ديمقراطية ضيقة الأفق

إن وصول شخصيّات، مثل دونالد ترامب أو بوريس جونسون، إلى رئاسة أعظم دول في العالم هو أكبر دليل على ضعف وعي القاعدة واتباعها الأفكار الجاهزة للاستهلاك.

  • من تظاهرات
    من تظاهرات "حياة السود مهمة" في أتلانتا، جورجيا - 15 يونيو 2020 (أ.ف.ب)

إن وليدة القرن العشرين الأعظم على الإطلاق، لم تكن في التوسع الاستعماري للثقافات والحضارات، بل في ذاك الحيّز الذي أدخلته مجموعة الانهيارات في الأنظمة الأحادية إلى الحكم سابقاً على شكل الحكم نفسه وفلسفة التشريع في الدول. 

منذ مطلع العام 1900، بدأت معظم الدول المنضوية تحت لواء الحكومات الأوليغارشية والأحادية أو الدينية-الغربية الأوروبيّة بالسقوط تباعاً، لضعف الهيكلية الحاكمة فيها، إضافة إلى عدة عوامل أساسية أخرى أسست لاحقاً لانهيار منظومة الحكم (الدكتاتوري) بالكامل مع بعض الاستثناءات.

في المقابل، برز في خضم هذه الانهيارات نظام (جديد – قديم) قوامه رغبات الناس، وصلبه فعاليّتهم كأساس في الحكم، حتى أمست كلمتهم الثقل الأول لتغليف الحكومات بغشاء الشرعية السياسية، إلا أنّ الجدال ليس حول أحقية هذين النظامين بالحكم أو الأعظم إنتاجية ونجاحاً بينهما، سواء أثبت واقعياً أو نظرياً.

إن الديمقراطية، بحسب التعريف الأول لسولون[i]، تعني حكم الشعب عبر انبثاق سلطة عنه مخوّلة بمسك أمور الدولة الأساسيّة، يعطيها ثقته عبر اختياره لها في بادئ الأمر. 

لقد عرفت الأمم التي تبنت مثل هذا النظام شكلين لطريقة الاختيار؛ الشكل الأول عرفته أمم العهد القديم التي تجلت في الدول التي تشكل اليونان حديثاً، وقوامه حصر وتضييق مفهوم الشعب القادر على الاختيار وانتقاء الحاكم، والآخر يحكم عالمنا بشكل شبه كامل، ويدخل في نواته ما يفوق 66% من مجموع الدول حول العالم، ويعمد إلى إطلاق مفهوم الكلمة الأولى إلى أوسع مدى ممكن، مع بعض الشروط المتفاوتة بين بلد وآخر. وهنا تكمن المعضلة الأهم، من هو الشعب المراد من إطلاق مفهوم كهذا على هذا الشكل من الحكم (الديمقراطية)؟

لما كانت السياسة علم الحاكمية، فإنها كانت بحاجة منذ البدء إلى وجود قاعدة من الخبراء القادرين على المضي قدماً فيها، أسوة بغيرها من العلوم، غير أن المعضلة هنا تنصب على هيكيلية إيصال هؤلاء إلى مناصبهم، فمن يوصلهم؟ وعلى أية أسس؟ 

إن التفلت في توسيع معنى الشعب المنتقي للسلطة في المرحلة الأخيرة من هذا القرن أدى إلى إدخال العبثية المقوننة[ii]، إذا صحّ التعبير، إلى جزء كبير من مجالس الحكم والتدبير على صعيد الدولة، تحت أي لوء انضوت من شكل الحكم الديمقراطي (جمهوري أو برلماني أو فيدرالي)، لا لأن العبثية تقبع في الحكام أو النظام، إنما لوجودها أساساً في المختارين أنفسهم، فالتشتت الذي يطغى على الأساس، سيؤدي، وبكل حتمية، إلى انهيار النتيجة، ولو بعد حين. 

إن إرجاء كل هذه الصلاحيات إلى كل من هبّ ودبّ على اختلاف مستوى ثقافتهم وتحصيلهم العلمي، والأهم خبراتهم في المجال السياسي، سيؤدي إلى وصول الكثير من المرشحين المتطفلين على مفاصل السلطة، بحكم فوضى القرار العشائري، الديني/المذهبي أو الحزبي، المتجذر قسرياً بحكم الحيز المكاني والزماني الذي ينشأ فيه الأفراد. 

إن وصول شخصيّات، مثل دونالد ترامب أو بوريس جونسون[iii]، إلى رئاسة أعظم دول في العالم هو أكبر دليل على ضعف وعي القاعدة واتباعها الأفكار الجاهزة للاستهلاك، والمطبوخة من أصول الحزب الجمهوري أو المحافظين مسبقاً.

لا جدال في تأصّل مفهوم الفوضى تلك في صلب مجتمعاتنا العربية، وخصوصاً اللبنانية، ولا شك في أنها مصدر كل خراب يعيث فيها فساداً من كل صوب، وأن السبيل الوحيد لحل منظومة الفساد التي تتخلله يكمن في العودة إلى الشكل الأول للاختيار، أي في تضييق مفهوم الشعب بحصر القاعد الانتخابية بالنخبة من المثقفين والخبراء في المجال السياسي، وإخراج كل هجين من دائرة التدخل في الشؤون التي تخرج عن مستواه ودرايته. 

والسؤال الذي يبقى قائماً يتمحور حول إمكانية تطبيق مثل هذه الرؤية في واقعنا الحالي، بنزع كل مظاهر صوت الشعب القاعدة، والعودة إلى الحكومة الأوليغارشية الظاهر، وهدم مجمع الفكر الجماعي، وتضييق نطاق التحررية الدستورية[iv]، وقمع الحريات. 

[i] سولون: مفكر وفيلسوف يوناني.

[ii] العبثية المقوننة: مصطلح سياسي يعبر عن الفوضى النابعة عن قوانين شمولية.

[iii] رئيس وزراء بريطاني الحالي.

[iv] التحررية الدستورية: مجموع الحريات المذكورة في الدستور.