"كوفيد 19" وإشكالية العلاقة بين العلم والسياسة في العلاقات الدولية

إنّ الحتميّة العلميّة تطرح الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان العلم يلعب حالياً دور الدين في المجتمع الحديث.

  • يتّضح أنّه لم يعد هنالك ثقةٌ مطلقةٌ بالعلوم الحديثة في ظلّ القاعدة التي تستند إليها حقبة ما بعد الحداثة
    يتّضح أنّه لم يعد هنالك ثقةٌ مطلقةٌ بالعلوم الحديثة في ظلّ القاعدة التي تستند إليها حقبة ما بعد الحداثة

من المنطقي التأكيد على نسبيّة العلم، فالموقف من غائيّة العلم يتّسم بالشّك والرّيب والنزعة النسبيّة، خاصةً في ظلّ ذلك النّسق العالمي الجديد على مستوى الفساد السياسي والاقتصادي. وهذا الواقع يفتح باب الجدل حول الإشكاليات المرتبطة بموضوعيّة غالبيّة المقاربات الأكاديميّة وصدقيّة الأرقام والجدليّات العلميّة المرتبطة بجائحة "كوفيد 19".

فعلى الرغم من التعقيدات التي تواجه حيثيّات التطوّر العلمي، ستبقى نظريّة التشكيك قابلةً للتّدوال، وانطلاقاً من ذلك، هنالك على صعيد العلاقات الدولية تساؤلٌ في غاية الأهميّة حول الحتميّة العلميّة: هل يجب السماح للعلم بالتطوّر قدر ما يستطيع بغضّ النّظر عن العواقب المحتملة والمرتدّة على المجتمعات ومصير الإنسانية؟

يتّضح أنّه لم يعد هنالك ثقةٌ مطلقةٌ بالعلوم الحديثة في ظلّ القاعدة التي تستند إليها حقبة ما بعد الحداثة، وهي قاعدة الشّك في المعرفة العلميّة. وتكمن المفارقة هنا في أنّ التشكيك أو التدقيق في العلم ونتائجه، لم يعودا موضوعاً فلسفياً بل بات موضوعاً عملياً، فواقع المعرفة والسلطة والحرية الأكاديميّة في ظلّ جائحة "كوفيد 19"، هو انعكاسٌ دقيقٌ للتوتّرات النظريّة والعمليّة المرتبطة بإشكاليّات العلاقة بين العلم والسياسة في العلاقات الدوليّة. 

وهذا الواقع بات يطرح كثيراً من الجدليّات المتعلقة بمدى إمكانية وفعالية وضع ضوابط أخلاقية على مستوى العلم، إذ يبدو أن تطوّر الإنتاج العلمي وانعكاساته وتعقيداته المتداخلة، أسرع بكثيرٍ من تطوّر وضع الضوابط الأخلاقية. وانطلاقاً من ذلك، وفي وسط حالةٍ من عدم اليقين الاستفزازيّة، ومع وجود الكثير من النزعات الراديكالية المرتبطة بثنائيّة العلم والسياسية، تبرز الحاجة إلى إيجاد شيءٍ ثابتٍ في مكان ما. فالمرحلة التي كانت فيها الدول تحاول معالجة المشاكل العلميّة عبر إنشاء لجان تجمّع العلماء والمختصّين هي في طور الانتهاء، وبالتالي حان الوقت لبزوغ فجر عصرٍ يهتمّ بوضع قوانين ومعاهداتٍ واضحةٍ لا لبس فيها بما يتعلق بإشكاليات التطور العلمي، خاصةً على مستوى القانون الجنائي الدولي. 

إذ يتّضح من خلال تتبّع سياق تطوّر القانون الجنائي الدولي على المستوى النّظري والعملي، عدم مواكبته للأنساق العالمية الجديدة وتداعياتها على الأمن الإنساني العالمي. وهذا يتطلّب توسيع صلاحيات المحكمة الجنائيّة الدوليّة لتشمل الجرائم المتعلّقة بالثورة البيوتقنيّة والهندسة المناخيّة والذّكاء الاصطناعي، وتعديل الفيروسات والحروب البيولوجية...إلخ. 

وفي نهاية المطاف، يجب التأكيد على فكرة أنّ العلم ليس إلاّ شكلاً من أشكال الفكر التي طوّرها الإنسان دون الوصول بالضرورة إلى الشكل الأفضل، وأنّه ليس متفوقاً إلاّ في نظر المؤمنين بحتميّة أسطورة الأيديولوجيا العلميّة، فعلى سبيل المثال، إذ كان الاعتقاد بأن الثّقة بالنماذج الرياضيّة ستُزيل التحيّز البشري، نجد من الناحية العمليّة أنّ تلك الخوارزميّات (النماذج) قد بدأت تمارس تحيّزاتها الخاصّة فيما يتعلّق بكيفية عملها، إلى درجةٍ بدأ الممارسون لها تداولَ مفهوم العدالة الخوارزميّة المطالِبة بتدمير أسلحة الرياضيّات. وهذا يؤكد أنّ العصر العلمي المرتبط بالتكنولوجيا غير مضمون النتائج عند مرور الإنسانية بأوقاتٍ عصيبة. 

إنّ الحتميّة العلميّة تطرح الكثير من التساؤلات حول ما إذا كان العلم يلعب حالياً دور الدين في المجتمع الحديث. وهل هنالك ضرورةٌ للقيام بعمليّة فصلٍ بين العلم والدولة (السياسة) مثلما تمّت عملية الفصل بين الدين والدولة؟ 

قد تكون الإجابة المنطقيّة على تلك التساؤلات تكمن في طرح التساؤل حول ما إذا كان هنالك إمكانيةٌ لرسم الحدود القصوى للتقدم العلمي قبل التفكير في فصله عن السياسة، فإذا كان القرن الـ20 قد أعاد النّظر في الثوابت اليقينيّة في كل ما يتعلق بالإنسان والسياسة، وإذا كانت العلمانية حاولت أن تكون البديل عن أخلاقيات الديانات، هل سيكون تطوّر العلم -الذي لا يمكن كبح جماحه- هو العامل الحاسم وغير المتوقّع الذي سوف يضع العلاقات الدوليّة في القرن 21 أمام أنساقٍ جديدة لن يكون من السهل إيجاد أيّ مقاربةٍ نظريّةٍ وعمليّةٍ لها؟