وجه الهرطقة المخفيّ في شخصية دافيد بن غوريون

دافيد بن غوريون" هو الذي جسّد المشروع الصهيوني العملي، أي إقامة دولة "إسرائيل". فهو الذي أسّس عصابة "الهجناه/ الدفاع"، التي شكّلت في ما بعد نواة الجيش "الإسرائيلي" الحالي. وشغل مناصب عدّة في الحركة الصهيونية و"إسرائيل": فقد كان وزيراً لحربها.. وأمين عام "الهستدروت".. ورئيس الوكالة اليهودية.. ورئيساً لحكومتها.

"دافيد بن غوريون" هو الذي جسّد المشروع الصهيوني العملي
 

في الأول من ك2/ ديسمبر  من هذا العام حلّت الذكرى الثالثة والأربعين لموت "دافيد بن غوريون" في مستعمرة "سِدِي بوقر" في النقب الفلسطينية. ولِد "بن غوريون" وسُمّي "ديفيد جرين" في "بلونسك" في بولندا ثم هاجر إلى فلسطين في العام 1906 واتّخذ "دافيد بن غوريون" إسماً جديداً له. في هذا المقال بعض ملامح شخصيّته وأفكاره المُستمدّة من العقيدة اليهودية و"التنّاخ" تحديداً، بما ينفي عنه صفة "العلمانية" التي يُلصقها المؤرّخون والكتّاب العرب به. وسأبيّن أن الرجل كان أصوليّاً يهودياً، وأن الصهيونية ليست إلا الفقه المُعاصِر لليهودية وحركتها الأصولية.

 

"دافيد بن غوريون"  هو الذي جسّد المشروع الصهيوني العملي، أي إقامة دولة "إسرائيل". فهو الذي أسّس عصابة "الهجناه/ الدفاع"، التي شكّلت في ما بعد نواة الجيش "الإسرائيلي" الحالي. وشغل مناصب عدّة في الحركة الصهيونية و"إسرائيل": فقد كان وزيراً لحربها.. وأمين عام "الهستدروت".. ورئيس الوكالة اليهودية.. ورئيساً لحكومتها. وهو من أوائل الذين خطّطوا لتهجير الفلسطينيين من وطنهم، فنقرأ أول إشارة إلى ذلك في الرسالة التي وجّهها إلى إبنه، عَموس، عندما كان طالباً جامعياً في بريطانيا، عام 1937 (سأقوم بترجمتها ونشرها قريباً).

 

و"بن غوريون" هو الذي أقنع التيّار المركزي في الحركة الصهيونية بضرورة تثبيت أقدام الدولة الوليدة بقبول قرار التقسيم عام 1947. كما قام بدمج العصابات الصهيونية في إطار واحد موحّد أسماه "جيش الدفاع الإسرائيلي". وأدرك هو ومريده ثعلب السياسة "الإسرائيلية"، "شمعون بيرس" (1923- 2016)، أهمية امتلاك الدولة للتكنولوجيا والسلاح النوويين. وما سُمّي بالعلاقات "السريّة" مع فرنسا التي باتت مكشوفة اليوم ومفضوحة أكثر من أيّ وقت مضى.

 

لكن ما هو غير معروف على نطاق واسع هو دور "بن غوريون" الحاسِم في التنظير الأيديولوجي لأهميّة استخدام "التناخ" في إنتاج قاعدة أيديولوجية للدولة والمجتمع والجيش، و لاسيما العلاقة التي لا تنفصم عُراها بين الديانة اليهودية والمشروع الصهيوني. بل على العكس من ذلك يؤخذ "بن غوريون" في الغرب وما أشاعه بعض المُثقّفين العرب نقلاً عن الغرب، على أنه علماني ديمقراطي حتى بات مشروعه "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" بحسب السردية الشائعة غرباً وشرقاً. وما دمنا نذكر "بن غوريون" و"بيرس" لا بدّ من أن نذكر رأس المثلّث الأخير، "يستحاك رابين" (1922- 1995)، الذي اتّخذ قراراً بوحي من فكر "بن غوريون" وبتشجيع من "بيرس" بضرورة تجديد المشروع الصهيوني بقبول تسوية أخرى مع العرب، تكلّلت باتفاقيات أوسلو لعام 1993.       

