دفاعاً عن الدستور لا عن ميقاتي

المتابع للشأن السياسي اللبناني الداخلي لا يتفاجأ من جدلية "الشدّ والجذب" أو "الهبّة" الساخنة مرّة وباردة أخرى في توصيف العلاقة بين رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي ورئيس الحكومة الحالية سعد الحريري، والأمثلة على ذلك كثيرة لمن أراد.

جدلية "الشدّ والجذب" بين الحريري و ميقاتي
المتابع للشأن السياسي اللبناني الداخلي لا يتفاجأ من جدلية "الشدّ والجذب" أو "الهبّة" الساخنة مرّة وباردة أخرى في توصيف العلاقة بين رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي ورئيس الحكومة الحالية سعد الحريري. 

والأمثلة على ذلك كثيرة لمن أراد. وإذا كان ميقاتي يسجّل تحفظاته بين الفينة والأخرى على أداء الحكومة ورئيسها الحريري، فإن الأخير لم يترك شاردة وواردة في حكومة ميقاتي الأخيرة إلاً وأعمل فيها تسفيهاً وتحقيراً. فقد حارب حكومته، ونعتها بالعمالة والتبعية والسطو على حقوق الآخرين، وسعى لإسقاطها في الشارع، وحثّ أنصاره على الاعتصام عند دارته في طرابلس بما يشبه الحصار المطبق!

 

وإذا كان نقدنا في هذا المقال موجّه للرئيس سعد الحريري أكثر من الرئيس ميقاتي، فلأن الحريري هو اليوم في موقع المسؤولية التي من أولى ابجدياتها "المساءلة" الشعبية والقانونية.

 

يبدو أن الرئيس الحريري يتحسّس ممّن تحتمل منافسته له على رئاسة الحكومة أو التمثيل السنيّ في الشارع وفي إدارات الدولة. والمراقب لأدائه السياسيّ يلمس تبرمه وضيقه بمعارضيه لا سيما داخل بيته السياسي، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولعل آخرها ما يتعرض له اللواء أشرف ريفي من حصار على يد تيار المستقبل نفسه أو ذاك التهميش الذي طال وما يزال قيادات كبيرة في تيار المستقبل، بعضها شغل مناصب سيادية في الدولة.

 

سبق أن قاد الحريري الشارع السني منذ اغتيال والده الشهيد عام 2005. وقد جرت صدامات ومواجهات، وكاد الشارع اللبناني أن ينفجر أكثر من مرة نتيجة تقديرات سياسية خاطئة وقع بها الرئيس الحريري وغيره من القوى السياسية النافذة في حينها. وهو نفسه يعترف، عن شجاعة تُحفظ له، بأخطاء فادحة وقع بها.

 ففي حوار مع صحيفة الشرق الأوسط في 6 أيلول/ سبتمبر/  2010، قال: "نحن في مكان ما ارتكبنا أخطاء. في مرحلة ما، اتهمنا سوريا باغتيال الرئيس الشهيد (رفيق الحريري)، وهذا كان اتهاما سياسيا، وهذا الاتهام السياسي انتهى". ثم هو نفسه بعد سقوط حكومته في 2011 يعود إلى الاتهامات القديمة، ويُتهم من قبل السوريين بالتدخل في الوضع الداخلي بعد بدء الأزمة، كغيره من المتدخلين على الأقل سياسياً؟

 

يفترض بأي رئيس حكومة أن يدرك أنه في الرئاسة لا يمثّل نفسه وتياره فقط، بل يمثّل رئاسة حكومة كل لبنان المتجاوز للجغرافيات الطائفية والمذهبية والسياسية. وليس ضعفاً به أو انتقاصا لقدره أو تخذيلاً لإنجازاته أو طعنا في "العهد الجديد" كما يحلو للبعض أن يسميه، إذا ما وُجّه نقدٌ للحكومة ورئيسها أو دعا البعض الى الالتزام بالدستور وتطبيقه في منصب رئاسة الحكومة أو ذُكّر بالثوابت والأسس التي ألزم بها نفسه حين كان في المعارضة.

