الوظيفة الاقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي

إن الدبلوماسية في مدلولها اللفظي تعني كلمة دبلوم وهي الوثيقة الرسمية التي يسندها صاحب السلطة إلى شخص معيّن تتوافر فيه ميزات  وخصائص من الرقّي والسامية مقارنة مع أشخاص آخرين، وذلك في إطار إنجاز مشروع معيّن يتمّ تحقيقه بنجاح.

المُصطلح الحديث للدبلوماسية الإقتصادية يعني استخدام الموارد الأولية والثروات الوطنية  والطاقات البشرية والمكاسب الإقتصادية وتوظيفها مباشرة في مشروع المُقايضة أو المُساومة التفاوضية بين الدول ورجال الأعمال المستثمرين. كما تمثل الدبلوماسية الحديثة نموذج التفاوض الناجح بالطُرُق السلمية  والحضارية من أجل اكتساب ثقة الطرف الآخر  بالأقوال وبالأفعال. وقد أثبتت التجارب التفاوضية السابقة في المجالات الإقتصادية وخاصة منها التجارية أهمية ذلك النوع من الدبلوماسية إستراتيجياً من أجل تعزيز مكاسب الأمّة من إنجازات عبر سعيها لجلب الإستثمارات الأجنبية المباشرة، وتحفيز المبادلات التجارية الدولية والرفع من نَسَق التعاون الدولي و المساعدات بين الدول والحلفاء. إذ في هذا الصَدَد يمكن القول إن من "لا يملك خبزه، لا يملك قراره"، بحيث أصبح عالمنا المعولَم هذا تُهيمن عليه القوى العظمى  صاحبة النفوذ المالي والإقتصادي على غرار الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي، وتحالف البريكس الذي يضم البرازيل، روسيا الإتحادية، الهند، الصين الشعبية وجنوب إفريقيا. إذا أصبحت اليوم مهنة التمثيل الدبلوماسي حساسة جداً لأنها يمكن أن تخلق مشاكل إقتصادية أو سياسية وحتى تأزّم في العلاقات الدولية وقطعها  ووضعها على قائمات سوداء وغيرها، إذ لم تحسن بعض الأطراف في التعامل مع بعض الملفات مع الجهات المفاوضة والتي تجمعهم مصالح سياسية وإقتصادية مشتركة. إذ في هذا السياق تعتبر الدبلوماسية الإقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي نموذجاً ناجحاً في التفاوض بين كل الدول التي تجمعها بهم مصالح تجارية إستثمارية أو علاقات مالية مشتركة. فاليوم أصبح سلاح النفوذ المالي والتعامل مع أسعار النفط والغاز وأيضاً التمويلات من قِبَل صناديق التنمية والإستثمار والهِبات والدعم المالي في وقت الأزمات في مجملها من أبرز الأسلحة الإقتصادية التي تعتمد كأوراق تفاوضية لدول مجلس التعاون الخليجي. كما أن الحروب الإقتصادية أصبحت مؤخراً تُعدّ من أبرز أنواع الحروب تطوّراً وتقدماً  وذلك عبر الضغوطات في المعاملات التجارية والمالية الدولية أوالإملاءات وفق أجندات وشروط تخدم مصالح القوى العظمى ، ولعل أبرز دليل على ذلك فاعلية الحرب الإقتصادية التي تشنّها حالياً الولايات المتحدة الأميركية ضد عملاق التجارة العالمية الصين الشعبية أو ضد برنامج دولة إيران النووية. أما أحداث الأزمة القطرية الأخيرة من خلال الحصار الإقتصادي من جانب بعض بلدان مجلس التعاون الخليجي، فأثبتت بدورها نجاعة تلك الدبلوماسية التي على الثروات الوطنية وتسخيرها في العمليات التفاوضية بحيث تمكّنت دولة قطر من كسر ذلك الحصار بفضل حنكة دبلوماسيتها  ومصالحها التجارية والمالية مع الدول الغربية مثل الولايات المتحدة الأميركية والإتحاد الأوروبي. إذ تمثل الدبلوماسية الإقتصادية القَطرية سلاحاً قوياً ذا حدين و صامداً تجاه أية أزمات داخلية أو خليجية ، بحيث يمثل الدعم المالي والإستثمارات الضخمة في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية نواة قوّة لتلك الدبلوماسية التي ترتكز بالأساس علي النفوذ المالي ودبلوماسية النفط مقابل دبلوماسية الدولار. أما بالنسبة للمملكة العربية السعودية و دولة الإمارات العربية المتحدة فأصبحت مجمل صناديق التنمية والإستثمارات المباشرة وشركات النفط المحلية مثل أرامكو وغيرها تعتبر هي أيضاً سلاحاً ذا حدين ناجعاً وناجحاً بحيث تستعمل كأدوات لأغراض سياسية عن طريق مصالح إقتصادية ضد أية أزمات إقليمية أو دولية. ففي هذا الإطار تعتبر عمليات تفعيل دور البعثات الدبلوماسية الإقتصادية في الخارج من أولويات السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي ، وذلك من أجل كسب أكبر نصيب من كعكة الإستثمارات والتجارة مع دول الإتحاد الأوروبي ، ورفع نَسَق التداول بالأسواق المالية العالمية وبسط النفوذ المالي واللوبي الخليجي بالدول الغربية و العربية. بالإضافة