"التناخ هو انتدابنا"

يرى "بن غوريون" "أنتي جلوتي"- كما يُطلق عليه بالعبرية، والذي معناه رفض اعتبار تاريخ تواجد اليهود في أوطانهم الأصلية (الـ"جولاه/ الشتات")- جزءاً من التاريخ اليهودي/ "الإسرائيلي"/ العِبري العام. ففي رسالة وجّهها إلى "يتسحاك طبنكين" (1887- 1971) عام 1937 قال: "بمجيئنا هنا [إلى فلسطين] وبإقامتنا دولة يهودية، عملنا هذه القفزة. فتحنا كلية فصلاً جديداً- ليس استمراراً لحياة وارسو، أديسا وكراكو، بل هي بداية جديدة في جوهرها، إلا أنها بداية تندمج من ذاتها بالماضي البعيد، في ماضي يهوشع بن نون، دافيد، عزيّا، الحشمونائيين الأولين".

 

يدرك "العجوز"- كما يصفه اليهود تحبّباً- أهمية الأسطورة والخرافة واستخدامها في الحياة السياسية. فقد أعطى الصهيونية بعداً لاهوتياً أيديولوجياً يعتمد على "التناخ" فقط من دون سائر الآداب اليهودية الأخرى. وقال أمام لجنة "بيل 1937": "ليس الانتداب هو تناخنا، بل التناخ هو انتدابنا". وفي نفس السنة يكتب إلى "طبنكين" مرة أخرى: "التناخ شكّل [لي/ لنا] شهادة ولادة، وساعد في هدم الفاصل بين الإنسان والأرض، وربّى الشعور بالوطن".

 

ويكتب عام 1957 رسالة إلى المُثقّف اليهودي، "نتان روطنشترايخ"، قائلاً: "إبراهيم أبونا، إبنه وحفيده، موسى وهارون؛ داوود الملك ونسله، أنبياء إسرائيل وكل ما حدث لهم وكل ما قالوه، أكثر قرباً لنا مما قاله الراب أشي الفاسي [خاتم التلمود في القرن السابع] والرمبام [موسى بن ميمون 1138- 1204] والأري [يصحق لوريا 1534- 1572] ويوسف قارو [1488- 1575] وفي العصر الحالي- وجميع الأيديولوجيين الصهاينة".

أهمية رموز "التناخ"

إن تأكيد "العجوز"- كما يُطلَق على المذكور تحبباً- على "التناخ" ورموزه من دون سواها من رموز اليهودية، يفضي بنا إلى قضيتين، واحدة أساسية والأخرى للتفكّه فقط. في الأولى يُعبّر "بن غوريون" عن الخلاف والنقاش الذي ساد بينه وبين "زئيف جبوتانسكي" (1880- 1940)، كبير مُنظّري وزعماء الصهاينة الرافضين لأية تسوية مع العرب. فقد اعتقد الأخير بضرورة أخذ التراث اليهودي برمّته بالتساوي، وعدم تفضيل الفترة "التناخية" والتوقّف عندها، كما هو الحال لدى "العجوز". ولم يكن خلافه اعتباطياً؛ فهو يُدرك أن اليهودية "التناخية" تطوّرت وفق أسُس كلامية وفقهية وتشريعية مختلفة بين اليهود في أوطانهم الأصلية في أوروبا وأفريقيا والوطن العربي. والسماح لهم باستمرار هذا التطوّر- الاختلاف من شأنه أن يُثير خلافات بين المستعمرين اليهود في فلسطين، قد تضعف صمودهم وتشبّثهم بـ"أرض الآباء والأجداد". والثانية، تخصّ مراسلات "بن غوريون" ومكاتباته مع كبار المُثقّفين اليهود؛ يُقال عنه: إنه مُجرّد ديكتاتور ثرثار، وما مراسلاته مع كبار المُثقّفين اليهود وكتابته لبعض المقالات الثقافية، إلا لكي يُحسَب هو الآخر مُثقّفاً!! من المعروف أنه والأديب "ش. ي. عجنون" (1888- 1970) الحائز جائزة نوبل للأدب عام 1966، تبادلا الرسائل ونُشرت في كتاب. وعندما تصفّحته لم أجد أثراً لثقافة ما. فقد أخذت المُراسلات طابعاً عاماً وتقنياً. أما مُراسلاته مع الشاعر "نتان ألترمان" (1910- 1970) الذي يُعتبَر شاعر الكيان، فقد نُشرت هي الأخرى في كتاب خاصّ، والمُثير هو أن "ألترمان" عبّر عما يختلج في سريرة "العجوز" من وحدة وعدم تقارب وجداني مع الآخرين. و"ألترمان" هو شاعر القبيلة، وعلاقته بشيخ القبيلة، "العجوز" معروفة للقاصي والداني. فقد كان "ألترمان" بحاجة إلى "العجوز" لكي يصدّ منافسه الشاعر "أ. تسفي جرينبرج" (1896- 1981)، الذي يُعتبر الشاعر الرافض لأية تسوية مع العرب، ولم ينسَ له إلى اليوم أتباع "الحركة  العمالية الصهيونية" قصيدته-دعاءه الشهير ضدّ "كيبوتس مشمار هعيمك- المعنونة من سفر  "شموءل/  2 صموئيل 1: 21": ءَلْ طَلْ وِءَلْ مَطَرْ/ لا طلّ ولا مطر!

