تدمر.. بين الحضور الجزئي والغياب التام

منذ أواخر عشرينات القرن الماضي بدأت البعثات الأثرية من فرنسا وألمانيا وبولندا وسوريا بإعداد الأبحاث حول مدينة تدمر القديمة. وشملت الدراسات الأثرية المباني والأحياء السكنية والبُنية التحتية والمدافن والمقابر في تدمر. وقامت هذه البعثات بالحفر والتنقيب وبعد ذلك إنتقلت إلى ترميم هذه المعالم . وكان لعلماء الآثار السوفيات دور مهم في سبعينات وثمانينات القرن العشرين في دراسة أطلال هذه المدينة العتيقة وترميمها.

يتّفق الخُبراء على أن تدمر هي مدينة جريحة، وبات مُستحيلاً إعادة الجزء الأكبر منها إلى ما كان عليه.

 ومن ثم جاء العنف إلى سوريا بسبب الأعمال القتالية والتدمير المتعمد من قبل المسلّحين. تضرّرت أهم المعالم الأثرية في هذه المدينة المُدرجة في قائمة التُراث العالمي لليونسكو. وقد زرعت المجموعات الإرهابية الكثير من الألغام بين تلك المعالم. لكن الجزء الأكبر منها أزيل بجهود الوحدات الهندسية الروسية، وبذلك أصبح بإمكان علماء الآثار التحرّك بحريّة أكبر لتقييم الأضرار التي لَحقت بتلك المعالم. وفي شهر تموز/ يوليو الماضي زارت المدينة بعثة أثرية روسية تضمّ علماء بارزين مُتخصّصين في علم الآثار، بما في ذلك خبراء من المتحف الشرقي التابع للدولة ومتحف الهيرميتاج  (من سان بطرسبورغ) الذي أعلن عن مُبادرته المُشاركة في ترميم التماثيل. وكانت هذه المجموعة هي أول مجموعة تزور تدمر بعد الإنتهاء من إزالة الألغام، لذلك كان لديها فرصة لإستكمال الكشف على المعالم الأثرية. وبعد الإنتهاء من الكشف أعدّ الخبراء تقريراً يبيّن الأضرار التي لَحقَت بالمدينة والخطوات اللازمة لترميم المعالم وإعادتها إلى ما كانت عليه.

ولعل أسوأ ما حدث خلال تخريب هذه المعالم هو تضرّر معبد بل الشهير (وهو أكبر صَرح أثري في المدينة) وقوس النصر الذي يُعتبر واجهة مدينة تدمر. وهذان المعلَمان تحديداً تضرّرا بشكل مباشر. بينما معبد القبر وبناء المسرح القديم لا يزالان بحال سليمة.

ووفقاً للدكتور ألكسندر سيدوف المُتخصّص في العلوم التاريخية والمدير العام لمتحف الدولة للفنون الشرقية فإن الجماعات المُسلّحة كانت تعرف أهم رموز  المدينة التي قامت بتدميرها لإيقاع أكبر أَذى بكنوز التُراث العالمي  في تدمر. على سبيل المثال  فإن المحراب المقدّس لمعبد بل تحوّل إلى أجزاء صغيرة ومُبعثرة من المستحيل إعادتها على هيئتها السابقة، ولا يبقى إلا  بناء محراب جديد باستخدام الرسومات والصور، وهذا يتطلّب أربع سنوات على الأقل، وبالإضافة إلى ذلك فإنه من الضروري تدعيم أجزاء المحراب المُتبقية لأنها في حال سيئة الآن، كما إن قلعة تدمر التي تعود إلى القرون الوسطى وأبراج المدافن والمقابر القديمة المشهورة في نفس الحال من السوء، وكذلك حال قوس النصر. فقد تدمّرت أجزاء منه بالكامل. ومع ذلك فإن العلماء الروس يرون أن من الممكن إعادة ترميم القوس في فترة قصيرة نسبياً لا تتجاوز السنة تقريباً. إلا أن ذلك سيتطلّب استخدام مواد حديثة بنسبة 60-70 بالمئة في إعادة الترميم.

