اقتصاديات دول شمال إفريقيا: تنمية اقتصادية عرجاء

إنّ الأحداث التي شهدتها الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بعد الثورات العربية في دول شمال إفريقيا تعدّ في مجملها ذات طابع تخريبي للإقتصاديات الوطنية، ولو كانت في الجانب الكبير منها مطالب حقوقية لأغلب الطبقات المُتضرّرة من الأنظمة السابقة.

منشأة نفطية في ليبيا / أ.ف.ب

تُعتَبر فترة ما بعد الثورات العربية في أغلب دول شمال إفريقيا منها تونس ومصر وليبيا والجزائر وبدرجةٍ أقل حراك الريف في المغرب في مجملها ذات تأثيرات سلبية عميقة على الإقتصاديات الوطنية لتلك البلدان التي مازالت تعاني الأمرّين من تراكُم للأزمات الإقتصادية وتصاعُد للإحتجاجات الشعبية. مما لا شك فيه أن تلك الأحداث المأسوية التي شهدتها تلك المنطقة خلال هذه العشرية تمثل في مجملها تحوّلاً جذرياً إنعكس سلباً على المسار التنموي والإصلاحي. ولعلّ أبرز دليل على ذلك تلك المؤشّرات الإقتصادية السلبية والتي تُشير بكل وضوح إلى تدهور الأوضاع الإقتصادية وذلك مقارنة بفترة ما قبل الثورات. إذ تسبّبت تلك الإعتصامات المُتتالية في تعطيل دواليب الدولة بالكامل وأضرَّت مباشرة بميزانية تلك الدول التي مازالت تتخبَّط في عجزها منذ الإستقلال إلى الآن. كما تفاقمت المديونية وتعطّلت الإنتاجية العامة مما تسبّبت في كبح عجلة التنمية الإقتصادية التي أضحت مؤخّراً مثل البطّة العرجاء.

أمّا في المقابل فقد ساهمت أيضاً عمليات تعطيل الإنتاج بحقول النفط أو مناجم الفوسفات في بعض الدول، أو تعطيل الإنتاج داخل الشركات الخاصة والمؤسّسات الحكومية عبر إعلان الإضراب العام والعصيان المدني أحياناً في تأزّم تلك الأوضاع، والتحوّل بالنتيجة من السيّئ إلى الأسوأ. ففي هذا الصَدَد شهدت أغلب مؤسّسات الدولة وهياكلها إضرابات عشوائية وفوضى عارِمة، ولعلّ أبرزها كان  في صلب المؤسّسات التربوية والجامعية في جلّ تلك الدول من دون إستثناء. كما تعطّلت البرامج الإصلاحية والمخطّطات الإستراتيجية من أجل إعادة تأهيل القطاع الخاص، فتحوّلت بالنتيجة مُجمَل تلك البرامج الإصلاحية الهيكلية إلى برامج جوفاء في محتواها وأهدافها.

إنطلاقاً من سنة 2011 و بالتحديد من منبع الثورات دولة تونس التي ساهمت في تصدير تلك الحركات الشعبية الإحتجاجية إلى معظم الدول المجاورة ، بحيث بدأت تتّضح ملامح تلك العدوى الحادّة التي تسبَّبت في فوضى عارِمة ، وأدَّت إلى إنهيار تلك الإقتصاديات الهشَّة بطبعها. إذ كانت نتائج تأثيرات تلك الثورات مختلفة من دولة إلي أخرى، لكن أهدافها كانت واحدة وهي إسقاط النظام والإقتصاد بحيث من المعروف في الدوائر الإقتصادية أن كل عدم استقرار سياسي يؤدّي بالنتيجة إلى عدم استقرار إقتصادي. فبالرغم من مشروعيّة تلك المطالب الإجتماعية منها تحسين ظروف العيش والتشغيل والزيادة في الأجور، إلا أن نتائجها كانت كارثية على الأوضاع الإقتصادية. بالتالي تسبَّبت تلك الإعتصامات العشوائية والمتتالية إلى حد الآن في تعطيل الإنتاج والإنتاجية مع إحداث فوضى عارِمة داخل أغلب المؤسّسات الحكومية من خلال التقاعُس عن العمل أو الهروب من المسؤولية بتعلّة المشاركة في الإضراب تحت شعار "تمرّد شعبي وعصيان مدني".