 

الكنعانيون أصلهم عبريون

لم يكتفِ "بن غوريون" بالتنظير الأيديولوجي، بل ولج إلى القراءات التاريخية، التي باتت بفعل المهملات الأثرية وتحليلها من دون مستوى التطرّق إليها من الزاوية التاريخية- العلمية، لسخافتها. فقد أدلى "بن غوريون" بدلوه أيضاً حول هوية المجموعات السكّانية المتواجدة في أرض كنعان، عندما دخلها اليهود بعد خروجهم من مصر، فقد كتب يقول: "بنو إسرائيل الذين قدموا من مصر وجدوا في البلاد أثناء احتلال يهوشع عبريين قاطنين فيها من زمان". وبحسب إدعائه: عائلة عبرية واحدة مكّونة من 70 نفراً هي وحدها التي هاجرت إلى مصر ومكثت جيلين- أو ثلاثة. أما بقيّة العبريين فقد بقوا في البلاد، والتأم الشمل عندما احتلّ (بن نون) البلاد.

الحنين للعنف "التناخي"

عودة بني إسرائيل من مصر إلى أرض كنعان، وإقامة دولة "إسرائيل" أشعلت الحنين الدامي عن "الأب المؤسس"- كما يُنعت أيضاً. فقد بدأ كتابه الموسوم: "دراسات في التناخ" (1969) بالتأكيد على أهمية الجيش قائلاً: "للجيش وظائف تنظيمية، إدارة، وتجهيز وتزويد. هذه ملقاة على الجيوش الموحدة أو على أقسام معينة في القيادة. إلا أنه توجد وظيفة عامة للجيش، ملقاة على عاتق كل ضابط، من كل الدرجات، من المنخفضة إلى الأعلى [...] وهي الوظيفة التربوية". إلا أن للجيش "الإسرائيلي": "وظيفة تربوية خاصة، التي لا حاجة له بها، أو لا مكان لها في الجيوش الأخرى.  جيش الدفاع الإسرائيلي، ليس بإمكانه أن يكتفي بالتربية الممنوحة لكل جيش [...] وهو بحاجة إلى تربية إضافية خاصة وذلك بسبب الفرادة التاريخية لأمّته وبسبب خصوصية الفترة التي نحيا بها". وهذا البيان، هو جزء من محاضرة كان قد ألقاها أمام قيادة الأركان في السادس من نيسان عام 1950. في صفحات الكتاب البالغ عددها 258 صفحة، يؤكّد على ضرورة الاحتذاء حذو "التناخيين" في استخدام العنف، وفي الاستمرار به بواسطة الجيش "الإسرائيلي" الحالي. فهو يعتبر احتلال (بن نون لأريحا)- بحسب "التناخ"- واحتلال جزء من فلسطين عام 1948 نصراً واحداً ومباشراً. فقد قال في المحاضرة المذكورة أعلاه بلغة شعرية- "تناخية" أثارت السخرية في حينه بين المُثقّفين اليهود: "[انتصرنا] على ملوك اللد والرملة، ملوك بير نبالا ودير طريف، ملوك قولة ومجدل الصادق، ملوك صرعه وأشتئول، ملوك عرطوف وعين كارم في الساحل، ملوك حتا وحرثية في الجنوب، ملوك شفاعمرو وصفورية، ملوك عين ماهل وكفر كنا، الناصرة ونمرين، ملوك لوبية وقرون حطّين في الجليل".

