من التطبيع السرّي إلى العلني

وتتابعت أنظمة العمالة والتبعية لأميركا والغرب، في سلسلة تنازل للكيان الصهيوني، وصلت إلى حد الاعتراف به، وإقامة علاقات دبلوماسية معه، وبمرور الزمن ارتفع عدد هذه الدول، ما حفّز البقية المُتردّدة في قبول مقترحات الغرب، في تليين التطبيع، وتمريره بسلاسة الدهاء الغربي.

مَن قرأ تاريخ السلطان قابوس حصلت لديه قناعة بأنه مُنفّذ لا غير لأوامر دولتي الاستكبار العالمي

ضحك علينا الغرب بدوله الاستعمارية، منذ أن احتل بلداننا، إلى أن غيّر طريقته في معاملتنا من استعمار استيطاني، إلى استعمار ثقافي واقتصادي، بداية من منتصف القرن الماضي، فقام بإعداد مَن يمثّله ويقوم مقامه في حماية مصالحه، فنصّب علينا حكّاماً أعانهم على الظهور كزعماء، ركّبهم على الحركات شعوبنا التحرّرية، انتخبهم من بني ثقافته المعادية للإسلام، فظهروا قادة لها، تزويراً لتاريخ كفاح آبائنا وأجدادنا للاستعمار، وكانوا بحق أدواته القابِضة على خناق شعوبنا، يذهبون بهم إلى التّيه يُمنة ويُسرة، وفي نفس الوقت دُعاة لنهجه الليبرالي، الذي يقدّس طغيان الرأسمال، أيّا كانت نسبته ومخططاته، ومُتنفّذيه في البلاد العربية والإسلامية.

على مدى نصف قرن، كان أغلبهم هؤلاء الأدعياء أدواته المفضّلة في تنفيذ إرادته، كل بحسب نسبته الاستعمارية، فرنكونوني أو كومنويلث "فرنسي أو أنكليزي"، استقوى الغرب بهم على حساب شعوبنا، فبقيت متخلّفة أسيرة القمع والظلم، المسلّط عليها من طرف هؤلاء العملاء، لم تتقدّم فيه شعوبنا، بالمعنى الصحيح للتطوّر العِلمي والتكنولوجي، وبقيت خاضعة لسلطان الغرب، تأتمر بأوامره، وتمضي على قرارته التي لا تقيم وزناً لمصالح الشعوب.

خلال تلك الحقبة من الزمن، لم تكن تلك العلاقات ظاهرة وواضحة، إلا من خلال المُخطّطات الفاشلة التي تنفّذها تلك الحكومات.

قبل مفتتح القرن الجديد كان تطبيع حكّام العرب مع الكيان الصهيوني مسألة تعبير ولاء مبدئيّ للغرب وخروجاً عن إرادة الشعوب - التي وضعت قضية فلسطين ضمن أهدافها في تحريرها-  بعنوان الديمقراطيات المزيّفة، فمرّت أغلب علاقاتهم في خفاء أبقاها في طيّ الكتمان، نظراً لشدّة معارضة الشعوب لها، فأقيمت مكاتب علاقات بينها وبين الكيان، في مقابل تسهيلات وهبات وقروض غربية، تشجيعاً لتلك الدول، وكان لتونس نصيبها من التطبيع السياسي والأمني، رغم العدوان الذي أقدم عليه هذا الكيان الصهيوني، لما اصطلح عليها ب(الساق الخشبية) بإرسال طائراته الحربية، إلى جهة حمام الشط بالعاصمة فجر الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1985، فقصف موقعاً مدنياً، استضاف فيه الشعب التونسي إخوانه الفلسطينيين المُبعدين من بيروت، امتزج فيه الدم التونسي بالدم الفلسطيني.

وتتابعت أنظمة العمالة والتبعية لأميركا والغرب، في سلسلة تنازل للكيان الصهيوني، وصلت إلى حد الاعتراف به، وإقامة علاقات دبلوماسية معه، وبمرور الزمن ارتفع عدد هذه الدول، ما حفّز البقية المُتردّدة في قبول مقترحات الغرب، في تليين التطبيع، وتمريره بسلاسة الدهاء الغربي، المُحتسِب لكل شاردة وواردة لهذا المخطط الخبيث، الذي استدرج المُنتفعين منه من طابور أدعياء الثقافة والفن، للذهاب إلى فلسطين المحتلة، ومشاركة الكيان الصهيوني احتفالاته ومُلتقياته وندواته، بعنوان التبادُل الثقافي والفني والجامعي.

