علم السعودية في ميدان الحرّية؛ يا لثارات جمال عبدالناصر

الأزمة تكشف حجم الاختراق السعودي للمجتمع المصري! يوم الجمعة الماضية رأينا أعلام آل سعود تُرفرف في سماء القاهرة في عيد تحرير سيناء التي كان آل سعود وفيصلهم ركيزة من ركائز العدو في اقتناصها بحرب يونيو.

ظهرت أوصاف "ملك العرب وحكيم العرب" على لسان الرئيس الجديد، حتى جاءت الطامّة الكبرى مع جزيرتي تيران وصنافير.
في كتابها "أثقل من البترول؛ الشراكة الصعبة مع السعودية" (طبعة جامعة أوكسفورد صـ ٩٧ وما بعدها) رصدت الكاتبة الأميركية راشيل برونسون لقاء بين الرئيس الأميركي ليندون جونسون والملك السعودي فيصل بن عبدالعزيز في يونيو/حزيران ١٩٦٦م، وجد فيه الاثنان "أرضيّة مُشتركة من العداء وعدم الثقة في عبدالناصر"، كما رصدت قول فيصل "إن المشكلة ليست إسرائيل وحسب ولكن المشكلة الأكبر هي القومية العربية كما تصوّرها القاهرة"، وعند تناولها للحلف الإسلامي بقيادة السعودية، قالت الكاتبة نصاً إن "الحلف الإسلامي كان بالضبط ما تمنّى أيزنهاور ودالاس أن يفعله سعود قبل ست سنوات ولكن بحلول منتصف الستينات، كانت الإدارة الأميركية تعي تماماً محدودية ما يمكن لقائد سعودي القيام به أمام ناصر!"، وعرضت وثيقة للخارجية الأميركية في ١٩٦٦م جاء في خاتمتها "بسبب ضعفه، وقاعدته السياسية المحدودة، والكتلة السكانية الصغيرة والمتخلّفة حضارياً للسعودية، لا يمكن اعتبار فيصل وزناً مقابلاً لعبدالناصر في الشرق الأوسط"!  فما حكاية هذا التحالف الإسلامي الذي قاده "فيصل" ضد مصر؟  

الحلف الإسلامي ضد مصر في الستينات

أعلن الملك فيصل تأسيس الحلف الإسلامي لمواجهة ما أسماه "المدّ الشيوعي في المنطقة".
خلال زيارة فيصل لإيران في ديسمبر/كانون أول ١٩٦٥م، أعلن الملك السعودي الأسبق فيصل بن عبدالعزيز تأسيس الحلف الإسلامي لمواجهة ما أسماه "المدّ الشيوعي في المنطقة"، والمقصود طبعاً هو المدّ القومي العروبي بقيادة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، والذي كان في حرب مفتوحة مع مرتزقة آل سعود في اليمن! وأعلن الملك السعودي انضمام إيران والأردن إلى الحلف، فوقف جمال عبدالناصر في القاهرة في ٢٢ فبراير/شباط ١٩٦٦م ليُعلن أن هذا الحلف قام بالأساس ضدّ مصر وحركات التحرّر الوطني في المنطقة، كحلف ممثل للرجعية العربية، فما كان من فيصل إلا أن قام في الفترة بين فبراير/شباط ومايو/أيار ١٩٦٦م بزيارات متتالية إلى باكستان، تركيا، مالي، تونس والمغرب، لدعم التحالف المذكور! لكنه لم ينجح بكل ما لديه من إمكانات مالية في إغراء أي من تلك الدول بالانضمام إلى حلف ضدّ مصر عبدالناصر!

