سخونة المناخ "دعوشة" غربية
البلدان الصناعية الغربية التي تبدو لناظر في القشرة نظيفة مهفهفة، تئنّ تحت الجلد بسموم تلوّث المدن والغذاء والبحار والمياه.. مهرجان باريس لم ينظر في موبقات نموذج التبديد المسبّبة لقتل الحياة في الأرض، إنما حاول تجميلها بوعود تخفيف حرق النفط والغاز وحسب.
نص الاتفاق على هذه الوعود "تاريخي ومتوازن" كما وصفه فرنسوا هولاند وبان كي مون وباقي الأجلاء. وهي وعود عرقوبية تدّعي خفض حرارة الأرض درجة ونصف في نهاية القرن الحالي ابتداء من عام 2020. لكن الاتفاق سيجري إعادة تفحّصه العام 2025 للوقوف على نوايا الانتقال التدريجي من الاعتماد على النفط والغاز إلى الطاقة النظيفة (الشمس والرياح). ولو كان الأمر جاداً لأظهر مهرجان باريس شيئاً من الصدقية في رفع سعر برميل النفط إلى الحد الذي يسمح بالاستغناء التدريجي عن طاقة باهظة الكلفة. الأمر الآخر الذي كان عالقاً في مهرجانات العشرين السابقة على باريس، هو تعويض البلدان "النامية" (الصين والهند والبرازيل وكوريا) عن الخسائر التي يُلحقها الاستغناء عن الطاقة الملوٍّثة في اقتصادها. وفي هذا الصدد وعدت البلدان الصناعية بتعويض ثلاثمائة مليار دولار، عن قرنين سبقت بهما "النامية" في بثّ سموم الحترار. لكن لم يفصح مهرجان باريس عمن يدفع ولا كيف بأكثر من إعلان الخبر السار.
تهديد البقاء على وجه الأرض تناوله روّاد الايكولوجيا وعلماء الأحياء منذ نصف قرن، في الدلالة على تدمير الحضارة الصناعية الغربية للحياة في الكوكب. لكنهم جذّفوا عكس هرطقة التيّار الجارف نحو تعميم القتل والدمار، الذي لا يزال مرجعاً سارياً في الظن بما يسمى مكافحة الفقر والتخلّف وغيرها من ادعاء المكافحات. ولم تعد أزمة ال "حضارة" كبوة جواد لا يلبث أن يصول ويجول كما فاضت أقاويل النموذج في تعميم "الخير العام" من مغارب الارض غلى مشارقها. إنما باتت الكارثة محدقة داهمة بإجماع العلماء الثقاة والعارفين النشطاء. وهي تنذر بفياضانات بالطوفان أشبه، وبجفاف السهوب إلى التصحّر أقرب، وبصقيع حواضر إلى الجليد أدنى. في هذا السياق هلّل مهرجان باريس بوعوده العرقوبية إلى ما سماه "اقتصاد عالمي جديد". وهو في حقيقة الأمر تهليل لإبقاء التدمير القديم على قدمه في إبادة الأحياء والتنوّع الحيوي وقتل المحيطات والزرع والضرع، لكنه يُسلّح الشركات الغربية بتقانة جديدة تغزو بها الأسواق كما غزت صناعة التلوّث العالم بدعوى تعميم الرفاهية والازدهار.
البلدان الصناعية الغربية التي تبدو لناظر في القشرة نظيفة مهفهفة، تئنّ تحت الجلد بسموم تلوّث المدن والغذاء والبحار والمياه. ولم يتحرّك "الضمير الانساني" في السلطات الغربية قبل تقرير نيكولاس ستيرن العام 2006 الذي خاطبها بلغة ديون إيكولوجية على أحفادها، لا تفيها مطابع ورق الدولارات. بيد أن هذا "الضمير" الذي يعوّل على الربح في تسويق الطاقة النظيفة، لا يمسُّ ورشة تدمير أسباب الحياة بشوكة وردة وإن مسّها يعود الغرب أدراجه إلى قرون خلت. فنموذجه الحديث الذي يتبجّح بزهو العلوم والتقانة، يعتمد في رفاهية البذخ الأرعن على تبديد الثروات الأكثر خاماً في الطبيعة. فهو نموذج وضع اليد على المياه والمحيطات وعلى الأرض الزراعية في أفريقيا وغيرها، وعلى البذور والأعشاب والغابات والبراري.... فوفرة الانتاجية وضخامتها في هذا النموذج الذي يخطف الألباب شوقاً لتقليده، لا يتعدّى قرصنة ثروة انسانية منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة ثروة إنسانية مشتركة. وما عظمة "شمشوم" العصر الصناعي الغربي غير هول القدرة على التدمير. هذا "الشمشوم" يفتري على الاجداد بتهمة "التوحّش" في حماية أمهم الارض برمش العيون. لكن أغبى الأغبياء بلهاً هو مَن لا يشعر بغبائه.