هل أضاع الاستفتاء مكتسبات الكرد؟

فلا يختلف إثنان على أن الاستفتاء قد عمّق الخلاف بين الأطراف الكردية فضلاً عن دوره في تأجيج الخلافات مع الشركاء في بغداد، تداعيات الاستفتاء التي لم تقوَ أعين "مام جلال" أن تراها فقرّر أن يرحل بصمت وسط ضجيج دعوات الانفصال التي حذّر رفاق الجبال من خطرها منذ زمن بعيد، انقسام في الموقف الكردي أفقد السيّد مسعود برزاني وحزبه زمام المبادرة وجعله بين مطرقة معارضيه من الكرد وسندان حكومة بغداد التي كاد أن يفقدها فرحة الانتصار والقضاء على تنظيم داعش.

خطوة الاستفتاء ” الخاطئة” فرصة ثمينة لبغداد لإزاحة العائلة البارزانية

مارس الكرد نشاطاً سياسياً معارضاً لأغلب الأنضمة التي تعاقبت على حكم العراق طيلة القرن المنصرم، ونالوا نصيبهم من الحصار والقمع كغيرهم من مكوّنات الشعب العراقي إبان الحكم الديكتاتوري الذي جثم على صدور العراقيين سنين  طويلة، ما دعاهم عدّة مرات للمطالبة بإنشاء دولة ووطن قومي يرعى كيانهم ويكفل لهم جميع الحقوق، و لم يفلحوا بالحصول على دولتهم المستقلة كما هي الحال بالنسبة لأبناء جلدتهم الموزّعين بين تركيا و إيران وسوريا. 

وبعد سقوط نظام حزب البعث الحاكم في 9 نيسان/ أبريل عام 2003 دخل الكرد كطرف مشارك في العملية السياسية الديمقراطية في العراق الجديد، وكمشاركين في كتابة الدستور العراقي الاتحادي والانتخابات البرلمانية، حاصلين على حقوقهم الدستورية و أكثر، متمتّعين بحكم فدرالي لا تضاهيه حتى أية كونفدرالية في العالم كأنهم دولة بحد ذاتها لا ينقصها شيء سوى الإعلان عنها والاعتراف بها، غير مكتفين بمناطق الغالبية الكردية من العراق وهي المحافظات الثلاث أربيل والسليمانية ودهوك ليطالبوا بالمناطق متعدّدة القوميات، بعضها ذات غالبية عربية  وبعضها ذات غالبية تركمانية مثل مدينة كركوك وطوز خورماتو وسنجار وسهل نينوى وجلولاء وخانقين، هذه المدن المُسمّاة بالمناطق المتنازع عليها والتي ضُبطت دستورياً بالمادة 140 فكان الحكم فيها مشتركاً بين الحكومة الاتحادية في بغداد وبين حكومة اقليم كردستان في أربيل.  

فمكتسبات الكرد بعد عام 2003 باتت واضحة لكل متتّبع من الداخل والخارج بدأت من رئاسة الجمهورية التي أعطي منصبها للأحزاب الكردية على مدى ثلاث دورات انتخابية، مروراً بحقائب الوزارات السيادية ومختلف المناصب ومشاركتهم بكل مفاصل الدولة العراقية وإدارتها مع شركائهم  وحصولهم على نسبة السبعة عشر بالمائة من واردات النفط العراقي، مع احتفاظهم بواردات الاقليم من المنافذ الحدودية والمطارات والسياحة وغيرها، وشهدت العلاقات بين حكومة الاقليم والمركز شداً وجذباً طيلة الأربع عشر سنة الماضية، و خلافات حادّة دفعت ببعض ساسة الكرد إلى العزف على وتر الانفصال وعودة حلم الدولة الكردية، ملّوحين بفكرة إقامة استفتاء لانفصال اقليم كردستان غير آبهين بموقف حكومة المركز المنشغلة بمحاربة أعتى تنظيم إرهابي متطرّف عرفه العالم، مدافعة عن وحدة البلاد و سلمها و مقدّمة تضحيات جِسام انحنى العالم بأسره لتبجيلها، ومحقّقة انتصارات شهد بها الأعداء قبل الأصدقاء. 