طَرد الخبراء الروس وانتقال الثقل عبر البحر الأحمر

رصدت الكاتبة انتقالاً تدريجياً لمركز الثقل في الشرق العربي من مصر إلى السعودية.
سافر فيصل إلى المملكة المتحدة ليلتقي يوم ٢٩ مايو/أيار ١٩٦٧م بمدير وكالة المخابرات الأميركية ديك هيلمز في جناح الملك في فندق دورشستر، بحضور رئيس المخابرات السعودي كمال أدهم، وبعد سنوات عندما التقى الأستاذ محمّد حسنين هيكل بكمال أدهم وسأله عن محتوى اللقاء، وعن دراية فيصل بترتيبات حرب يونيو، أجابه أدهم كما جاء في كتابه "المفاوضات السرّية بين العرب وإسرائيل" نصاً: "إسمع! أنا لست سياسياً مثل الآخرين أقول أي كلام والسلام، ما سألتنى فيه لن أردّ عليه، ولكنّي أريدك أن تعلم وأنا أقولها لك بمنتهى الصراحة، صديقك الرئيس جمال كان في مواجهة مفتوحة وعنيفة ضدّ المملكة، والمعركة كانت سياسيّة ونفسية وأخيراً أصبحت عسكرية في اليمن، والملك فيصل مسؤول عن مملكته، مسؤول أمام أسرته، مسؤول أمام أخوته وأبنائه يسلّم لهم الأمانة كاملة كما استلمها، واجبه واضح أمام العرش والأسرة، وعليه أن يتصرّف بما يحقّق المصلحة وهذا هو كل شيء وليس هناك شيء آخر، لا تستطيع أن تُسائل الملك فيصل إلا في ما هو مسؤول عنه العرش والأسرة، وهل نجح فى حمايتهما طوال حكمه أم لم ينجح؟ وهل كانت المملكة أقل أو أكثر استقراراً عندما تركها عما كانت عليه عندما تسلّمها؟ هذا هو المحكّ، فقد كان الخطر الأكبر علينا أيام مُلكِه من صديقك الرئيس جمال وبالنسبة إلينا في المملكة فإن فيصل انتصر في التهديد الذي مثلّه علينا الرئيس جمال، ونحن لا نتعب رؤوسنا بكثرة الأسئلة ولا بالخوض في الحكايات والتواريخ"، فماذا تعني تلك الإجابة؟ وماذا يعني توقيت لقاء فيصل برئيس المخابرات المركزية قبيل الحرب بأيام!؟ 
رصدت الكاتبة انتقالاً تدريجياً لمركز الثقل في الشرق العربي من مصر إلى السعودية بُعَيد حرب يونيو/حزيران! فقد حرصت السعودية خلال مؤتمر الخرطوم بعد النكسة، وفي شهور حظر تصدير البترول العربي إلى الولايات المتحدة على غسل صورتها، وبدأت منذ رحيل الزعيم جمال عبدالناصر في انتحال صوت عروبي في زمن فقدت فيه العروبة مضمونها الحقيقي، وانحسر فيه المدّ القومي لتبدأ الأفكار الإسلامية في الرَوَاج على حسابها. ولقد شهدنا في مصر هذا الانتقال الذي تحّدثت عنه قبل حرب أكتوبر/تشرين أول، حين استجاب السادات للمشورة التي أرسلها فيصل مع كمال أدهم في نوفمبر ١٩٧٠م بطرد الخبراء الروس، ثم ظهرت بُعَيد الحرب نغمة "نشور أخونا فيصل" على لسان السادات، واتّخذت السعودية موقفاً ظاهره الممانعة مع قرار حظر تصدير البترول إلى الولايات المتحدة في ٢٠ أكتوبر ثم زايدت على السادات بعد معاهدة السلام مع العدو الصهيوني، وأغلقت سفارتها في القاهرة، ليحلّ محلها مكتب رعاية مصالح في سفارة باكستان، وتصدّرت جبهة الرفض، حتى العلاقات لسابق عهدها مع اغتيال السادات ووصول مبارك للسلطة، وهي العلاقات التي لم تعكّر صفوها ثورة يناير ٢٠١١م، حيث وصل الإخوان إلى السلطة، وللسعودية عليهم اليد البيضاء منذ الستينات، وبعد ثورة يونيو ٢٠١٣م تقمّصت الدولة المصرية نفساً عروبياً ذا جوهر أعرابي، يغازل الخليج العربي وحال العداء بينه وبين إيران في كل مناسبة وبغير مناسبة، وظهرت أوصاف "ملك العرب وحكيم العرب" على لسان الرئيس الجديد، حتى جاءت الطامّة الكبرى مع جزيرتي تيران وصنافير.  

تيران وصنافير؛ المجتمع المصري في المحكّ

كانت تلك الأزمة فرصة نادرة للمؤلفة جيوبهم والمسعودة قلوبهم في مصر، ليرفعوا عقيرتهم بالتغنّي بمملكة الخير ذات اليد البيضاء، ويصرخوا في وجوهنا بما معناه "أرضهم وحلال أبوهم"، وهي العبارة التي يستخدمها بعض السعوديين في وصف ملكية آل سعود لبلادهم، نعم، لم نعدم أصواتاً وطنية في الأزمة، ولم نعدم رد فعل جماهيرياً يعكس الألم في صدور المصريين، لكن الأزمة كشفت حجم الاختراق السعودي للمجتمع المصري! فرأينا يوم الجمعة الماضية أعلام آل سعود تُرفرف في سماء القاهرة في عيد تحرير سيناء التي كان آل سعود وفيصلهم ركيزة من ركائز العدو في اقتناصها بحرب يونيو، كأنها "تتر النهاية" لمسلسل الهوان أمام المال السعودي الذي أعلنه السادات في السبعينات، وترفع في ميدان التحرير الذي شهد آخر تضحيات المصريين وآخر دفعة من ضريبة الدم، والأنكى والأدهى ما تسمعه من آراء بعض الجماهير في الشارع والعمل ووسائل المواصلات، فلا يسعنا غير أن تردّد قلوبنا؛ يالثارات جمال عبد الناصر! يا لثارات القومية المغدورة في القاهرة وفي سيناء! في دمشق وفي درعا ودير الزور! في بيروت والقلمون! لا يسعنا إلا أن نردّد مع نزار قباني (بتصرّف):
من كل صوب.. يطلقون نفطهم علينا.. ويقتلون أجمل الجياد!!
فكاتب مُدجّن.. وكاتب مُستأجر.. وكاتب يُباع في المزاد
هل صار زيت الجاز في بلادنا مقدساً؟ وصار للبترول في تاريخنا نقاد؟
للواحد الأوحد في عليائه.. تزدان كل الأغلفة
وتُكتب المدائح المزيّفة
ويزحف الفكر "الأصولي" على جبينه.. ليلثم العباءة المشرّفة
هل هذه "أوطان"؟ أم مكتب للصيرفة؟