لي جيشٌ عظيم ومسؤول قياديٌّ بامتياز

بعد أن أصبح كلّ لبنانيّ مُحلّلاً سياسياً، بات اليوم كلّ مواطنٍ مُحلّلاً عسكرياً! ما هي دقائق قليلة على زيارة مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم خيمة أهالي العسكريين المخطوفين لدى تنظيم "داعش" الإرهابي وإعلانه عن وجود رفات لثمانية أشخاص يُعتقد أنها تعود لأبنائهم، حتى انهالت التعليقات والتحليلات. لعلّها كلها أجمعت على الحزن الشديد لأن الأمل كان دائماً بإيجاد العسكريين المخطوفين أحياء. ولكن انقسمت بين مَن رأى أن التفاوض الذي يقضي بإخراج عناصر التنظيم خارج الأراضي اللبنانية مقابل الكشف عن مصير العسكريين أمراً جيّداً؛ وبين مَن أشار، لا بل "نظّر وحاضر" بأن يجب قتلهم بدل السماح لهم بالخروج من لبنان... ربما ليس خطأً أن يعبّر كل مواطنٍ عن رأيه، لا بل إنه حق؛ بغضّ النظر عما إذا كانت الآراء مبنية على المنطق العقلاني، أم على الاندفاع الغرائزي، أم على الكراهية المُبطّنة في تفكيرنا... غير أنّ الكلمة الفصل تبقى دائماً لقائد المعركة، قائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون.

الجيش حقّق النصر وبزغ فجر الجرود

من قصر رئاسة الجمهورية أطلّ العماد عون، ببنيته العسكرية القوية وجديّته المطلوبة، قائلاً كلمته بثقةٍ ووعي، وأطلعنا على تفاصيل المعركة وردّ على كل التحليلات بالمنطق العلمي والمعرفة العسكرية والأخلاق الإنسانية. ليبرهن أنه قائدٌ قياديٌّ بامتياز. "باسم لبنان والعسكريين والشهداء الأبرار وباسم أبطال الجيش اللبناني العظيم"، أعلن العماد عون انتهاء عملية "فجر الجرود". وعلى عكس ما تعوّدنا عليه، لم يكن إعلان النصر مصحوباً بالفرحة المُبهرجة تهدف إلى رفع الـ"أنا" ليصبح النصر ملكي، بل كان الإعلان مُتّزناً، راقياً ومُحترفاً.

 

من ثمّ انتقل العماد عون إلى تفصيل مراحل العملية مؤكّداً أنها بدأت فجر السبت، 19 آب 2017، وكانت تهدف أولاً إلى طرد الإرهابيين من الأراضي التي يسكنون فيها في جرود رأس بعلبك والقاع والفاكهة، وثانياً معرفة مصير العسكريين المخطوفين. وأضاف عون: "الساعة الصفر كانت نهار السبت، واقتضت المرحلة الأولى على احتلال مجموعة أهداف." وشرح قائلاً: "كان الإرهابيون بوجهنا، فإما يُقتلون وإما يهربون باتجاه الأراضي السورية. لذا مناورتنا كانت من الغرب باتجاه الشرق، ما يعني أن الحدود اللبنانية السورية كانت تحت سيطرتهم، فيما نحن لم نكن نسيطر عليها. فضيّقنا الخناق من ثلاث جهات لإنهاء المرحلة الأولى." لا بدّ من الإشارة هنا إلى ما لفتنا في هذا القسم من خطاب قائد الجيش، حركة يديه. فهما تتحرّكان وكأن الخريطة أمامه، أو كأنه على الأرض ويشرح لنا ما يرى. وذلك دليلٌ قاطع على إدراكه لأدقّ تفاصيل منطقة الجرود، فهو قائدٌ يعرف ميدانه بكّل تلاله.

 

بعد ذلك، ذكر عون المرحلتين الثانية والثالثة من العملية العسكرية بطريقة موجزة للوصول إلى المرحلة الرابعة وهي الأهم، إذ قال: "بقي لدينا المرحلة الرابعة والأخيرة؛ وكان مُخطّط لها يوم الأحد؛ وهي من خربة داوود إلى وادي مرطبيا، وكانت الأصعب لأن طبيعة الأرض تختلف، فهي جبلية. وكنّا نعلم بوجود عبوات كثيرة، والقوى الخاصة بهم إما هربت باتجاه الأراضي السورية وإما تجمّعت في هذه البقعة. العائق الثاني الذي ظهر لنا في هذه البقعة هو وجود عائلاتهم المدنية، ونحن كمؤسّسة عسكرية نتقيّد بالقوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان لذلك نحاول تحييد المدنيين قدْر استطاعتنا". مرحلة التصعيد الكلامية في خطاب قائد الجيش بدأت في هذا القسم، إنه تصعيد ذكيّ بهدوئه. فانطلق من إنسانية المؤسّسة العسكرية ليبدأ عملية الرّد على مَن دعت تحليلاته إلى القتل. لذا عاد وشدّد في الجملة التالية على أهمية حماية المدنيين، فقال: "السبت كانت مرحلة قصف مدفعي على أهداف مُركّزة لتحييد المدنيين حتى لا نؤذيهم".

