مشاكل الاحتجاجات الشعبية وتراكُم الأزمات المالية

تُعدّ السياسات الإقتصادية الشريان الحيوي المُنظّم لهياكل ودواليب الدولة والراسِم لمُخطّطاتها الإستراتيجية والإستشرافية القصيرة أو بعيدة الأمد وفقاً لمناهج متنوّعة تتلاءم مع طبيعة الظروف المعيشية لكل دولة من دول العالم.

التحرّر التجاري والمالي يمثل في جوهره المورِد الأساس لتراكُم الثروات الوطنية

مما لا شك فيه تُعدّ تلك الإحتجاجات الشعبية المُتصاعِدة والمتواصلة على مدي طيلة هذه العشرية من أبرز الأحداث العالمية التي تمسّ بالأساس ظروف أغلب الطبقات الإجتماعية والمناهج الإقتصادية. فعلى الرغم من اختلاف تلك السياسات الإقتصادية بين مختلف دول العالم، إلا أن تلك الإحتجاجات لم تستثنِ أيّ نظام من تلك الدول التي مازالت إلى حد الآن تعاني من تراكم الأزمات السابقة التي تسببّت لها بتفاقُم المديونية وتزايُد العجز في الميزانية، مع تباطؤ النمو الإقتصادي وكبح عجلة التنمية التي أثّرت بدورها مباشرة على تلك الإقتصاديات الوطنية الهشّة بطبعها.

ولعلّ أبرز دليل على ذلك تنامي الإعتصامات والفوضى في دول بما يُسمَّي بالربيع العربي وبعض الدول الأوروبية. إذ لا يمكن اليوم الجَزْم على أن تلك الإحتجاجات كانت بعيدة عن مناهج تلك السياسات الإقتصادية الحالية، بحيث لا يمكن بالنتيجة فصلها عن الأوضاع الإقتصادية أو الإجتماعية. فالأنظمة الرأسمالية المُنصَهِرة في صُلب العولمة الإقتصادية والتحرّر المالي والتجاري تحت قيادة سوق رؤوس الأموال وقلبها النابض بوول ستريت بدولة الحرية والديمقراطية الولايات المتحدة الأميركية، ليست بالضرورة هي التي تسبّبت في تلك الثورات الشعبية. إذ في المقابل نجد دولاً مُتجذّرة في سياسات النظام الإقتصادي الإشتراكي والشيوعي تشهد هي أيضاً ثورات تطالب بإسقاط النظام، نذكر منها دولة فنزويلا الإشتراكية، السودان، الجماهيرية الليبية الإشتراكية، سوريا الشعبية الإشتراكية وغيرها من دول الإتحاد السوفياتي سابقاً والتي شهدت هي أيضاً بدورها ثورات شعبية دموية على غرار دولة أوكرانيا التي صمد شعبها في وجه النظام الإشتراكي مطالباُ بالتحرّر الكامل والشامل.

الإقتصاد الرأسمالي

فالنظام الإقتصادي الرأسمالي يُعدّ من أفضل الأنظمة الحالية المُحفّزة للسياسات الإقتصادية والتي تساهم إيجاباً في الرفع من الإنتاجية والقدرة التنافُسية وتحسّن من نِسَب النمو الإقتصادي في بعض الدول ذات الإقتصاد الصاعِد والواعِد والمُنفتح على فضائه الإقليمي. بالتالي تتركّز معظم الإيجابيات في هذا النظام الناجِح والناجِع في جوهره عبر تحرّر مختلف قطاعاته الحيوية، مع خلقه لأسواقٍ ذات قدرة كبيرة وكفاءة عالية في صمود أسواقه بين العرض والطلب، مع تحرير الأسعار ما يُحفّز بالنتيجة الإستثمار ويقوّي المبادلات التجارية والمعاملات المالية. كما تساهم تلك السياسات للإقتصاد الكلي المُنفتح على الإقتصاد العالمي في تعزيز المبادلات التجارية خاصة منها على مستوي الميزان التجاري والمنظومة المالية في الأسواق النقدية والمصرفية.

إن التحرّر التجاري والمالي يمثل في جوهره المورِد الأساس لتراكُم الثروات الوطنية التي تنعش بدورها الدخل الإجمالي الخام، بحيث تزيد بالنتيجة من نسبة الإدّخار والإستثمار وأيضاً تدعم الأسواق المحلية من الإنتاج أو الإستهلاك. فالنظام الرأسمالي المُندمِج في العولمة الإقتصادية ذات القطب الواحد يشمل في عُمقه التحرّر في أسواقه التجارية والمالية مما يُعدّ اليوم الأفضل عالمياً. إلا أن سلبياته تكون هي الأخطر إذا غابت اليد الخفيّة للحكومة المُعدّلة لإنحراف الأسواق بحيث تمسّ بالأساس الطبقات الفقيرة والمتضرّرة خاصة منها التي تعيش بدخلٍ مادي محدود، مع عجزها في مواجهة غلاء الأسعار، فتختلّ المداخيل المالية الشهرية مع القدرة الشرائية، مما تحدث بالنتيجة تلك الفقاعات من الثورات الإجتماعية الإحتجاجية المُتتالية المُطالبة بتحسين ظروف العيش وتحقيق العدالة الإجتماعية والتي تُعتَبر غائبة أحياناً في ظل تلك الأنظمة الحرّة.

