لماذا تعتقد تركيا أنّ مؤتمر الأستانة مُخصّص لتقاسُم الغنائم في سوريا؟

تركيا اليوم طرف والتساؤل ها هنا هل فرضت نفسها أم أن هناك مَن فرضها بالقوة؟ ولعلّ الجواب بيد أمريكا التي اختارتها أن تكون مترجماً وبوابةً وأداةً لسياساتها، وأثمر التفويض الأمريكي بتحقيق بعض النتائج المتوخّاة من الحرب على سوريا، فقد دعمت بالسلاح ودمّرت بنى تحتيه سورية، وحاربت الكرد خارج حدودها ونجحت بإبعادهم عن حلم دولة كردية تهدّد أمن تركيا.

الخطوات التركية الأخيرة ليست إلا محاولة لكسب الوقت وملء الفراغ ووقف سلسلة الهزائم التي تعرّضت لها
منذ بداية الأزمة السورية وتركيا تحاول التروّيج لنفسها كدولة اقليمية صاعدة يطمح ساستها للوصول إلى مصاف الدول المتقدّمة، أو على الأقل الظهور بمظهر المتفوّق إقليمياً، والثمن تسخير الدولة التركية كأداة لتنفيذ أجندة الدول الغربية، فكان تقديمها لنفسها كطرفٍ أساسي في الأزمة السورية، فتدخّلت تركيا عبر تقديم الدعم اللوجستي للجماعات المسلّحة الإرهابية، تطوّر ذلك في ما بعد إلى التدخّل عسكرياً بهدف مباشر حقيقي لمحاربة الأكراد على الأرض السورية تجلّى ذلك عبر تدخّلها  بمدينة الباب السورية، حيث روّج البعض آنذاك إنه اتفاق خفّي بين روسيا وتركيا من قبل.

في ما بعد ومن زاوية التسلسل الزمني طرأت محطة تاريخية بمتغيّرات جديدة حرفت بوصلة العلاقات الدولية، حيث انحرفت تركيا نحو مسار جديد تمثّل بعد حدوث تحوّلات داخلية مثل الانقلاب العسكري الأخير والتباعُد عن أمريكا والتوجّه نحو روسيا، لتجذبها روسيا بعد ذلك للمشاركة بوضع حلول الأزمة السورية على حد تعبير المثل الشعبي القائل: إلحق الكذّاب لوراء الباب، وبالفعل تم لروسيا ما أرادت.

اليوم تركيا طرف والتساؤل ها هنا هل فرضت نفسها أم أن هناك مَن فرضها بالقوة؟ ولعلّ الجواب بيد أمريكا التي اختارتها أن تكون مترجماً وبوابةً وأداةً لسياساتها، وأثمر التفويض الأمريكي بتحقيق بعض النتائج المتوخّاة من الحرب على سوريا، فقد دعمت بالسلاح ودمّرت بنى تحتيه سورية، وحاربت الكرد خارج حدودها ونجحت بإبعادهم عن حلم دولة كردية تهدّد أمن تركيا.

كان للتقارب التركي من روسيا  أسبابه: يشكّل بغالبه هزيمة لتركيا التي حاولت التعويض عبر روسيا على حساب سوريا، فهي إذن تسعى لمكانة اقليمية بعد خساراتها وطموحاتها الدولية بأقل التكاليف - اصطدام بإيران كطرف لا يقبل المساومة على تفوّقه الاقليمي – وهنا اصطدام أساسه التنافس ولكن دخول إيران رغم شكلية دورها كطرف مثله مثل تركيا التي تضبط مسلحيها اليوم يعني أنه انصياع تركي بشكل ما وإقرار بعجز عن تحقيق المكانة الاقليمية التي طمحت إليها، لذا الارتدادات ستبدأ التي ستتمثّل بخضوع لقرارات روسيّة إيرانية، وفقدان الحكومة التركية مصداقيتها عند الحركات الإرهابية، بالتالي الفترة القادمة سيقوم بعض الناقمين من المتطرّفين بهجمات ضدّ تركيا وهو ما حدث من فترة وجيزة.