لتختتم هذه المرحلة الخبيثة، بتبادل الزيارات على أعلى مستوى سياسي وأمني، كانت دول خليجية مُختتمة مرحلتها الأخيرة، في مقدّمها السعودية والبحرين والإمارات، ومَن كان يرى مفاجأة، في استقبال سلطنة عُمان لرئيس الوزراء الصهيوني - الذي صرّح على صفحته بتويتر بأن زيارته تمّت يوم الخميس 25 تشرين الأول/أكتوبر 2018 بعد اتصالات مكثّفة وطويلة مع الجانب العُماني - فهو مُخطئ في تقديره، لأنّ السلطان قابوس الذي عرفناه باعتدالية مواقفه، واستقلالية سياساته ظاهراً، عما تجتمع عليه أغلب دول مجلس التعاون الخليجي، ما كان له أن يخرج عن طوع الدول الغربية، الحاكمة في المنطقة، وهو الذي ما كان له أن ينقلب على أبيه ويأخذ منه زِمام الحُكم، من دون موافقة أميركا وبريطانيا، وسياسته في عمومها، وإن بدت متوازنة فيما بدا للكثيرين، ومستقلة نسبياً على بقية دول مجلس التعاون الخليجي، ومحصّلها يهدف إلى إحداث تميّز، يعمل على ظهور عُمان بمظهر النظام المُعتدل، الذي يستعمله الأميركان والأنكليز، منصّة للمناورات السياسية، أو صمّام أمان نسبيّ، يستعمل للحيلولة دون تأجّج أو تأزيم الأوضاع بين دول الخليج وإيران.

ومَن قرأ تاريخ السلطان قابوس، حصلت لديه قناعة بأنه مُنفّذ  لا غير، لأوامر دولتي الاستكبار العالمي "أميركا وبريطانيا"، ومسهّل مخطّطاتهما في الخليج الفارسي، فعندما قامت ثورة ظفار، وعجز والده الملك سعيد بن تيمور عن إنهائها، حدث انقلاب ملَكي غير دموي في 23 تموز/يوليو 1970، أطاح فيه قابوس بن سعيد بأبيه، ثم نفاه إلى بريطانيا فمات بها بعد سنتين.

وثورة ظفار - الإقليم الجنوبي لسلطنة عُمان - 1965/1975 يسارية امتدّت عشر سنوات، فزع منها الغرب، فأوعز إلى قابوس بتسلّم الحُكم بالقوّة من والده، مهما كلّف الأمر، كما أعطى الغرب نفسه الضوء الأخضر لنظام الشاه في إيران، بالتدخّل العسكري في إقليم ظفار، وإنهاء الثورة اليسارية هناك، وكانت قد شكّلت تهديداً جدّياً، لمصالح أميركا والغرب في المنطقة.

ما يُراد إظهاره من عُمان اليوم، هو ما كان ماضياً في الخفاء بالأمس، وعبّر عنه رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بالاتصالات المُكثّفة الطويلة، مشيراً إلى تطبيع كائن مع الصهاينة، منذ أمد ليس بالقصير، تبدو فيه السلطنة، قطباً لتمرير مرحلة جديدة ومُتقدّمة، من التطبيع السياسي مع الكيان الصهيوني، لم تجرؤ عليه قبلها سوى مصر والأردن، وهكذا تتعرّى دولة أخرى من الدول العربية، فتكشف عما خفيَ من أوراق سياساتها، في ظلّ صمت شعوب، تريد حكوماتها جرّها بخبث إلى بيت الطاعة الصهيو أميركي.

إن استهداف الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية، في عملية تصفية ماكِرة، تنفّذ بأوامر أميركية غربية، ستخرج من بقيَ منهم صوريّاً مسانداً بلسانه، جامداً في أفعاله، ليكلّمنا يوماً ما وأعتقد أنه قريب الحلول بلسان عبريّ، أو قل بالأحرى بلسان صهيوني، لتبقى إيران وحدها وبمفردها اليوم، وفيّة للقضية الفلسطينية، مضحيّة من أجلها، ثابتة على مبدأ تحرير الأرض من النهر إلى البحر، وليبقى العميل عميلاً، وإنْ تظاهر بالصلاح والاعتدال، والوفيّ وفيّاً ومبدئياً، ولو بلغت تضحياته عنان السماء، فبئس العملاء وطوبى للأوفياء، وغداً يتميّز الخبيث من الطيّب.