كريم يونس.. الحياة في سجنين!

كريم هو أيقونة الأسرى الفلسطينيين الذين يعيشون الحياة في سجنين، فهم يتعرضون لأقسى أشكال القمع والتنكيل، جنباً إلى جنب مع أخوانهم الأسرى من الضفة والقطاع، تمنع عنهم الزيارات، ويسمح لحالاتهم الصحية بالتدهور، ويطلق عليهم النار في المعتقلات، ويكونون جميعاً عرضة لتوصيات وزير الأمن الداخلي أرادن، في حظر شراء المواد الغذائية من خارج السجن، أو حتى من دكاكينه الداخلية، والعزل عن العالم الخارجي عبر تضييق خيارات الاطلاع على الإعلام.

الأسير كريم يونس واجه الاحتلال في شبابه خارج شروط اللعبة التي فرضها المحتل الإسرائيلي

قدر كريم يونس مثل آلاف الفلسطينيين، أن يولد على أرضه وبين أبناء شعبه، ويتفتح وعيه، تحت ظروف الاحتلال الغاصب لوطنه. فالطفل المولود عام 1956م ينمو ويكبر داخل سجن كبير، كان السجّان يريد فيه – على عكس الصيغة التقليدية لفكرة السجن – أن يهجّر كل من فيه ويفرّغ الأرض من أهلها، ويحاول عبر قوانينه ومؤسساته وتشريعاته أن يجبر من يبقى فيها على العيش مثل السجين تماماً، لا حول له ولا قوة، وأن ينسى مع الزمن حيثيات المكان الذي عمره أجداده وآباؤه، وأن ينسى هويته التي شكلتها آلاف السنين عبر نسخة مزورة من التاريخ يقدمها المحتل، مدعومة بقوة السلاح.

لم يقبل كريم حصار الخيارات الظالمة هذا، ولم يرَ في معادلته الخاصة ومعادلة شعبه في المقاومة ، فلا حل لصيغة الاحتلال يمكن أن يمر عبر هجرة أصحاب الأرض، أو إجبارهم على التكيف مع قوانين المحتل في حال بقائهم على أرضهم.

قادت هذه الرؤيا سلوك كريم في مواجهة الاحتلال في شبابه، خارج شروط اللعبة التي فرضها المحتل، الأمر الذي أودى به لاحقاً إلى زنازين السجن على شاكلته التقليدية التي نعرفها، و"بتهمة" المشاركة في قتل جندي إسرائيلي. وأوقعت بحقه عقوبة الإعدام التي عدلت لاحقاً إلى المؤبد المفتوح (40 عاماً). وكأن لسان حال العدو يقول: "إن وجودك في فضاء السجن الكبير يشكل خطراً علينا، فتعال هنا إلى زقاق السجن الصغير، حيث لا يسمع صوتك أحد، وينسى الناس محاولاتك ودعواتك".  

داخل زنازين السجن، مارس كريم حياته كمناضل متمرس عريق، فشهادات الأسرى المحررين امتلأت بالتعبير عن تأثيره على معنويات الأسرى، ودعم صمودهم، والحفاظ بشكل دائم على شعلة حماستهم وصبرهم. واصل تعليمه، ولم يسمح لزنازين السجن أن تطفئ جذوة أفكاره، وأشرف على عملية التعليم الجامعي لعدد من الأسرى. لم يكتف في الحفاظ على نفسه داخل السجن، إنما جعل من نفسه مجالاً حيويا كاملاً، تشع الطاقة من أفلاكه.    

يضيف كريم يونس قيمة جديدة لأدب السجون العالمي الذي عرفناه؛ ففي الوقت الذي كان يعزي دوبريه نفسه في سجنه، أنه تخلص من قلق جرس المنزل والاتصالات الهاتفية، يستمر كريم في قلقه حول أوضاع بلاده ويكتب "الواقع السياسي في (إسرائيل)"، وعندما كان كارلوس ليسكانو المسجون في الأورواغوي يمايز بين حسابات الأيام التي انقضت، وتلكم التي تبقت، كان كريم أسيراً لحسابات التحرر من المحتل خارج هواجس الزمن المتبقي والذي انقضى منه 37 عاماً الآن، فيكتب "الصراع الأيديولوجي والتسوية".

إن كريم هو أيقونة الأسرى الفلسطينيين الذين يعيشون الحياة في سجنين، فهم يتعرضون لأقسى أشكال القمع والتنكيل، جنباً إلى جنب مع أخوانهم الأسرى من الضفة والقطاع، تمنع عنهم الزيارات، ويسمح لحالاتهم الصحية بالتدهور، ويطلق عليهم النار في المعتقلات، ويكونون جميعاً عرضة لتوصيات وزير الأمن الداخلي أرادن، في حظر شراء المواد الغذائية من خارج السجن، أو حتى من دكاكينه الداخلية، والعزل عن العالم الخارجي عبر تضييق خيارات الاطلاع على الإعلام. تلكم ظروف تجمع بين الأسرى الفلسطينين من أراضي ال 48 و أخوتهم من الضفة والقطاع، إلا أن ثمة معادلة أخرى يخضع لها الأسرى الفلسطينيون من أراضي ال 48 ؛ إن الاحتلال عبر مسرحياته القانونية يحاول أن يعتبر الدعوات لإطلاق سراحهم دعوات خارجية، دعوات غريبة، فهو يحاكمهم على أنهم مواطنون إسرائيليون، تطبق عليهم القوانين الإسرائيلية، وأن أية دعوة لإطلاق سراحهم تمثل تعدياً على سيادة هذا الكيان، وأن المطالبات بشمولهم في صفقات البتادل، إنما يعتبر أمراً غير قانوني في عرف المواثيق الدولية. وفي الوقت نفسه تجري محاكمات الأسرى الفلسطينيين من ال 48م في محاكم عسكرية وليست مدنية، الأمر الذي يعيد للحقيقية وهجها؛ أنهم في نهاية الأمر مقاومون فلسطينيون!.

إن السجن الكبير الذي يعيشه كريم ورفاقه من فلسطينيي ال48 م، هو منظومة القوانين والتشريعات الإسرائيلية التي تحاول أن تحجبهم عن أي تضامن عالمي أو فلسطيني وعربي من أبناء جلدتهم، وبذلك تتمكن من الاستفراد بالفلسطينيين في الداخل، وتحاول دمجهم بشكل نهائي في نسيج الدولة اليهودية.

لقد أحبطت آمال أسرة كريم عدة مرات في شموله في اتفاقيات الأسرى قبل أوسلو وبعدها، وفي كل مرة كان يتم التعامل مع حالته على أنه مواطن إسرائيلي، قبل أن يكون مقاوماً فلسطينياً ! إن الكيان الصهيوني، يتلاعب بالجنسية التي فرضها على الفلسطينيين حسب الطلب، ففي حالة الاعتقال تصبح المواطنة وسيلة لحجب التضامن، وخارج السجن، ما على الفلسطيني إلا احتمال القوانين العنصرية التي يفرضها الكيان، وعلى رأسها يهودية الدولة.

إن هذه الصيغة تضع آمال المعارك القانونية من داخل الكيان في مهب الريح، وتجعل من أفق المقاومة أفقاً وحيداً في إنهاء كل هذا.

وهنا يعود بنا الأمر إلى بدايات كريم وثنائية الخيارات؛ الهجرة أوالتكيف الكامل؛ هل يمكن لنا التحرك خارج شروط اللعبة من جديد؟ هل يمكن لصعود محور المقاومة في المنطقة أن ينعش هذه الشروط؟ لنأمل جميعاً ذلك.