واستمرت مواقف التصعيد من قِبَل رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني ومَن وافقه من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بإعلانهم عن إقامة استفتاء للانفصال في اليوم الخامس والعشرين من شهر أيلول الماضي، كأنهم قد صمّوا عن سماع كل دعوات الرفض والتأجيل لهذا الاستفتاء الذي لم يحظَ سوى باعتراف ودعم الكيان الإسرائيلي، فجوبه بردود الأفعال الرافضة له داخلياً واقليمياً ودولياً، فقد صوّت البرلمان العراقي الاتحادي على عدم مشروعيّته و أن نتائجه غير مُلزمة ولا تترتّب عليه أية أمور، في موقف كان مشاطراً لموقف رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي والمحكمة الاتحادية في بغداد، واقليمياً فقد اعتبرته كلٌ من تركيا و إيران وسوريا تهديداً لأمنها القومي، داعية لمواجهته على كل الصعد، أما دولياً فقد جاء الرفض جلياً على لسان المتحدّث باسم الأمين العام للأمم المتحدة_ ستيفان دوجاريك_ في بيان أوردته وكالة أنباء_ سبوتنك _الروسية ، معتبراً إياه "قراراً أحادي الجانب ينتقص من الجهود الرامية إلى هزيمة تنظيم داعش الإرهابي" داعياً بدلاً منه إلى حوار منظّم بين حكومتي الاقليم والمركز.

“ولكن كل هذه المواقف الرافضة لم تثنِ السيّد مسعود البارزاني المُنتهية ولايته منذ ثلاث سنوات ليظهر متوعّداً "بأن الحدود الجديدة في المنطقة تُرسم بالدم"  في تصريح نقلته عنه صحيفة_ الحياة_ اللندنية ، عن استفتائه الذي ولِد ميتاً بسبب عدم إجماع البيت الكردي على إقامته، فدعوات رفضه و تأجيله كانت بيّنة من قِبَل  حركة التغيير الكردستانية و الجماعة الإسلامية و أطراف كردية أخرى. 

فكان الاستفتاء بمثابة المسمار الأخير في نعش التفاهمات والتوافقات مع شركاء الأمس الذين قرّروا أن يلقّنوا "الانفصاليين" من الكرد درساً يصعب نسيانه، فقد لملم البرلمان العراقي شتاته ليصوّت على حزمة من القرارات تضمّنت غلق المنافذ الحدودية للاقليم مع دول الجوار، و تعليق الطيران من وإلى الاقليم وإصدار أوامر قضائية لإلقاء القبض على أعضاء مفوضية الانتخابات في اقليم كردستان، و فرض هيبة الدولة في المناطق المُتنازع عليها، ما استوجب توجّه القوات العراقية إلى مدينة كركوك و طوز خورماتو و مناطق أخرى، و طرد قوات البيشمركة و انسحابها لحدود الاقليم قبل التوسّع، فقد ربح رهان حكومة بغداد على المواقف الكردية  المعارضة لسياسات البارزاني الذي بلغ نقطة اللاعودة بين أمرين أحلاهما مرّ، فأما الاستقالة و أما الاعتراف بالذنب والرجوع إلى حضن الوطن الواحد وإن كان غير مُرحّب به، فمذكرات إلقاء القبض وصلت لنائبه كوسرت رسول و صديقه البيشمركي القديم نجم الدين كريم الذي لم يعد محافظاً لكركوك، أما رئيس حكومة اقليمه نيجرفان فاختصر الحال، بقول "لا أصدقاء سوى الجبال".

فلا يختلف إثنان على أن الاستفتاء قد عمّق الخلاف بين الأطراف الكردية فضلاً عن دوره في تأجيج الخلافات مع الشركاء في بغداد، تداعيات الاستفتاء التي لم تقوَ أعين "مام جلال" أن تراها فقرّر أن يرحل بصمت وسط ضجيج دعوات الانفصال التي  حذّر رفاق الجبال من خطرها  منذ زمن بعيد، انقسام في الموقف الكردي أفقد السيّد مسعود برزاني و حزبه زمام المبادرة وجعله بين مطرقة معارضيه من الكرد وسندان حكومة بغداد التي كاد أن يفقدها فرحة الانتصار والقضاء على تنظيم داعش. 

فخطوة الاستفتاء "الخاطئة" فرصة ثمينة لبغداد لإزاحة العائلة البارزانية و تحجيم دور الديمقراطي الكردستاني الذي تفرّد بحكم الاقليم طيلة الفترة الماضية ليحل محله دور السليمانية التي لازالت تحتفظ بشيء من مواقف الرئيس الراحل جلال طالباني  في نبذ دعوات الانفصال و الحفاظ على العيش المشترك في العراق الواحد ، هذا إن لم تصبح اقليماً جديداً منافساً لأربيل.