خجلاً من تراثها الفاشيّ: "الكتائب" اللبنانية تغير اسمها!

بغضّ النظر عن الاسم، سواء كان "الفلانجة" أو "الكتائب" أو "الديمقراطي الاجتماعي"، فإن فاشية ذلك الحزب تنبع من فكره الطائفي وإيديولوجيته العنصرية ونظرته الاستعلائية إلى بقية أبناء بلده.

  • لم يعتذر سامي الجميل عن ماضي حزبه ودوره في الحرب الأهلية اللبنانية
    لم يعتذر سامي الجميل عن ماضي حزبه ودوره في الحرب الأهلية اللبنانية

في شهر آذار/مارس الماضي، أعلن حزب "الكتائب" اللبناني إجراء تغيير رسمي على اسمه. وفي التعديل، تمت إضافة "الديمقراطي الاجتماعي"، ليصبح اسمه "حزب الكتائب اللبنانية - الحزب الديمقراطي الاجتماعي اللبناني"، لكنَّ ذلك لم يكن جوهر التعديل الَّذي تم، بل الأهم هو تغيير الاسم باللغتين الفرنسية والإنجليزية، فقد تم حذف كلمة "Phalanges" من الاسم الإنجليزي والفرنسي للحزب، واستبدال كلمة "Kataeb" بها، ليصبح اسم الحزب بالإنجليزية "The Kataeb Party"، مصحوباً بـ"الحزب الديمقراطي الاجتماعي اللبناني"، وكذا بالفرنسية، بعد أن كان "The Lebanese Phalanges Party".

كان الموضوع كلّه متعلّقاً بكلمة "الفلانجة" الأجنبية التي تعرّب إلى كلمة "الكتائب"، إذ إنَّهم لا يريدونها، لأنها تذكّرهم دائماً بالأصل الفاشستي للحزب، وتسبّب لهم حرجاً، وخصوصاً في الأوساط الأوروبية، فالتاريخ يخبرنا أنَّ الديكتاتور الفاشي الإسباني الجنرال فرانكو هو صاحب براءة اختراع اسم حزب "الكتائب الإسبانية" في العام 1934، أي "Falange Española".

ومن هذا الاسم، استقى بيار الجميل اسمَ حزبه الذي أسَّسه في لبنان في العام 1936. وكان الجميل قد عاد من جولة في أوروبا، التي كانت تشهد صعوداً للحركات الفاشية، حضر خلالها الألعاب الأولمبية في برلين أيام هتلر، وأعجب أيما إعجاب بتنظيم الشبيبة النازية وانضباطهم وقوتهم، فقرّر إنشاء حزب لبناني على نمط الأحزاب الفاشية في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا. 

وبالفعل، بدأ بتنظيم شبان مسيحيين موارنة في حركة شبه عسكرية تتبنى عقائد تستند إلى "القومية اللبنانية"، وإلى فكرة مفادها أنَّ المسيحيين على وجه الخصوص يجب أن تكون لهم السيادة في وطنهم لبنان الذي يختلف عن جيرانه العرب المسلمين ويتفوّق عليهم حضارياً وثقافياً. 

مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وانكسار الفاشية في أوروبا، حوّل حزب "الكتائب" بصره إلى فاشيين من نوع آخر، هم الصهاينة، الذين كانت قوتهم تتصاعد في فلسطين المجاورة. كما أن الحركة الصهيونية تلتقي عقائدياً مع "الكتائب" في اعتناقها فكرة "تفوّق" عِرق، ولكن على صيغة دين، على جيرانها غير المرغوب فيهم من العرب المسلمين. وقد بدأت اتصالات "الكتائب" مع الجانب الصهيوني في فلسطين في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، من خلال شخص كتائبيّ يدعى إلياس ربابي. 

المؤرخ والأكاديمي الإسرائيلي إيال زيسر نشر في العام 1995 بحثاً مهماً في مجلة "دراسات شرق أوسطية"، مستنداً إلى الوثائق الصهيونية، عنوانه "الموارنة ولبنان ودولة إسرائيل: الاتصالات المبكرة"، سوف نستند إليه في معلوماتنا الآتية.