 

يا دولة الرئيس: تطبيق الدستور بروحه ونصّه هو الخيار الأمثل والاصوب والأقدر على خلق الاستقرار وتحقيق التوازن وتثبيت العدالة في إدارة الدولة ومؤسساتها بما فيها المناصب السياديّة. والدعوة للالتزام بالدستور في توزيع المهام وتحديد الواجبات والحقوق أمر يبعث على عدالة "المساءلة" وتحديد "المقصِّر" من "المُنجِز". ولا تُفهم دلالات المفردات من قبيل "التقصير" و"الخيانة" و"التعدي" والمخالفة" في المناصب العامّة إلا على ضوء الدستور ونصوص القانون. والالتزام بهما ليس منّة أو اختيار، ولا لأحد أن يتشدد أو يتساهل بشأنه، فهو العدل الذي اتفق عليه الجميع، وهو الأضمن لحماية لبنان وتأكيد رشد مؤسساته.

 

وإذا جاء التحذير في مخالفة الدستور أو القانون من رئيس حكومة سابق فهذا إنذار جدّي من صاحب خبرة، ومن واقع مسؤولية. ولا يتطلب معه أن يكون الردّ ذمّا أو تجريحاً، وإنما يتطلب أن يكون تصويبا قانونيا مقنعاً إذ أن التأفف من دعوات تطبيق القانون والتزام مواد الدستور هو نقص في مفهوم المواطنة وممارستها.

 

يا دولة الرئيس الحق يقال: لست شخصاً استثنائياً بين نظرائك من رؤساء حكومات سابقين أو آخرين طامحين لها. وتراجعك عن ثوابتك أكثر من مرّة ليس إلا إدراك متأخر لتقديرات خاطئة. وإذا كان من السداد القيام بمراجعات مستمرة. والسياسة هي كذلك: تقديرات تصحبها مرونة الأداء، إلاّ أن حمل الآخرين على التسليم بصوابية ما تفعل في كل مرّة وفي كلّ خطوة مهما كانت التناقض أو التبدل في الخيارات فهو لعمري استخفاف بقدرة الناس على النقد، ونرجسية متعالية لا يمكن أن تفهم بحال.

 

نقدك يا دولة الرئيس وأنت في منصب عام أمر يفترض أن تطلبه وتشكر من يقدمه لك، لأن في ذلك تعزيزاً لخياراتك الصائبة وتنبيهاً من حساباتك الخاطئة. ثم عن أي عهد جديد نتحدث والحكومة الحالية عاجزة عن إنتاج قانون انتخابي يلامس بحده الأدنى حقوق وتطلعات الشعب اللبناني؟ والقاصي والداني يعلم تمام العلم أن الخلاف بين القوى السياسيّة الفاعلة والقادرة على إخراج قانون انتخاب ليس منبعه الحرص على التمثيل الأمثل والاصدق لخيارات المواطن اللبناني او دمجه في الممارسة الوطنية غير الطائفية بقدر ما يريدون قانونا يراد له أن يكون ثوباً مفصلاً على مقاس كل قطب سياسي، وهو أمر دونه خرط القتاد طالما أن الأجسام السياسية متباينة الأحجام والتضاريس.

 

والردّ على من هو خارج الائتلاف السياسي الحاكم لا يكون بالغمز واللمز، وإنما بإثبات فاعلية الحكومة في إخراج قانون للانتخابات النيابية يؤمن صحة التمثيل وعدالته، وفي إقرار السلسلة التي تعتبر حق عمّالي مهدور منذ سنوات وتمويلها ممن يتوجب عليهم المشاركة في الغنم كما في الربح، وألا تكون معالجات "العهد الجديد" بالإخراج المسرحي الرديء مرّة أخرى على شاكلة "تطيير النصاب" بعيد فرض ضرائب جديدة أضيفت لإثقال كاهل المواطن المطحون.