 

وبطبيعة الحال لم تكن جميع الشخصيات "التناخية" في المقام الأول من الأهمية. فقد ميّز (بن نون) و(بن يشاي) و(دبوره):

(بن نون):  في عام 1950 تحدّث في المؤتمر القُطري لمعرفة البلاد وقال: "لا أحد من مُفسّري التناخ، يهود وأغيار، في القرون الوسطى وأيامنا، كان بإمكانه أن يفسر فصول يهوشع [بن نون] مثلما فعلت مآثر جيش الدفاع الإسرائيلي في السنة الماضية". فقد أحب "العجوز" الإصحاح الرابع والعشرين من سفر (يهوشع)، خاصة العدد/ الآية 22 القائلة: "فقال الجمع ليهوشع: أنتم شهود على أنفسكم أنكم قد اخترتم لأنفسكم الربّ لتعبدوه. فقالوا: نحن شهود". فقد اعتبره أعظم من النبيّ (موسى)، فهو بنظره: باني الأمّة.

 

(بن يشاي): وكثيراً ما تحدّث أمام الجنود باعتبارهم: "كتائب بن يشاي"، الذي كان أحد ضبّاط كتائب (الملك داوود). ، فقد نأى عن وصفهم بـ"كتائب داوود"، لأن إحدى الفرق العسكرية اليهودية في الزمن الغابر أسمت نفسها بهذا الإسم. لذا تعمّد العجوز بأن يكون وصفه للجنود وصفاً لا خلاف عليه.

 

(دبوره): وهي قائدة عسكرية نشطت في مرج ابن عامر بحسب الأسطورة "التناخية". فقد وصفها "العجوز" قائلاً: "الأعظم بين نبيات إسرائيل ونساءه".

 

"التناخ" ممارسة يومية

اختار "بن غوريون" خمسة أعداد/ آيات من "التناخ" بعناية فائقة، فكتبها بخط واضح ووضعها تحت لوح زجاج طاولة عمله:

الأول- "لأنه هكذا قال الربّ خالق السموات، هو جابل الأرض وصانعها، الذي أقرّها ولم يخلقها خواء، بل جبلها للسكنى: إني أنا الربّ وليس من ربّ آخر" (يشعياهو 45: 18). والمثير هنا هو اكتشاف كم كان هذا "العلماني"، كما يصرّ دائماً، مؤمناً!!

والثاني- "أنا الربّ دعوتك في البرّ، وأخذت بيدك وجبلتك، وجعلتك عهداً للجماعة ونور الأغيار" (يشعيهو 35: 18). يؤكّد فيه تفوّق اليهود على الأغيار، وهو موقف يهودي عنصري.

والثالث- "وإذا نزل بكم نزيل في أرضكم فلا تظلموه. وليكن عندكم النزيل المُقيم فيها كابن بلدكم، تحبه حبك لنفسك، لأنكم كنتم نزلاء في أرض مصر: أنا الرب إلهكم" (الأحبار 19: 32- 33). والذي معناه: إن سكان البلاد الأصليين أغيار غرباء مثلما كان اليهود في مصر.

والرابع- هذا الكَلامُ سَمِعَهُ يشعيهو بنُ آموصَ في رُؤيا على يَهوذا وأُورُشليم، ويكونُ في الأيّامِ الآتيةِ أنَّ جبَلَ بَيتِ الرّبِّ  يثبُتُ في رأسِ الجبالِ ويرتَفعُ فوقَ التِّلالِ إليهِ تتَوافدُ جميعُ الأغيار .ويسيرُ جموع كثيرة، يقولونَ : لنَصعَدْ إلى جبَلِ الرّبِّ، إلى بيتِ إلهِ يَعقوبَ، فيُعَلِّمَنا أنْ نسلُكَ طُرُقَهُ». فمِنْ صِهيونَ تخرُج الشَّريعةُ ومِنْ أُورُشليمَ كلمَةُ الرّبِّ .الرّبُّ يحكُمُ بينَ الجوييم/  goyem ويقضي الجوييم/ goyem  كثيرينَ، فيَصنعونَ سُيوفَهُم سُكَكا ورِماحَهُم مَناجلَ. فلا ترفَعُ  جوي/ goy على جوي/ goy سيفًا ولا يتَعَلَّمونَ الحربَ مِنْ بَعدُ." (يشعيهو 2: 1- 4). يؤكّد على أهمية "أورشليم" في السلام العالمي، وشريعة اليهود التي ستجلب السلام العالمي.