وللتنويه ليس من باب الصدق ستدخل تركيا كطرف سياسي، بل من باب التضحية بالجزء كي لا تخسر الكل، فمقارنة المسلّحين التابعين لتركيا مع المكانة الإقليمية لها ستفسّر التجاوب التركي في بعض أجزائه أيضاً، لأن الواقع العملي يظهر تناقضاً ما في المعاملة الواقعية التركية حيال الوضع السوري، فاستقبال وتدريب وتسليح المعارضة ومن ثم الدعوة للأسلوب السياسي، وكفالة المسلّحين يشير إلى أنها لن تعجز عن إيجاد صيغة ما للتوافق مع المسلّحين بما يبقيهم ورقة بيدها من جهة ويجنّبها الاصطدام بهم من جهة ثانية، وبالتالي فإن دخولهم إلى مؤتمر الأستانة ينطوي على قدر عالٍ من المجازفة وليسوا صادقين في مسعاهم على الأمد البعيد حتى لو قاموا ببعض الخطوات الوهمية التي تُستخدم كأدلّة على جهودهم السياسية. من ناحية ثانية سيكون مؤتمر الأستانة في خفي الأمر مؤتمراً لتقاسم الغنائم، وهذا ما كشفته ذلّات اللسان، أو الغباء التركي عندما أصرّوا على استبعاد حزب الاتحاد الديمقراطي من مؤتمر الأستانة، فهم لا يريدون مفاوضات معه بل يريدون اجتثاثاً نهائياً سيبعد الشبح الكردي عن الساسة الأتراك الحاليين المرهفي الإحساس، وبالتالي استمرار الاقتتال  والتدخّل ووقوع الأراضي السورية ضحية للتجاذبات وعمليات الاستقطاب، ويبقى العامل الحاسم الذي نعوّل عليه هنا هو القوة الروسية في فرض توجّهاتها واحترام منجزاتها.

التوصّل إلى اتفاق له ظروفه وهي معروفة بالنسبة إلى الظرف السوري، وله شروطه التي تبرز كثمن للتوصّل إلى صيغة الاتفاق لا سيما في ظل انهماك الطرف صاحب العلاقة أي سوريا في شؤونه الداخلية، كالاتفاق الذي أعلنت عنه موسكو وأنقرة لوقف إطلاق النار في سوريا بدءاً من منتصف ليل الخميس 29 ديسمبر/ 2016 الذي تضمّن خطوات تنفيذية بضمانات روسية تركيّة، وبالتالي نجحت تركيا بتثبيت مكانتها الإقليمية تاركةً السعي لمكانه دولية محترمة عبر الاندماج بأحلاف عالمية لحكومات تركيّة مستقبلية في ظل ظروف تخلّي الأقارب الأطلسيين عنها، التي نزحت نتيجة تخلخل وعود البعض منهم وإغلاق أبواب الآخر في وجهها بدليل موقف التحالف الأميركي من دعم «قسد»، ورفض الاشتراك مع التركي في معركة الباب كما رفض تقديم أية مساعدة له فيها، من جهة واستشعاراً بضعف موقفها ورغبتها في البقاء في الحضن الروسي، ولكن على الأغلب أنها لن تغيّر انتماءها بسب ظروف آنية، ناهيك عن حقيقة المتغيّرات الدولية التي تعتبر متغيراً مستقلاً والجميع يستفيد منه ويتأثر به سواءً سلباً أم إيجاباً.

