ألا تستحق القدس أمّ الانتفاضات؟

شهدت فلسطين المحتلة منذ الثمانينات وحتى عام 2015 ثلاث انتفاضات تنوّعت في نتائجها ومدّتها. وبالإضافة إلى الاحتلال، سببها الدائم، تراوحت أسبابها المباشرة ما بين القتل العمد للفلسطينيين وبين تدنيس المسجد الأقصى من قِبَل شارون. نعرض في هذه المقالة لأسباب الانتفاضات ولنتائجها وللعِبَر المُستخلصَة منها.

الانتفاضة الأولى (1987 ـ 1993)

الانتفاضة الأولى في 8/12/1987

اندلعت الانتفاضة الأولى في 8/12/1987 كردّة فعل على قيام أحد المستوطنين الصهاينة بدهس أربعة عمال فلسطينيين بالقرب من مخيم جباليا، فاستشهدوا على الفور، سار الآلاف من الفلسطينيين الغاضبين في جنازتهم، التي تحوّلت إلى مصادمات واشتباكات مع قوات الاحتلال، لتمتد إلى باقي المناطق الفلسطينية. واجهت قوات الاحتلال بقبضة حديدية وبعقاب جماعي، فلجأ الاحتلال إلى تكسير الأيادي والأرجل وإطلاق الرصاص الحيّ ونسف البيوت والإبعاد. شارك المقدسيون في الانتفاضة الأولى بشكل فعّال، عبَّروا عن غضبهم من شراسة الاحتلال ومن انتهاكاته لحقوقهم طيلة فترة الثمانينات. فخرجوا في مسيرات ووزّعوا بيانات وكتبوا على جدران القدس البرنامج الأسبوعي لانتفاضتهم، ورشقوا الجنود الصهاينة بالحجارة والمولوتوف و"بالنقيّفة". شهدت الانتفاضة الأولى عدّة عمليات عسكرية ضد الأهداف الإسرائيلية، فسقط لها قتلى وجرحى وهجمات بالسكاكين. تعرّض شباب الانتفاضة للحافلات الإسرائيلية فاستهدفوا 3600 حافلة. سقط 22 قتيلاً إسرائيلياً و490 جريحاً.

بتاريخ 8/10/1990، قتل الصهاينة بالرصاص الحي19 مقدسياً، فانتقم البطل عامر أبو سرحان للشهداء حيث قتل وجرح عدداً من الصهاينة بينهم ضابط. سقط في القدس خلال الانتفاضة الأولى وحتى توقيع اتفاقية أوسلو (13/9/1993) 84 شهيداً، بالمقابل سقط 10 جنود صهاينة وأصيب 19 آخرين. أهم نتائج الانتفاضة الأولى هو أنها عرّت قوات الاحتلال أمام الرأي العام العالمي بعدما بثّت الأقنية التلفزيونية صوَر الجنود الصهاينة وهم يحطِّمون عظام الفتية الفلسطينيين ويكسّرون أرجلهم بالعصيّ وأعقاب البنادق، فترسّخت "عدم شرعية الاحتلال، ما دفع بالكثير من القادة الصهاينة للمطالبة بالانسحاب من الأراضي المحتلة سنة 1967".

الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)

الطفل محمّد الدرّة

اندلعت انتفاضة الأقصى في 28/9/2000، كردّة فعل على قيام وزير الحرب الصهيوني السابق أريل شارون باقتحام المسجد الأقصى برفقة ثلاثة آلاف جندي صهيوني، ما أشعل غضباً فلسطينياً غير مسبوق. وتلى ذلك قتل الطفل محمّد الدرّة بعد يومين من اقتحام المسجد الأقصى فخرجت تظاهرات حاشدة في القدس وسواها. قتلت قوات الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية 4242 فلسطينياً أغلبهم من الفتية والشباب وجرحت 46068 آخرين ووصل عدد الأسرى حتى نهاية سنة 2005 إلى 9200 أسير.

تحوّلت الانتفاضة الثانية بشكل سريع إلى العمل العسكري، تنقاد لقادة عسكريين من فصائل متعدّدة، فبرزت التباينات بين مؤيّد لسلطة أوسلو ومعارض لها وبين محايد بينهما. شهدت القدس وقوع 69 عملية عسكرية منها 41 استشهادية و17 إطلاق نار، و8 تفجير عبوات، و3 طعن. وبحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 15/9/2002، فقد سقط من الإسرائيليين خلال عامي الانتفاضة الأوليين ـ في الضفة الغربية والقدس وأراضي الـ48، 612 قتيلاً، فيما أصيب 4497 آخرون. (خالد أبو عرفة، المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي في بيت المقدس (1987ـ2015)، مركز الزيتونة، بيروت، 2017، ص 99).

وذكرت صحيفة معاريف في 6/3/2002، أن وزارة الداخلية الإسرائيلية بعثت برسالة إلى الكنيست تفيد بأن 450 ألفاً من الإسرائيليين باتوا يقيمون في الخارج بسبب الأحداث، ومن بين الذين هاجروا حفيد بن غوريون. (المركز الفلسطيني للتوثيق والمعلومات، انتفاضة الاستقلال: العام 2، ص84).