بدأت علاقة "الكتائب" مع "إسرائيل" في العام 1948، من خلال قسيس يعيش في أميركا اسمه يوسف عواد، تربطه علاقة ودية وثيقة بـ"الاتحاد الصهيوني الأميركي". قام عواد بتنظيم لقاء بين وفد من "الكتائب" اللبنانية يرأسه إلياس ربابي وممثلين عن الاتحاد الصهيوني وحكومة "إسرائيل"، عبّر خلاله ربابي عن جاهزية "الكتائب" للسيطرة عسكرياً على النظام في لبنان في ما لو توفّر له الدعم المالي والعسكري. 

وخلال العامين 1948 و1951، عُقدت مجموعة من اللقاءات بين وفد "الكتائب" اللبناني (دائماً برئاسة إلياس ربابي) والمنظمة الصهيونية والحكومة الإسرائيلية. كرَّر ربابي استعداد "الكتائب" للسيطرة على لبنان، ووعد بإقامة علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" في حال حصول ذلك. في المقابل، كان يلحّ على طلب الدعم المادي لتمويل نشاطات الحزب في لبنان وشراء الأسلحة.

ردود الفعل الإسرائيلية على مواقف ربابي وطلباته لم تكن في الإجمال إيجابية، إذ تظهر الوثائق أنَّ أصحاب القرار في وزارة الخارجية الإسرائيلية كانوا يميلون إلى اعتبار كلامه مليئاً بالمبالغات بشأن قدرات الحزب ونفوذه في لبنان، وكانوا يرون أنَّ الوعود التي يطلقها غير واقعية، ومن الصعب تحققها. 

ولم تفت المسؤولين الإسرائيليين ملاحظة إلحاح ربابي الشديد على ضرورة الحصول على مبالغ كبيرة من "إسرائيل". وكانت خلاصة النقاشات في الأوساط الإسرائيلية عدم وجود فائدة حقيقية يمكن أن تجنيها "إسرائيل" في تلك الفترة من العلاقة مع "الكتائب" الذي اعتبروه غير جدير بالثقة، وبالتالي كان القرار بعدم إظهار الالتزام بطلبات ربابي، والتعامل معه على أساس استخباراتي أكثر منه سياسي، باعتباره مصدراً للمعلومات من الداخل اللبناني، وتمّ دفع مبالغ مالية صغيرة له مقابل ذلك. 

والنتيجة أن المجهود الكتائبي الأول للاتصال والتعاون مع "إسرائيل" لم يكن ناجحاً، ويكاد يكون قد توقف كلياً بعد العام 1951. ولعلَّ أحد الأسباب التي دفعت الإسرائيليين إلى تلك السلبيّة في التعاطي مع "الكتائب"، أنّهم كانوا على علاقة قوية وقديمة جداً بالأطراف المارونيين الأكثر أهمية في تلك المرحلة، وهم البطريرك أنطوان عريضة والرئيس إميل إدّه (كان بيار الجميل قد تموضع سياسياً إلى جانب بشارة الخوري؛ خصم إميل إدّه). 

هكذا، دخلت العلاقات الكتائبية - الإسرائيلية مرحلة طويلة من الخمود، امتدَّت حوالى عقدين من الزمن إلى السبعينيات، حين تفجرت العلاقات ووصلت إلى ذروتها على يد بشير الجميل وقواته اللبنانية، التي ارتكبت مذابح وأهوالاً لا يمكن أن تصدر إلّا عن جماعات فاشية حتى النخاع. 

بغضّ النظر عن الاسم، سواء كان "الفلانجة" أو "الكتائب" أو "الديمقراطي الاجتماعي"، فإن فاشية ذلك الحزب تنبع من فكره الطائفي وإيديولوجيته العنصرية ونظرته الاستعلائية إلى بقية أبناء بلده. لم يعتذر سامي الجميل عن ماضي حزبه ودوره في الحرب الأهلية اللبنانية، وعن ممارساته وجرائمه. لذلك، إن "ترقيعاته" الشكلية تبقى مجرد ذرّ للرماد في العيون، ولا تغيّر من حقيقته شيئاً.