إن الإعجاز التركي في القدرة بعد سلسلة من النكسات الداخلية والخارجية لتصدّر المشهد السوري كطرف رئيسي، دليل على وجود خطة متكاملة لبقية الأطراف في جذب الطرف التركي مع العلم أن تركيا باتت طرفاً غير ذي مصداقية وغير مرحّب به من أغلب السوريين، الأمر الذي سيقود في النهاية إلى ترسيخ واقع عملي في بنية النظام الدولي عنوانه العريض التعدّد القطبي، وهنا ينكشف الصراع وأهم أبعاده المتمثّلة في محاولة كل طرف دولي جذب أكبر عدد من الحلفاء إلى حلفه، ولذلك فإن تركيا التي تتعامل حالياً بعنجهية وكأنها هي المنتصرة هي في حقيقة الأمر غير ذلك، والواقع يقول: إنها كما استخدمت أدوات في داخل سوريا فإن الأكبر منها كدول يستخدمها أداة في لعبة أكبر من حدود الجغرافيا السياسية السورية. واليوم وقعت تركيا في الفخّ الروسي الإيراني وبلعت الطُعم، بدليل أن التسوية السورية لن تنهي الحرب في سوريا، وما تقوم به القيادة السورية في كسب عامل الزمن عبر الاستفادة من المستجدات الدولية وتقليل الخسائر البشرية إلى أبعد مدى، والاعتماد على حنكة الحلفاء لا سيما أن المصالح المشتركة عملاقة تستحق التضحية.

من جهة ثانية إن الاشتراك التركي في سلسلة المؤتمرات الدولية ونهج سبيل الضغوط السياسية بعد الفشل العسكري المتمثّل بمعركة حلب، وما قامت به بعدها من مجموعة حركات توهم بالاهتمام والحرص على الحل السياسي للأزمة السورية يشير إلى محاولة تركية بأن ما لم تحصل عليه تركيا خلال خمس سنوات ونيّف من الحرب تحاول أن تحصل عليه بالسياسة.

أخيراً وفي صدد ترتيل تركيا للأصوات الأطلسية في قاعة مؤتمر الأستانة نرى أنّ الساسة الأتراك يتصدّرون الشاشات واضعين شروطاً تخدم أعداء سوريا بشكل مباشر، ولا تأثير لها على مسار الحل السياسي، بل وتنطوي على مصالح تركيّة شديدة الخصوصية، ومن جملة هذه الأوامر ما ذكره ريزان حدو عضو مجلس قوات سوريا الديمقراطية من قبيل عدم جواز  بقاء الأسد في منصب الرئاسة، وإخراج حزب الله من سوريا، واستمرار عملية درع الفرات في منطقة الباب التي اعتبرتها الحكومة السورية منذ بداياتها انتهاكاً للسيادة السورية، والعامل الأهم اتفاق الهدنة يُستثنى منه حزب الاتحاد الديمقراطي - ووضع فيتو على حضوره المباحثات التي من المزمع عقدها في الأستانة، وهنا تتّضح غاية إخرى من مشاركة ورضوخ أعداء سوريا في مؤتمر الأستانة، لسبب بسيط يكمن في اعتقادهم أنّ هذا المؤتمر سيكون مؤتمراً لتقاسم الغنائم في سوريا، ليفوز الطرف التركي بمناه الذي ناضل ظلماً وعدواناً لتحقيقه، هذه المؤشرات تعطي انطباعاً بأن تركيا لا تمتلك الإرادة الحقيقية لوقف الحرب في سوريا إلا إذا حقّقت مصالحها في الداخل السوري بأتم وجه، والتي تتعارض مع سيادة الدولة السورية قيادةً وأرضاً وشعباً.

إن الخطوات التركية الأخيرة بجزء كبير منها ليست إلا محاولة لكسب الوقت وملء الفراغ ووقف سلسلة الهزائم التي تعرّضت لها منتظرةً بذلك عودة ووصول المرشد الأعلى الأمريكي المُنتخَب ترامب إلى قبّة البيت الأبيض، لأن أيّ مؤتمر دولي مهما بلغت الأطراف من القوة سيكون منقوصاً، ومعرّض لكم ٍهائل ٍمن التهديدات بغياب واشنطن والرياض وقطر وغيرها من الأعداء الذين تتناقض مصالحهم بشكل تام مع عودة الخمود إلى البركان الدموي الذي تسبّبوا به في سوريا.