 

وانتقل بعدها إلى سرْد تفاصيل اتّخاذ القرار بوقف إطلاق النار مقابل الكشف عن مصير العسكريين المخطوفين، وشرح: "عند السابعة من صباح الأحد كان الأمر بانطلاق الساعة الصفر لانتهاء المرحلة الأخيرة والرابعة؛ اتّصل بي اللواء إبراهيم وقال: "وافقوا على وقف إطلاق النار بشرط معرفة مصير العسكريين". هنا كان عندنا خياران، إما أستمر بالمعركة من دون أن أعرف مصير العسكريين، أو أرضخ إلى الأمر وأريد أن أعرف مصير العسكريين؛ بالإضافة إلى أنّ أرواح العسكريين هي "أمانة برقبتي"؛ أنا إذا أستطيع أن أربح معركة من دون أن أخوضها يكون هذا الإنجاز الأساسي؛ سمعنا الكثير في الأيام الأخيرة "لماذا الجيش لم يستمر؟" أنا أفهم محبة العالم وعاطفتهم ولكن أنا "في مسؤولية برقبتي"، ومن الأساس إذا أستطيع أن أربح المعركة كلّها من دون أن أخوضها يكون إنجاز لي".

 

وجاء الرّد الحكيم الذي لفتتنا في تفاصيله بعض النقاط: أولاً، استخدم الضمير المُتكلّم لأول مرة عندما تحدّث عن وجوب اتّخاذه القرار، وفي ذلك دلالة على مدى إدراكه لصلاحياته ومدى تحمّله للمسؤولية المُعطاة له، فقائد الجيش هو مَن يتّخذ القرار العسكري الميداني والمسؤولية تقع على عاتقه. ثانياً، كان مُصرّاً على معرفة مصير العسكريين إذ كرّر عبارة "مصير العسكريين" في هذا الجزء فقط ثلاث مرات. ثالثاً كان واضحاً خوفه على العسكريين الموجودين في ساحة المعركة، إذ أن اتخاذ قرار خوضها ستعرّضهم للخطر وقد يكون مصيرهم الاستشهاد لذا استخدم عبارة "في أمانة برقبتي" و"في مسؤولية برقتبي". كما كرّر جملة "إذا أستطيع أن أربح معركة من دون أن أخوضها يكون هذا إنجاز". واللافت في ردّه الواضح والصريح أنه كان لبقاً، هادئاً ومُتفهّماً، على الرغم من أنّ بعض التحليلات والتعليقات لم تحترم موقعه ولم تقدّر فكره وذكاءه فحاولت أن تتعداه مُعتقدةً أنها تفوقه معرفةً وإنسانيةً. وأكّد العماد عون أن الهدف الثاني من معركة "فجر الجرود" لم يتحقّق بعد ولن يتحقّق قبل صدور نتائج فحوصات الحمض النووي لرُفات الجثامين الثمانية التي وجدت. ولكن، عاد وشدّد على أن بالمفهوم العسكري، يُعلن انتهاء العملية العسكرية بخاصةٍ بعدما فتّشت وحدات الجيش خربة داوود ووادي مرطبيا وتأكّدت أنها خالية من أي وجود للمُسلّحين.

 

كلّ ذلك، ولم ينظر قائد الجيش إلى ورقة، لم يتلعثم بكلمة ولم يُخطئ بحرف. على الرغم من أن صوته كانت تخنقه الغصّة وتعابير وجهه كانت تتخطّى الجديّة العسكرية لتدنو من الألم والتأثّر العميقين. فلعلّ هذا القسم من خطابه كان الأصعب؛ وكان لا بدّ بعد انتهائه من أخذ نفس عميق، والنظر إلى الأوراق وبعثرتها قليلاً، لينتقل ويتحدّث عن الأسلحة التي استُخدمت في المعركة وعن فكرة المناورة التي فاجأت عناصر التنظيم، مشيراً إلى استخدام الجيش لخدعة قامت على الحشد من ثلاث جهات، فكان مصيرهم إما أن يُقتلوا أو يهربوا باتجاه الأراضي السورية.

 

وعاد القائد وأخذ نفساً عميقاً وبعثر أوراقه من جديد، حيّا أرواح الشهداء الذين سقطوا على أرض المعركة وتمنّى للجرحى الشفاء العاجل، آملاً بانتهاء الملف وتحقيق الهدف الثاني قريباً. كلّ ذلك، ولم يلفظ عبارة "تنظيم داعش"! أشار إليهم بداية خطابه بالإرهابيين والمُسلّحيين، وفي حديثه عن سيْر المعركة كان يستخدم ضمير الغائب، فتجاهل العدو لأنه أصبح من زمن الماضي، لا قيمة له ولا وجود. وختم قائد الجيش قائلاً: "الجيش حقّق النصر وبزغ فجر الجرود". ونحن نختم قائلين: بزغ فجر لبنان مع الجرود، لأنّ لي جيشاً عظيماً وقائداً قياديّاً بامتياز.