الأسباب الإقتصادية العميقة للحرب التجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين

ذلك القطب الإقتصادي العالمي الأول أصبح اليوم مهدَّداً في مكانته نظراً لتصاعد مكانة العملاق التجاري العالمي الصين الشعبية، بمنتجاتها الإستهلاكية ذات القيمة المُضافة المُنخفِضة التكلفة.

دونالد ترامب خلال الاجتماعات الثنائية في الصين عام 2017 / رويترز

يعتبر الميزان التجاري جزءاً لا يتجزأ من الإقتصاد الكليّ وميزان المدفوعات الأميركية، ومع احتدام الصراع الحالي في المبادلات التجارية للسلع بين الصين والولايات المتحدة الأميركية تتضّح ملامح تلك الإختلالات علي الموازنة المالية العامة الأميركية التي أضحت تعاني مؤخراً من عجز متراكم على مستوي الميزان التجاري. لتحديد طبيعة الإقتصاد الأميركي الذي يعتمد في أسسه على الرأسمالية وحرية الحركة التجارية وسوق رؤوس الأموال العالمية، بحيث يكون القطاع الخاص هو المُهيمن على جميع المرافق الحيوية للإقتصاد الوطني، والذي يقوم بشكل مباشر في تغطية عجز القطاع العام. فمما لا شك فيه تعدّ تلك المنظومة التحريرية في المبادلات التجارية هي المُسبّب الرئيسي لتلك الفقاعة من الإضطرابات خاصة منها تأثيراتها السلبية، نظراً لتواصل العجز في الميزان التجاري الأميركي. إذ في هذا السياق لا يمكن للقاصي والداني إستنكار ما يحدث داخل دواليب وزارة الخزانة العامة الأميركية التي تشكو بدورها من تفاقم المديونية الداخلية، وتخبّطها في مصاريف إضافية للنفقات العامة على الرغم من إعتمادها الدولار القوي في الأسواق بمساهمة الضغوطات العسكرية وعلى البترو – دولار وبيع الأسلحة لدول الخليج وإبتزازها بتعلّة حمايتها من البعبع الإيراني المصطنع، وكل ذلك لتغطية العجز المتراكم على مستوى الميزان التجاري والمالي.

ذلك القطب الإقتصادي العالمي الأول أصبح اليوم مهدَّداً في مكانته نظراً لتصاعد مكانة العملاق التجاري العالمي الصين الشعبية، بمنتجاتها الإستهلاكية ذات القيمة المُضافة المُنخفِضة التكلفة. إذ لتحديد الأسباب الإقتصادية لتلك الحرب التجارية المتصاعدة يجب وضع الأسس الرئيسية لطبيعة التجارة الأميركية التي تعتمد في مجملها على تصدير المواد الأولية كالصلب والفولاذ والألومنيوم وبعض المواد الإستهلاكية منخفضة الأسعار. أمّا الجزء الكبير فيتركّز بالأساس على تصدير الصناعات الثقيلة كالأسلحة الحربية والسفن والطائرات وغيرها من قطع الغيار في مجال الإلكترونيات التي يتمّ تصنيعها في منطقة السليكون فالي، بحيث تعجز بعض الدول الأخري عن صناعتها نظراً لإفتقارها تلك التكنولوجيات فائقة الدقّة. أيضاً تتمثل صادرات الولايات المتحدة الأميركية في بعض الأدوية والمنتجات الصحية من أجهزة وغيرها، خاصة لبعض الدول التي تربطها معها إتفاقيات تجارية دولية. بالنتيجة تعدّ مجمل تلك السلع محدودة في المبادلات التجارية العالمية, أمّا البقية من المنتجات الإستهلاكية فهي تعتبر بدورها باهظة التكلفة إنتاجاً ومرتفعة الأسعار بيعاً. فهنا يكمن مربط الفرس بحيث كانت لمنتجات الصين الشعبية الرخيصة جداً مكانة لتكون البديل لتلك المنتجات الأميركية الباهظة جداً. فلتحديد طبيعة المنتجات الصينية يمكن وضع معايير لقياس جودتها وأسعارها بحيث تتّضح لنا الفكرة كاملة عن نمط تلك التجارة التي تجاوزت الحدود رغم فرض سياسات حمائية تجارية، مع وضع العديد من القيود كالضرائب والرسوم الجمركية لتقليص ذلك النفوذ التجاري الرهيب والغريب.