كما كان لإتحادات الشغل دور سلبي ساهم في تأجيج تلك الأحداث الإحتجاجية، وبالنتيجة في تعطيل دواليب شؤون الدولة السياسية والإقتصادية بالكامل ، نذكر منها بالتحديد في المغرب والجزائر وتونس. أمّا دولة ليبيا فقد كانت إستثناء نظراً لتضرّرها الكامل والشامل من الأحداث الإرهابية التي لحقتها، ومن الصراعات الداخلية على السلطة التي طالتها بحيث تحوَّلت حقول النفط إلى مطامع محلية أو دولية ما زاد بالنتيجة في تعميق ذلك الجرح الذي مازال ينزف دماء و دموعاً نظراً للحرب الحالية الدائرة بين حكومة الوفاق وأتباع المشير حفتر. عموماً ساهمت كل تلك الأحداث السلبية في خفض نِسَب النمو الإقتصادي إلى 1% أو أدناه في بعض الدول ولم تتجاوز 3% في بعض الدول الأخرى، وهذه النِسَب تُعتَبر ضعيفة جداً مقارنة مع فترة ما قبل الثورات الشعبية. فمصطلح النمو الإقتصادي يعني تراكم الثروة الوطنية السنوية أو بالأحرى الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الذي يتحقّق طيلة فترة سنة كاملة من الإنتاج والإنتاجية. بالنتيجة تُعتَبر تلك النِسَب المُنخفضة جداً على مستوى النمو الإقتصادي بتلك الدول سيّئة.  

ولا تحقّق الطموحات المستقبلية المرجوّة، وأيضاً لها تأثيرات مباشرة على التشغيل، بحيث من المنظور الإقتصادي كل إرتفاع في نسبة النمو يخلق فُرَص شغل جديدة. أيضاً يُعتبر إرتفاع نِسَب التضخّم المالي المُرافِق لذلك الإنخفاض في النمو عاملاً سلبياً إضافياً بحيث تساهم في إرتفاع الأسعار للمواد الغذائية وتزيد من نسبة الإحتقان الشعبي للطبقات الفقيرة. أمّا الأضرار الإضافية التي لحقها الإقتصاد الكلي فكانت على مستوى المبادلات التجارية، بحيث إختلّ الفارِق بين الصادرات والواردات ، لتتضاعف بالنتيجة نِسَب العجز في الميزان التجاري ما إنعكست سلباً على الناتج المحلي الإجمالي. بالإضافة إلى ذلك إنهيار العملات المحلية لبعض الدول مقابل سلّة العملات الأجنبية بإستثناء عملة دولة المغرب التي لم تتضرّر بشكل كبير من أحداث حراك الريف المطالب بالإنفصال وتحقيق العدالة الإجتماعية.

بالنتيجة كان لمُجمَل تلك الإضطرابات من إحتجاجات شعبية وتراكم العجز في الميزان التجاري والمالي، نتائج سلبية على مستوى التنمية الإقتصادية في دول شمال إفريقيا. إذ كبحت في هذا السياق الإستثمارات الأجنبية المباشرة وذلك بسبب تدهور التصنيف الإئتماني من قِبَل أكبر وكالات التصنيف الدولية على غرار موديز  وفيتش الأميركيتين، وذلك عبر وضع نظرة مستقبلية إستشرافية سلبية، بحيث ساهمت بدورها في خلق مناخ من عدم الإستقرار لدى رجال المال والأعمال المحليين أو الأجانب. كما أنه بإعتبار أن رأس المال جبان وفقاً لمنظور السوق الإقتصادية الرأسمالية الحرّة شهدت أغلب تلك الدول ركوداً إقتصادياً وإنكماشاً مالياً على مستوي الإدخار والإستثمار. بالتالي كانت التنمية الإقتصادية عرجاء طيلة فترة ما بعد الثورات، وتُعتَبر الضحية الكبري من مجمل تلك الأحداث التعيسة، بحيث كبحت تماماً واقتصرت فقط على الإعتماد على بعض الهبات والحوافز والقروض الأجنبية من أجل تنمية البنية التحتية من طرقات ومرافق عامة في بعض الدول على غرار مصر وتونس والمغرب. أما ليبيا فحدّث ولا حَرَج عن التدمير الذي طالها، بحيث أصبحت التنمية في عتاد الموتى ودون درجة الصفر وكذلك الجزائر أضحت اليوم تعاني الأمرّين من تمرّد شعبي متواصل وغياب الإستقرار السياسي والإقتصادي.

