حكومة "الاستثناء المغربي".. عن السياقات والحصيلة

الحكومة التي ترأّسها عبد الإله بنكيران أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي تكوّنت على إثر اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أطّرتها "حركة 20 فبراير". وفي هذا الخِضمّ سارع القصر إلى طرح مسار آخر بدأ مع خطاب الملك في 9 آذار/ مارس من سنة 2011، وصولاً إلى استفتاء على دستور جديد للبلاد، ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، وتشكيل حكومة قادها حزب العدالة والتنمية. وجرى هذا المسلسل تحت عنوان أن المغرب "استثناء" عن باقي البلدان العربية، باعتبار التلقي السَلِس للمطالب من لدن الملك، والالتفاف عليها من زوايا أخرى، والسماح لفريق من الإسلاميين بتشكيل حكومة برئاستهم، وكل ذلك بالاستفادة من رضى دولي عن الوضع المُستقرّ في المغرب.

عبد الإله بنكيران أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي
الحكومة التي ترأّسها عبد الإله بنكيران أمين عام حزب العدالة والتنمية المغربي تكوّنت على إثر اندلاع الاحتجاجات الشعبية التي أطّرتها "حركة 20 فبراير". وفي هذا الخِضمّ سارع القصر إلى طرح مسار آخر بدأ مع خطاب الملك في 9 آذار/ مارس من سنة 2011، وصولاً إلى استفتاء على دستور جديد للبلاد، ومن ثم إجراء انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، وتشكيل حكومة قادها حزب العدالة والتنمية. وجرى هذا المسلسل تحت عنوان أن المغرب "استثناء" عن باقي البلدان العربية، باعتبار التلقي السَلِس للمطالب من لدن الملك، والالتفاف عليها من زوايا أخرى، والسماح لفريق من الإسلاميين بتشكيل حكومة برئاستهم، وكل ذلك بالاستفادة من رضى دولي عن الوضع المُستقرّ في المغرب.

نقاش حصيلة الحكومة يسترعي هذا السياق المُتميّز، حيث أنها باتت اليوم على بُعد أيام من اختبار نفسها استناداً إلى قواعد اللعبة الانتخابية. وقد لا تعني عودتها أن حصيلتها كانت جيّدة، ولا يعني انفراط عقدها بعودة الحزب الأول فيها إلى صفوف المُعارَضة بأن أداءها كان سيّئاً. ولهذا غالباً ما تُزايد المُعارَضة على الحكومة بخصوص حصيلتها، وتحطّ من شأنها، وحينما تقود هي الحكومات لا تأتي بأكثر مما أتت به الحكومة السابقة كما يُصرِّح عبد الإله بنكيران في أكثر من سياق بأن الحكومات التي ستأتي بعده ستكون مُرغمَة على استكمال نفس المنوال.

حكومة العدالة والتنمية قامت برفع الحدّ الأدنى للأجور، لكنها  أقرّت في الوقت نفسه إصلاحاً لقانون التقاعد برفع سنوات العمل والاقتطاع من أجور الموظفين. وفي الاتّجاه نفسه أقرّت لأوّل مرّة صناديق تضامنية للأرامل والمُطلّقات والمعوزين، لكنها أغرقت البلاد في المديونية، ولم تبتكر مداخيل عمومية جديدة. وزادت من مِنَح الطلبة الجامعيين، لكنها وفّرت بيئة مُمتازة لخصخصة التعليم. وبالتالي فأي إجراء يمكن أن تقوم به أية حكومة يبقى عاجزاً على الخروج من دائرة "الترقيع". ذلك أن ثمة مُعادلتين جاثمتين على مساعي تقديم الحصيلة النوعية. يتعلّق الأمر بالمُعادلة الداخلية، حيث موازين القوى والمصالح المُتصارعة لا تساعد أية حكومة مهما كانت نواياها ومشاريعها الإصلاحية طموحة. والمُعادلة الخارجية، حيث  التوازنات "الماكرو اقتصادية" الكبرى التي تُقسِّم الغنى والفقر على بلدان وشعوب العالم، بمنطق يتنافى ومصالح تلك البلدان وشعوبها.

المغرب وقع في فخّ التبعية منذ الاستقلال الذي تم إعلانه في اتّفاق "إيكس ليبان" سنة 1956، وهو الاتّفاق الذي اعترض عليه لاحقاً قسم هام من الوطنيين المغاربة، من قادة حركة التحرّر. فكان الاختبار الأوّل الذي يؤكّد أن المغرب شأنه شأن الكثير من الدول الحديثة العهد بالاستقلال حينئذ، لم يخرج تماماً عن رَبقَة الاستعمار. والاختبار إياه تمثّل في الحكومة التي قادها عبد الله إبراهيم من سنة 1958 إلى 1960، حيث تم إسقاطها بسبب برنامجها الذي تمثّل في ضرورة توفّر المغرب على اقتصاد وطني مُصنّع، وعلى إصلاح زراعي يطرد المُعمّرين من الاستغلاليات الزراعية، ويُعيد توزيع وتنظيم الملكية الزراعية. ومنذ  ذلك الحين لم يتوفّر المغرب لا على اقتصاد صناعي مُستقل بالمعنى الدقيق للكلمة، ولا على إصلاح زراعي يمكن المغرب يبدأ بالطبيعة القانونية للأراضي الزراعية، وينتهي بمكننة القطاع بأكمله للرفع من مردودياته.

أما باقي القطاعات الاجتماعية كالتعليم والصحّة والعدل فبقيت رهينة تجاذبات سياسات الحكومات المُتعاقبة، ولم تعرف سوى إجراءات ترقيعية في أحسن الأحوال تروم حفظ التوازنات في حدود مُعينة. وخلال سنوات التقويم الهيكلي في المغرب (1983-1993) ارتفعت وتيرة الاحتقان الشعبي الناجم عن غلاء المعيشة، والمسّ بالحق في التعليم. ولهذا فقد حذّرت بعض القوى اليسارية حكومة عبد الإله بنكيران من مخاطر العودة إلى فخ سياسة التقويم الهيكلي، بسبب ميل هذه الحكومة إلى توسيع حركة الاقتراض من صندوق النقد الدولي.

في هذا الصدد لا يضاهي إنجاز حكومة بنكيران إنجاز حكومة عبد الرحمن اليوسفي، حيث لا تمتلك هذه الحكومة رجال دولة قادرين على الإبداع في الهوامش المُتاحة لهم. وبدل التغنّي بـ"نظافة يد وزراء حكومة بنكيران" التي لا يمكن اعتبارها مؤهّلاً على أية حال، كان بإمكانها البدء بتقليص بعض نفقات التسيير، خصوصاً التي تتعلّق بالعمل الحكومي التي سيكون مقدوراًعليها من جانب الحزب، وتقليص عدد الوزراء، ووضع قوانين لترشيد نفقات التسيير في مؤسّسات الدولة، ووضع مدوّنات إدارية للرفع من إمكانية مراقبة عمل الإدارة، ثم إضافة ما اعتبرته هذه الحكومة "حصيلة تاريخية". حيث أن الوضع هكذا بات مُجرّد سعي إلى استمالة الفئات المُعوَزة للتصويت مرّة أخرى للعدالة والتنمية، وذلك عبر آلية "صناديق التضامن"، والشكوى الدائمة من "التماسيح والعفاريت" المُعرقلين لمطامح الإنجاز الحكومي.