بالنتيجة يزداد السخط الشعبي وعدم الرضا عن تلك السياسات المُنحازة دائماً لرجال المال والأعمال والمُهمّشة لظروف الطبقات العمالية الكادحة والفقيرة. بالتالي تتراكم في النفوس الحاقِدة والناقِمة علي وضعها المادي كبتاً كبيراً مما يتسبّب مباشرة في إنفجارها لتخرج للشوارع صارِخة وغاضِبة عبر تلك الإحتجاجات الشعبية المتواصلة والتي تبقي كالبراكين الهائِجة في صُلب تلك الأنظمة الرأسمالية.

الإقتصاد الإشتراكي والشيوعي

إن الفوضي والتمرّد الشعبي يكون أعمق وأخطر في ظل الأنظمة الإقتصادية الإشتراكية أو الشيوعية من الأنظمة الرأسمالية والحرّة. فتلك الأنظمة الإقتصادية التي تختزل فيها السلطة في دوائرها الحكومية تُعتَبر في مُجملها غائبة تماماَ عن أرض الميدان. إن أساسيات الإقتصاد الإشتراكي والشيوعي القائم على مركزية تلك القرارات المُختزلة لدى هياكل الدولة منها إحتكار الصناعة والإنتاج والتشغيل مع بسط نفوذها على مصادر الطاقة والثروات الوطنية، وخلق منها صناديق تعويض ودعم للمُنتجات الأساسية أو غيرها، لا تعتبر الحل الجذري لتراكُم تلك الأزمات الإقتصادية أو الإجتماعية. فالإقتصاد الإشتراكي والشيوعي الذي يحتكر جميع القطاعات الحيوية تغيب في صُلبه السياسات الجبائية الفعّالة، وتوزّع فيه الثروات الوطنية على مختلف الطبقات الإجتماعية بالتساوي، لكن تبقى العدالة الإجتماعية غائبة داخل تلك المنظومة غير المنتجة أو أحياناً فاسدة بحيث تغيب فيها الحوكَمة الرشيدة.

إذ لا تستقطب تلك الأنظمة الإستثمارات الأجنبية المباشرة، ولا تدعم القطاع الخاص بحيث تجعل من الدولة دائماً هي الأساس في مركزية القرار مما تكرّس بالنتيجة نظرية سلطة الراعي على رعيته وفقاً لأجنداتٍ دكتاتورية. بالتالي سقطت أغلب تلك الأنظمة الفاشلة خلال سنوات الثمانينات في دول الإتحاد السوفياتي وصولاً إلى سنوات الربيع العربي التي أسقطت أغلب التجارب التعاضدية الإشتراكية في معظم الدول العربية على غرار النظامين الليبي والسوداني. فتلك الثورات الشعبية والحركات الإحتجاجية لم تستثن أحداً من الأنظمة الإقتصادية.

إن فشل تجارب السياسات الإقتصادية الإشتراكية الشعبية كانت أعظم وأهول من فشل تلك السياسات الإقتصادية الرأسمالية، بحيث أوصلت شعوبها وبلدانها إلى الحضيض من تضخّمٍ مالي رهيب وتراكُم للمديونية  وعجز في الميزانية، وغياب كلّي للقطاع الخاص الداعِم للقطاع العام والمساهِم إيجاباً بسد فجوة العجز المالي في ميزان المدفوعات، وطرد جميع المستثمرين الأجانب وإحتكار الدولة لأغلب المرافق الحيوية للإقتصاد.

عموماً يُعتَبر الإقتصاد الإشتراكي والشيوعي كأنه غائب تماماً عن الوجود في عالمنا الحالي المُعولم إقتصادياً وسياسياً ورقمياً وفكرياً. فالإحتجاجات الشعبية في أغلب الدول العالمية لم تستثن أيّ نظام إقتصادي عالمي، بحيث كانت الفوضي عارِمة في صُلب جميع الأنظمة السياسية الإقتصادية. لذلك أصبح اليوم العالم محتاجاً لبديلٍ جدّي عن تلك السياسات الإقتصادية العالمية التي تسبّبت في تزايُد مشاكل الإحتجاجات الشعبية وتراكُم للأزمات المالية، بحيث يحقّق له ذلك النظام الجديد الديمقراطية والعدالة الإجتماعية، ويخلق تجربة إقتصادية جديدة تُحدِث التوازن الإجتماعي في جميع دول العالم المُتضرّرة من الربيع العربي إلى السترات الصفر، وغيرها من الدول التي مازالت تشهد تمرّداً شعبياً وعصياناً مدنياً مُتصاعِداً ومتواصلاً ضد السياسات الإقتصادية التعسّفية التي لم تراع إلى حد الآن الحد الأدنى لحقوق أغلب الطبقات الإجتماعية.