لكن في المقابل فشلت كل تلك السياسات التجارية والإتفاقيات الدولية لتقليص رواج منتجات الصين الشعبية في مختلف أسواق الدول العالمية. فمن المعروف عن تلك الصناعات التي تعتمد على أساليب النسخ واللصق وشراء الماركات العالمية، وهي عبارة عن منتجات موجّهة لطبقات إجتماعية معينة نظراً لإنخفاض أسعارها مقابل المنتجات المحلية لتلك الدول. فتلك السياسة التي تعتبر غير شرعية ولكنها لا يمكن أن تردع لأنها ذات طابع قانوني نظراً لشراء تلك الماركات، ولا دليل يُذكَر في مجال سرقة الملكية الفكرية لبعض المنتجات التي يتمّ نسخها مع إدخال بعض التعديلات الطفيفة في محتواها. فكل تلك العوامل ساهمت في خلق ذلك العملاق التجاري الصيني الذي إستغل جميع الإمكانيات المادية وسخّر جميع الطاقات البشرية من يد عاملة وإطارات علمية عالية الجودة ومنخفضة التكلفة ليخلق منتجات شعبية تصدّر لأغلب سكان العالم والتي في مجملها فقيرة.

ولعلّ من أبرز الضحايا في تلك المبادلات التجارية الحرة كانت تلك البلدان الرأسمالية وخاصة منها المتضرّر الأكبر في هذا المضمار الولايات المتحدة الأميركية نظراً لإنخفاض تكلفة إنتاج تلك المنتجات الصناعية مقارنة مع إنتاجها محلياً أو إنخفاض أسعارها المهولة والتي تعجز الشركات الخاصة في مجابهة القدرة التنافسية لها بالأسواق المحلية نظراً لتدهور المقدرة الشرائية لأغلب الطبقات الإجتماعية الأميركية. فكانت لتلك الأسباب الأثر المدمّر على الإقتصاد الوطني الأميركي، ممّا ساهم في تأثّر الإنتاج المحلي الإجمالي سلباً نظراً لتفاقم العجز في الميزان التجاري، وبالنتيجة في تفاقم العجز المالي في الحساب الجاري وفي ميزان المدفوعات. عموماً كان لجانب العجز في الميزان التجاري بين الصادرات والواردات للسلع مع الصين السبب الرئيسي في تصاعد تلك الحرب نظراً لإنعكاساتها السلبية على الإقتصاد الكلي برمّته وعلى الميزانية الأميركية.

كل تلك الأضرار ساهمت في تعميق الجرح المالي خاصة بعد فرض رسوم جمركية إضافية على واردات السلع من الصين مع إنخفاض صادرات الولايات المتحدة إلى الصين، مما تسبّبت في عجز حاد في الميزان التجاري خلال الثلاثي الأول من سنة 2019 بقيمة 79.979.5 – مليون دولار بحيث كان الإختلال واضحاً بين الواردات التي بلغت إجمالاً خلال تلك الفترة  105.973.9 مليون دولار مقابل صادرات الولايات المتحدة نحو الصين بقيمة 25.994.4 مليون دولار. إذ لم يقتصر ذلك العجز فقط على سنة 2019 بل كان متراكماً على مدى طيلة السنوات الفارطة، مما سبّب مصدر إزعاج حقيقي لدى الخبراء الإقتصاديين الأميركيين و المسؤولين بوزارة الخزانة العامة الأميركية، خاصة وأن ذلك العجز في الميزان التجاري بلغ سنة 2018 قيمة 419.162.0- مليون دولار بين واردات من الصين بلغت 539.503.4 مليون دولار مقابل 120.341.4 مليون دولار للصادرات من السلع نحو الصين. فكان لتراكم ذلك العجز المتواصل والمستمر السبب الهام في فرض رسوم جمركية إضافية.

لكن عبء كل تلك الضرائب والرسوم الجديد سيتحمّلها المستوردون والشركات الأميركية الخاصة، بحيث سترفع في المقابل الصين من أسعار تلك المنتجات، وبالتالي العودة إلى النقطة صفر لأن القطاع الخاص الأميركي سيرهق بأعباء جبائية إضافية. فالولايات المتحدة الأميركية أصبحت تعاني من عديد الأزمات الداخلية نظراً لفقدانها التحكّم في مبادلاتها التجارية خاصة بعد وقف تزويد الأسواق المحلية الصينية بقطع غيار الإلكترونيات نتيجة للأزمة الحالية بينها وبين شركة هواوي الصينية بتهمة التجسّس والقرصنة للمُعطيات الشخصية، وأيضاً لفقدانها لأكثر من 40% من مبادلاتها التجارية مع الصين، وغياب كلي لشركاتها في معرض بيجين 2019 لتكنولوجيات المعلومات والإتصال، ممّا سيزيد بالنتيجة من تضرّر ميزانها التجاري خلال الأشهر القادمة.

أمّا في المقابل ففقدان الصين لصفقات بقيمة 144 مليون دولار لن يثنيها عن عزمها للمزيد  من تعزيز قدراتها التنافسية لمنتجاتها خاصة منها زيادة صادراتها من الهواتف الجوالة وأجهزة الحاسوب المحمول وغيرها من الإلكترونيات. بالتالي ستتواصل تلك الحرب التجارية وستتصاعد حدّتها في الأيام القادمة رغم فرض الولايات المتحدة الأميركية لكل تلك القيود الإضافية لدخول منتجات الصين إلى أراضيها عبر فرض تلك الرسوم الجمركية الجديدة المجحفة.