وبالعودة إلى المقابر فإن ثلاث مقابر من إجمالي المقابر الموجودة في تدمر تبدو في حال جيّدة. لكن البقية لم تعُد كذلك الآن، لذا يقترح العلماء النظر في المستقبل القريب في إمكانية ترميم كل مقبرة على حدة.

ووفقاً للمؤرّخ والمُستشرق الروسي ميخائيل بيوتروفسكي مدير متحف الهيرميتاج فإن من المُمكن ترميم معبد بعل شمين وإعادته إلى ما كان عليه. وتجدر الإشارة إلى أن جدران المعبد الخارجية والداخلية كانت في حال جيّدة قبل مايو/ أيار عام 2015 ولكن تفجيره على أيدي داعش أدّى إلى تدميره بالكامل. بيد أنَّ وجود أجزاء كبيرة منه يسمح بإعادة بناء معبد بعل شمين من جديد.
وحسب الخبراء فإن هذا العمل سيستغرق ثلاثة اشهر تقريباً. وفي الوقت نفسه لا يوجد أمل بإعادة  بناء المحراب الداخلي والأشياء الأخرى داخل المعبد. وإضافة إلى الكشف على المدينة القديمة قيّمت المجموعة الأثرية الروسية درجة التدمير الذي لحق بمتحف الآثار.ومن المهم التذكير بأن الخبراء السوريين نقلوا 70 بالمئة من جميع المعروضات في المتحف، ما سمح بالحفاظ على قطع أثرية قيّمة. ويرى العلماء الروس إن عملية ترميم المتحف ليست فقط أمراً مهمّاً بل هي في متناول اليد، لكن ذلك يتطلّب استقراراً أمنياً في المدينة وإنشاء منطقة آمنة حول تدمر، ومن أجل تسريع عملية إعادة التأهيل يقترح العلماء ترميم المتحف والبنية التحتية في المدينة في وقت واحد. ويعتقد ميخائيل بياتروفسكي إن الخبراء سيواجهون تحدّيات وصعوبات كبيرة، على سبيل المثال عدم توافر العمالة في الموقع وغياب معدّات البناء. ووفقاً لموسكو فإن البعثة الأثرية الروسية هدفت إلى تحديد الأولويّات للمزيد من العمل على ترميم المعالم الأثرية. وتعتقد روسيا إن المسؤولية الفعلية عن إعادة تأهيل المدينة القديمة تقع على عاتق المجتمع الدولي تحت قيادة اليونسكو وهذا هو الموقف الرسمي للعلماء الروس.

و يشير الخبراء إلى أنه لا يوجد حاليا فهم واضح لكيفية القيام بإعادة الإعمار، ولكن هناك إشارات إيجابية. فقد أعلن الخبراء الفرنسيون والألمان والبولنديون عن استعدادهم لإقامة مشروع مشترَك من أجل إعادة الحياة إلى مدينة تدمر. 

ويتّفق الخبراء على أن تدمر هي مدينة جريحة. وبات مستحيلاً إعادة الجزء الأكبر منها إلى ما كان عليه قبل سقوطها بأيدي داعش. ومع ذلك هناك جزء من المدينة لا يزال سليماً حتى الآن. ولحلّ قضية مدينة تدمر يقترح العلماء وضع خريطة ثلاثية الأبعاد تعلَّم عليها كل المعالم حتى آخر حجر. وبعد الإنتهاء من وضعها يتوجّب على العلماء إتّخاذ قرار حول ما ينبغي عمله لاحقاً. وبالإضافة إلى ذلك ينبغي عليهم أن يجيبوا عن السؤال التالي: ما هي الرؤية لإعادة ترميم الآثار وعلى أية مبادئ تستند؟