الهوية الحضارية

لقد أصبح الإطار العام حالياً للعالم عالماً سَقطت فيه الحدود الفاصلة التي كانت تؤمّن نوعاً من التجانس في جماعاتٍ بشرية واسعة.

  • نحن إذاً بحاجة إلى معرفة انتماءٍ ضمن الهوية الحضارية
    نحن إذاً بحاجة إلى معرفة انتماءٍ ضمن الهوية الحضارية

لم نصل إلى هُويتنا، لأننا لم نعرف أن "نتفق"، بدءاَ من المعلقات السبع – وهناك من يقول المعلقات العشر - مروراً ببعض الآراء الفقهية وبعض الفتاوى المزاجية المتضاربة، وصولاً إلى اختلافنا "حول كتابة الهمزة"، وانتهاءً إلى أنظمة المرور لدينا، والتي يصل تعدادها إلى أكثر من عدد البلدان العربية نفسها.

من المعلوم تماماً أن الانشغال بالهوية يَدفع نحو التراث. أما الانشغال بالتقدّم، فيَدفع نحو الحداثة، ولا أظن أن المجتمعات في الأقطار العربية بحاجة إلى الشعورٍ بالهوية أو العاطفة السياسية بقدر ما تحتاج إلى الشعورٍ بضرورة الاتحاد أو الاتفاق على الوحدة وغيرها من الشعائر الإيجابية التي تخدم هدفاً واحداً، وهو الاجتماع على هدفٍ واحدٍ كحدٍ أدنى.

لقد أصبح الإطار العام حالياً للعالم عالماً سَقطت فيه الحدود الفاصلة التي كانت تؤمّن نوعاً من التجانس في جماعاتٍ بشرية واسعة، وهذا ما يؤدي إلى سقوط ما يسمى بالهوية القومية مقابل الهوية الحضارية، لأننا نشهد حالياً حركة واسعة تتسع أكثر فأكثر، وتجعل الشعوب واللغات والأديان تتداخل، وينتج من هذا التداخل الاجتماعي الواسع وضع جديد يُطرح فيه سؤال عن هوية الفئات الاجتماعية في إطار تعددية أدبية ودينية شديدة التنوع، وتطرح أيضاً مشكلة تعايش تلك الفئات المختلفة ضمن الوحدة الوطنية التي ما زالت حتى الآن صامدة في تيّار التغيرات الواسعة.

نحن إذاً بحاجة إلى معرفة انتماءٍ ضمن الهوية الحضارية، لا إلى هوية قومية ستُصبح بعد مدة من الزمن - طالَت أم قَصُرت - نوعاً من الترف الفكري والخصوصية الشديدة الصِغر ضمن رحابة الهوية الحضارية.

لا تتّحِدُ أوروبا ضمن مفهومٍ قومي، بل ضمن مفهوم حضاري، والذي يُراجع مسودة الدستور الأوروبي، يرى تماماً أن ما يحدو إلى التّجمّع في دولة أوروربية، ليس العرق أو اللون أو اللغة وغيرها مما كان ضرورة لازمة للهوية القومية، بل الواقع الحضاري للدولة المنتمية.

أما الأقطار العربية، وبغض النظر عن أن اللغة واحدة - أو هكذا تعلمنا في المدارس – والتاريخ مشترك والمقدّسات مشتركة، وغيرها من المشتركات، حتى نَصل إلى الشعارات المشتركة، فإنني أقول إن كل ذلك لم ولا ولن يُجدي نفعاً.

إن "معظمنا يتذكّر حين كانت الوفود الأوروبية المعنية بالتوصل إلى سياساتٍ موحَّدة أو عملة موحدة أو توجهاتٍ مشتركة تُوقفُ الساعة وتمضي أياماً لا تغادر موقع الاجتماع، إلى أن تتفق على الأقل على تحديد الصعوبات ومنهجية مقاربتها وتذليلها".

إن العالم ينتظر من المجموعة العربية – التسمية بحسب ما نُحب – الإنماء العلمي والتقني، وليس تحديد جنس الملائكة، التي نعلم عِلم اليقين أن هناك في مجتمعاتنا من يختلف في ذكورتها أو أنوثتها، ناهيك باختلافنا في كروية الأرض وغيرها الكثير.

عندما ينتظر العالم من المجموعة العربية التطور العلمي والتقني، ففي المقابل، علينا أن نكيّف أذهاننا وفقاً لمقتضيات هذا الإنماء والحداثة، مع المحافظة على لمسةٍ ناعمةٍ تذكِّر بالهوية الحضارية لهذه المجموعة.

عندما أقول إن الهوية الحضارية هي ما يجب البحث عنه، فذلك لأن الحضارة هي أعلى تجمّع ثقافي للبشر وأوسع مستوى، وهي التي تميّز البشر عن الأنواع الأخرى.
لا يجب أن نحزن إذا نقلتُ لكم أبياتاً للشاعر ميخائيل نعيمة تقول:

أخي! من نحنُ؟ لا وطنٌ ولا أهلٌ ولا جارُ

إذا نمنا، إذا قمنا، رِدانا الخزي والعارُ

لقد خمّت بنا الدنيا كما خمّت بموتانا

فهات الرفش واتبعني لِنحفر خندقاً آخر

نواري فيه أحيانا!