إصلاحات هيكلية

إن الأحداث التي شهدتها الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية بعد الثورات العربية في دول شمال إفريقيا تعدّ في مجملها ذات طابع تخريبي للإقتصاديات الوطنية، ولو كانت في الجانب الكبير منها مطالب حقوقية لأغلب الطبقات المُتضرّرة من الأنظمة السابقة. فالمسار الإصلاحي الذي انتهجته تلك الدول منذ بداية التسعينات حتي الآن تحت مظلّة التحرّر المالي والتجاري وبرامج الإصلاحات الهيكلية والتأهيل الشامل تحت رعاية مؤسّسات البريتن وودز منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لم تحقّق الرفاهية والإزدهار للشعوب أو الرخاء و الإستقرار لتلك الدول.

بالتالي إنصهرت تلك الإقتصاديات الوطنية الهشّة بطبعها في منظومة العولمة الإقتصادية مع إسراعها في عملية تحرير مؤسّساتها المصرفية و المالية والتي أصبحت تعتمد في الجانب الكبير على القروض والإستفادة من الإندماج في فضاء التبادل التجاري الحر. فسياسات التحرّر الإقتصادي العمياء ساهمت في تراكُم الأزمات الداخلية وخلقت فوارِق بين الطبقات الإجتماعية، لأنها كانت غير عادلة في أهدافها الإستراتيجية وموالية فقط لنفوذ رجال المال والأعمال. إذ من المعروف أن مؤشّرات الحوكَمة الرشيدة في تلك الدول في أدنى مستوياتها عالمياً، بحيث ما زالت تعاني أغلب المؤسّسات الخاصة والعامة من تراكم للفساد المالي والتهرّب الجبائي أو عدم إستخلاص الديون السابقة للبنوك.

فتلك الأحداث زادت من الأمور تعقيداً عبر آلية وضع السبب على المُسبّب أو الدخول في مستنقع وحل تعجز تلك الدول عن الخروج منه وذلك من دون إيجاد حلول جذرية دائمة له من خلال طلب إسترجاع تلك الأموال المنهوبة من قروض مهولة لصالح رجال الأعمال والتي تعتبر غير خالصة، أو تطبيق المحاسبة القانونية على الجزء الفاسد منهم والذين تسبّبوا في أضرار جسيمة لتلك الإقتصاديات الوطنية الهشّة بطبعها. في المقابل أصبحت الدولة تتحمّل الجزء الكبير من ذلك العبء في العجز نظراً للدور الذي يلعبه البنك المركزي بإعتباره بنك البنوك والمزوّد الرئيسي للسيولة المالية اللازمة في الأسواق المالية. إذ تُعتَبر القروض الخارجية لتلك الدول من قِبَل صندوق النقد الدولي من أجل إجراء إصلاحات هيكلية في مجملها ذات طبيعة ترقيعية إما لإستخلاص ديون داخلية أو خارجية متراكمة، أو لإعادة تمويل الصناديق الإجتماعية و لصرف رواتب الموظفين في القطاع العام.

أمّا البنوك التجارية والإستثمارية فهي أصبحت أيضاً مُتضرّرة نظراً لتباطؤ الإصلاحات الهيكلية في القطاع الخاص وضعف السوق المحلية لتلك الدول لمجابهة القدرات التنافسية العالمية. بالنتيجة لم تشهد القطاعات الحيوية لإقتصاديات دول شمال إفريقيا إصلاحات حقيقية تُذكَر بحيث مازالت الفوضي العارِمة تسود أغلب المؤسّسات التربوية والتعليمية خاصة في المغرب وتونس، ويبقى في المقابل إصلاح القطاع الخاص ضعيفاً إجمالاً. أمّا بقية الدول فهي مازالت تعاني من الإحتجاجات الشعبية المتواصلة ومن وَهْنٍ مُتراكمٍ في القدرة التنافسية للسوق المحلية على مستوى المبادلات التجارية وفي عجز حكوماتها عن مجابهة تلك الأزمات أو الحروب. عموماً أصبحت مجمل تلك الأحداث في منطقة شمال إفريقيا كارثية بحيث ظلّت برامج الإصلاحات الهيكلية الموعودة جوفاء في محتواها وأهدافها.