الانتفاضة الثالثة (2014 ـ 2015)

الانتفاضة الثالثة (2014ـ2015)

تختلف الأدبيات السياسية وخاصة الصهيونية في ما بينها حول كون أحداث المقاومة التي جرت خلال العامين 2014/2015، مجرّد "هبّة" أو"موجة" أو"انتفاضة". حيث أن لكل مصطلح مدلوله السياسي والأمني والثوري. بالإضافة إلى التبعات لدى الجانب الإسرائيلي.

لقد انطلقت الهبَّة الأولى ثأراً للفتى أبو خضير، إذّ شكّل منشور على الفيسبوك يشير إلى اختطافه من قِبَل المستوطنين وقتله بداية شهر تموز 2014، الشرارة الأولى لموجات من الغضب الشديد في كافة أحياء القدس القديمة، وصبّ الشبان جام غضبهم على "القطار الإسرائيلي الخفيف" ومحطّاته. واستمرت التظاهرات والاشتباكات قرابة سنة وثلاثة أشهر وأدخل الشبان أسلوباً جديداً في المقاومة تمثَّل في إطلاق المفرقعات النارية باتجاه الجنود ومركباتهم. (عبد الرؤوف الأرناؤوط، "القدس: هبّة شعبية بلا قيادة". مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسّسة الدراسات الفلسطينية. بيروت العدد 101، شتاء 2015، ص132).

انطلقت الهبّة الثانية في تشرين الأول 2015، إثر العملية التي قام بها الشاب الفلسطيني مهند حلبي 19عاماً في القدس القديمة بتاريخ 3/10/2015، وأدَّت إلى مقتل مستوطنين بينهم حاخام في الجيش الإسرائيلي، فيما أصاب مستوطنين آخرين. وكان الشاب حلبي قد توقّع انطلاق انتفاضة ثالثة في القدس، قبل يوم واحد من استشهاده، فيما أشارت معلومات صادرة عن عائلة الشهيد حلبي أنه قام بالعملية ثأراً لعائلة دوابشة الفلسطينية التي استشهد بعض أفرادها حرقاً على أيدي مستوطنين يهود قبل شهرين في 31/7/2015 (خالد أبو عرفة، المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي في بيت المقدس، مصدر سابق، ص 111).

خسر الفلسطينيون، 54 شهيداً مقدسياً وأكثر من 2300 حالة اعتقال، 25 % منهم أطفال، هدم بيوت المقاومين واحتجاز جثامين الشهداء. بينما قتل ثمانية إسرائيليين في القدس وحدها، خلال الأشهر الأخيرة من عام 2015  و30 عملية دهس. ما أثار الرعب الشديد في أوساط المستوطنين. تضرّرت السياحة بشكل كبير وخاصة في شهر كانون أول، أي فترة الأعياد ورأس السنة، ونُشر 25 مقالاً في الصحف العبرية دعت إلى التخلّص من القدس الشرقية (المصدر نفسه، ص 127). امتازت الانتفاضة الثالثة بغياب القيادة المركزية الموجّهة للانتفاضة الأمر الذي أدّى إلى شيوع أسلوب العمليات الفردية في مقاومة الاحتلال، وباختيار اسلوبي الدهس والطعن، وبمشاركة القاصرين والأطفال.

أما للقدس من انتفاضة؟

القدس تنتظر عامر أبو سرحان ثانياً، أو مهند حلبي آخر

إنَّ شروط الانتفاضة تقارب على الاكتمال ولن تكتمل نهائياً إلا بمشاركة النقابات والمهن والفئات العمرية المختلفة، وخاصة الطلبة والشباب الضليعين بعالم التواصل الاجتماعي وطرق التعبئة والتحشيد. ولا بدّ من توافر قيادة غير مكشوفة أمنياً ترتبط بلجان تضطلع بالتوجيه والتعبئة. ولن تتأجّج الانتفاضة إلا بسقوط قتلى صهاينة وبتنوّع طُرُق المقاومة وأساليبها، وبحصول ردّات فعل متبادلة، وبسقوط شهداء في القدس والضفة وأراضي 48.. هكذا علّمنا تاريخ الانتفاضات الثلاث. فقد شكّلت الأحداث التالية: دهس الصهاينة لأربعة فلسطينيين عام 1987 في مخيم جباليا، وزيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى عام 2000، وقتل المستوطنين الصهاينة للفتى محمّد أبو خضير ثم حرقه حياً عام 2014، شرارات مباشرة لانتفاضات الشعب الفلسطيني وخاصة المقدسي، فتحرّك يومها بسرعة، ليس لأن وقع تلك الأحداث كان أشدّ على المقدسيين من إعلان ترامب، بل لأن الإجراءات الأمنية الصهيونية الاستباقية هذه الأيام غير مسبوقة، ولأن السلطة متخاذلة ونشرت جواً من الحيرة، ولأن ما يُسمّى بدول الاعتدال العربي وخاصة السعودية هي متآمرة مع ترامب ونتنياهو في اغتصاب القدس. ولكن بالرغم من ذلك كله، نجد أنَّ المقدسيين يتحضّرون، والفتية الشجعان ينتظرون الفرصة، ليفاجئوا العالم كله كعادتهم. القدس تنتظر عامر أبو سرحان ثانياً، أو مهند حلبي آخر. فهل يأتيها في يوم جمعة أو يوم أحد، أم أنه سينتظر حتى حلول عيد الميلاد!!؟؟