إلى ذلك تمثل العلاقات السعودية مع الولايات المتحدة الأميركية من جهة عبر إبرام العديد من الصفقات والإتفاقيات المشتركة في شتّي المجالات عنصراً داعِماً ومؤسساً قوياً لدبلوماسية صامدة بعيدة الأمد وفقاً لرؤية وليّ العهد الملك محمّد إبن سلمان بن عبد العزيز آل سعود لسنة 2030 ، أو أيضاً مع الدول العربية الحليفة  والصديقة خاصة من خلال مخرجات القمم الثلاث الخليجية ، العربية  والإسلامية التي انعقدت مؤخراً في مدينة مكّة المكرّمة السعودية ، وذلك من أجل تقوية الحلف الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط. فالعلاقات الخليجية مع بعض البلدان العربية والإسلامية  تبقى راسِخة ومستمرة خاصة من جانب تلك الإستثمارات الضخمة في شتّى المجالات الحيوية ، منها في البنى التحتية والمرافق الترفيهية والتي تديرها بعض الشركات العقارية و الإستثمارية الإماراتية ، خاصة منها شركة سما دبي تعتبر رافداً من روافد التعامل الدبلوماسي الإقتصادي الخليجي ، وذلك لخدمة أغراض وأجندات سياسية وإستراتيجية بعيدة الأمد. أما بخصوص الفوضى العارِمة والدمار والإرهاب التي شهدتها أغلب الدول العربية المجاورة لدول الخليج العربي أو ببلدان بما يسمّى الربيع العربي ، أصبحت تعتبر من أبرز العوامل السلبية لعدم استقرار أمن المنطقة برمّتها ، ما يهدّد بالنتيجة مصالحها الإقتصادية والتجارية والمالية مع بقية دول العالم. بالتالي توجّهت الدبلوماسية الإقتصادية الخليجية الحالية نحو سياسة قطع جميع علاقاتها الإقتصادية والتجارية مع الأطراف أو الدول الداعِمة والمموّلة للإرهاب. عموماً تمثل الدبلوماسية الإقتصادية لدول مجلس التعاون الخليجي أهم مصدر نفوذ إقليمي رئيسي من أجل تنظيم العلاقات التجارية والإقتصادية مع الحلفاء البارزين والشركاء الدائمين ، وذلك من خلال تقديم المخططات الإستراتيجية والدعم اللوجستي والتنسيق بين رجال الأعمال والمستثمرين الخليجين من جهة ، والأطراف الأجنبية أو العربية المشاركة في الحوار التفاوضي من جهة أخرى ، وكل ذلك عبر التمثيل الدبلوماسي في تلك البلدان التي تربطها معهم مصالح وشراكة تجارية وإقتصادية وسياسية. كذلك تساهم تلك النوعية من الدبلوماسية في تبسيط إجراءات العمليات التجارية أو المالية ، و كذلك في تسهيل عملية الإستفادة من التقنيات الرقمية والتكنولوجيات الحديثة مع تقديم صورة حضارية متطورة لدول مجلس التعاون الخليجي في الخارج. أما بخصوص سياسة تطبيع العلاقات الخليجية – الإسرائيلية كانت لها أغراض جيوسياسية ومصالح إقتصادية مشتركة خاصة ، منها الدور الفعال للولايات المتحدة الأميركية بالمنطقة من أجل تحقيق الإستقرار الأمني والإقتصادي ، واعتبار الخطر الإرهابي في الشرق الأوسط أهم خطر مشترك يجب مواجهته والتحرك لإجتثاثه من عروقه و القضاء عليه بصفة نهائية. فصفقة السلام الدائم بين الفلسطينيين  والإسرائيليين تحت رعاية وإشراف البيت الأبيض عبر مبعوثه الخاص للمنطقة مستشار وصهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب جراد كوشنير تعتبر من أبرز العمليات التفاوضية من أجل تثبيت تطبيع العلاقات العربية إجمالاً وإسرائيل. فتلك الصفقة للسلام والمعروفة بصفقة القرن تعدّ بدورها فرصة حقيقية نحو حل الأزمة في منطقة الشرق الأوسط تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية وبالتنسيق مع دول مجلس التعاون الخليجي  ودولة مصر ، وذلك لإيجاد علاقات دولية تدفع عملية السلام إلى الأمام  ووضع المنطقة برمّتها في "حال لا حرب وحال سلم دائم" مع تسوية تلك القضية منذ نكسة 1967 إلى الآن بصفة نهائية. إن القوة المالية  والإقتصادية لدول الخليج العربي قادرة اليوم على مجابهة المتغيّرات الإقليمية والدولية والحفاظ على استقرار دول الجوار. فالدعم المالي الخليجي قادر على إعادة الإعمار بعد ذلك الدمار الهائل وتحقيق الإزدهار في منطقة الشرق الأوسط. بالتالي تمثل تلك القوّة المالية الدولية لللوبي الخليجي الخارجي الدرع القوية القادرة على التحكم في أسعار النفط والغاز وخلق الإستثمارات الضخمة في الدول الغربية أو العربية عبر ضخ القروض والهبات المالية من صناديق التنمية والإستثمار والجمعيات الخيرية الخليجية ، وتكوين مصدر قوّة حقيقية للدبلوماسية الإقتصادية الخليجية التي تفرض دائماً مواقفها ومكانتها المرموقة على الصعيد العربي والعالمي.