلاف موجود في فلسفة التعامل مع غير المسلمين ما بين اعتبارهم أهل ذمة لهم حقوق وعليهم واجبات مُحددة، أو اعتبارهم مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات.

وقد استند الاتجاه التجديدي إلى "صحيفة المدينة"، كما فسرها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) بقوله: "إنما أُعطوا الذمة ليكون لهم ما علينا، وعليهم ما علينا"، وهذا يعني أنهم مواطنون متساويون مع وجود بعض التمايز تتطلَّبه هُوية الدولة الإسلامية، وضرورة الحفاظ على مظهرها الإسلامي العام، وهو ما أكَّده المفكر السعودي حسن الصفّار بتعليقه على "صحيفة المدينة" بأنها "نصَّت على الحقوق والواجبات المشتركة لليهود والمسلمين كمواطنين في ظل كيان واحد"، وأكده الشيخ محمد الغزالي باعتبار أنهم "أصبحوا من الناحية السياسية والجنسيّة مسلمين في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وإن بقوا على عقائدهم وعباداتهم".

كانت الحركة الإسلامية الفلسطينية، ولا زالت، جزءاً من هذه الأزمة في الفكر السياسيّ الإسلاميّ، ولا سيما في ما يتعلّق بمفهومي الوطنية والمواطنة، وقد حضر الاتّجاهان - التقليدي والتجديدي - في كلّ من الميثاق والوثيقة لحركة المقاومة الإسلامية (حماس). ومن أدلة ذلك، أن الميثاق عرّف الحركة بهويتها الإسلامية الإخوانية، بينما الوثيقة عرّفتها بهويتها الوطنية الفلسطينية، والميثاق حدد هدف الحركة الديني بإحياء الإسلام، بينما الوثيقة حددت هدفها الوطني بتحرير فلسطين، والميثاق عرّف أرض فلسطين بأنها أرض وقف إسلامي، بينما الوثيقة عرفتها بأرض الشعب الفلسطيني ووطنه، والميثاق اشترط على المنظمة تبني الإسلام للدخول إليها، بينما الوثيقة اشترطت إعادة بناء المنظمة على أسس وطنية، والميثاق استخدم مصطلحات إسلامية، من مثل الأمة، والحقوق الدينية، واليهودية، والجهاد، وإعلاء كلمة الله، فاستبدلت بها الوثيقة مصطلحات وطنية، من مثل الشعب، والحقوق الوطنية، والصهيونية، والمقاومة، وتحرير فلسطين.

تلك الأزمة غير موجودة لدى حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين التي مالت منذ البداية نحو الاتجاه التجديدي، فلم ترَ تناقضاً في الجمع بين الهويتين الإسلامية والوطنية، والتوفيق بين الخطابين الوطني والإسلامي، كما عرّفت نفسها كحركة وطنية بمرجعية إسلامية، وربما كان تحديد الإسلام كمرجعية، وفلسطين كهدف، والجهاد كوسيلة، عامل التقاء بين الهويتين والخطابين. ولذلك، قال مؤسس الحركة المُفكر الشهيد فتحي الشقاقي: "فلسطين تقع في قلب القرآن، وفلسطين آية من الكتاب، وأدركنا بهذا الفهم مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة إلى الحركة الإسلامية والأمة الإسلامية".

بهذا الفهم الوطني، قال الشقاقي عن مكانة المسيحيين الفلسطينيين ودورهم: "المسيحيون الفلسطينيون شركاء لنا في الأرض والتاريخ والمصير، وقد عاشوا معنا الحضارة نفسها، وعندما نُعطي النضال وجهته الإسلامية، فهذا برنامج عمل، وليس عقيدة مفروضة على أحد... إننا في حركتنا نقبل مشاركة إخواننا المسيحيين لنا في النضال، من دون أن يغيّروا من معتقداتهم شيئاً".

هذه الرؤية للوطنية والمواطنة المُتقدمة للحركة، يؤكّدها الأمين العام الثاني للحركة الدكتور المجاهد رمضان شلح، بقوله: "طرحت حركة الجهاد فكرة الجماعة الوطنية، من أجل بناء حركة وطنية على قاعدة الانتماء إلى الوطن، بعيداً من أي صراع إيديولوجي أو عقائدي، لأنَّ الصراع الوحيد الذي له الأولوية هو الصراع مع الاحتلال". 

وقد أكّده كذلك في الوثيقة الفكرية للحركة: "الترابط بين الإسلام والوطنية ترابط وثيق راسخ، فحب الوطن من الإيمان، والدفاع عنه واجب وأعلى فرائض الدين، والمواطنة في الدّولة المسلمة تسع المسلمين بإسلامهم وولائهم لجماعة المسلمين، وغير المسلمين بولائهم للدولة، والجميع يشكلون معاً منهجاً إسلامياً الناس فيه سواء، إلا ما اقتضاه التميز الديني".

فصل المقال أنَّ الوطنية لا تعني حب الوطن والدفاع عنه فقط، بل تتجاوز هذا المعنى إلى تأكيد الانتماء إلى أرض الوطن الصغير كجزء من الوطن العربي والإسلامي الكبير، وتأكيد الانتماء إلى الجماعة الوطنية (الشعب)، في إطار الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وضرورة الاعتزاز بالهوية الوطنية ببعديها العروبي والإسلامي، والتحلّي بروح الأخوة الوطنية من دون التخلي عن روح الأخوة العربية والإسلامية والإنسانية، والسعي لتحقيق الوحدة الوطنية في الوقت الذي نسعى لتحقيق الوحدة العربية والوحدة الإسلامية، والعمل على إنجاز الأهداف الوطنية كمدخل لإنجاز الأهداف القومية والدينية، وأنَّ المواطنة لا تعني المحافظة على حقوق غير المسلمين في الدولة، وفق مفهوم "أهل الذمة" المشوّه فقط، بل تعني المحافظة على حقوق كل المواطنين في الدولة القائمة على الشراكة الوطنية، والمساواة أمام القانون، والتوازن بين الحقوق والواجبات، والتمتع بالحريات العامة... إلا ما اقتضاه التميز الدينيّ.