والخامس- وتُبت إلى الرّبِّ إلهِك وسَمِعت صوته الذي أنا آمُرُكُم بهِ اليومَ، أنتُم وبَنوكُم، بكُلِّ قلوبِكُم وكُلِّ نُفوسِكُم، يرُدّ الرّبُّ أسراك ويرحَمُك ويعودُ فيَجمَعُ شَملَكُم مِنْ بينِ جميعِ الجموع حيثُ شَتَّتكُم. ولو كانَ الرّبُّ إلهُك قد شَرَّدك إلى أطرافِ السَّماءِ، يجمَعُك الرب إلهك مِنْ هُناكَ ومن هناك يأخذك، ويأتي بِك إلى الأرضِ التي اَمْتَلَكَها آباؤُك فتَمتَلِكها، ويُحسِنُ الرّبُّ إلهُك إليك وإلى بَنيك أكثرَ مِنْ آبائِك" (تثنية الإشتراع 30: 3- 5) . يؤكّد على إنشاء الصهيونية وطناً في يهوديا في فلسطين، على أنه تحقيق لوعد "التناخ".

 

ولأهمية التربية "التناخية" فقد نظّم "بن غوريون" في بيته أسبوعياً ندوة حول قضية "تناخية". وهو الذي أوعز بتنظيم مسابقة "حيدون هتناح/ لغز التناخ". وأوعز بأهمية جعل "التناخ" في صلب العملية التربوية. وهو الذي شكّل: "شركة لحفريات أرض إسرائيل وآثارها". وأهم ما فعله في هذا المضمار، هو قبوله (حزب "المباي"/ العمل لاحقاً) الشراكة التاريخية في أيّ ائتلاف حكومي. فمنذ تشكيل أول حكومة مُنتخبة عام 1949، ضمّ "حزب المُتدينين الأحرار/ المفدال" إلى حكومته ومنحهم مهمة تربية أجيال من "الإسرائيليين"، بواسطة إطلاق يدهم في وزارة التربية والتعليم. وقد سيطر هذا الحزب على هذه الوزارة إلى عام 1977. ليس هذا فقط؛ فقد منح هذا "العلماني" أبناء المجموعات المُتديّنة، الـ"حَرِدِيم" الحقّ في أن لا يخدموا في الجيش، وأن يتعلّموا الديانة اليهودية طوال حياتهم مقابل راتب تدفعه الدولة لكل مَن يريد. وأوعز لكل فرقة في الجيش على ضرورة الاحتفاظ بنسخة من "التناخ" في كل ثكنة.

 

يلاحظ الباحثون في نصوص "الأب المؤسّس" أمراً هاماً؛ فقد قلّل كثيراً من استخدام كلمة الجرّ- الوصل: "ءِتْ"- العبرية ساكنة الأواخر-، التي تتوسّط الفاعل والمفعول. وكي نقرّب الموضوع إلى القرّاء الذين لا يجيدون العبرية، نضرب المثل الآتي: بإمكاننا نحن العرب أن نَقول: 1- الفلسطينيون كنعانيون 2- الفلسطينيون هم الكنعانيين 3- الفلسطينيون هم أصلا كنعانيين.. وعندما نترجم أسلوب "الأب المؤسس"، نرى أنه استغنى عن: هم، وهم أصلاً. والتي معناها التنازل عن "ءِتْ" العبرية. والذي معناه على المستوى الأيديلوجي والنفسي أنه اعتبر الأحداث "التناخية" تتواصل مباشرة مع أحداث المضارع، من دون حاجة إلى هذه الكلمة، كي تجر أو تصل الماضي "التناخي" بالمضارع الصهيوني.

 

"يرميهو نبيّ الغضب"

في 1963 وعلى إثر خلافات مع أركان حزبه، "المباي/ العمل"، انسحب "الأب المؤسّس" من الحياة السياسية. فاستقر في بيت متواضع (براكية) في مستوطنة "سديه بوقِر/ حقل الصباح". وكتب لافتة على بابه، وهي عبارة عن رسالة موجّهة إلى زوجته "Pola " (1892- 1968)، مُقتبسة من سفر "يرميهو" إرميا" (2: 2)، ويقول فيها:

"هكذا قال الربّ:

لقد تذكّرت لك مودة صِباك

محبّة خِطبتك

لَمّا كنت تسير ورائي في البرية

في أرض لا زرع بها". 

لا شكّ أن "العجوز" باقتباسه هذا أراد أن يؤكّد أنه نسل من "يهوشع باني الأمّة" إلى "يرميهو النبيّ الغاضب"!!

 

وبعد، هذه هي العلاقة بين اليهودية والصهيونية، كما يفهمها أهم شخصية في الحياة الصهيونية العملية ودولة "إسرائيل"!!