مستقبل العدالة والتنمية التركي بعد الاستفتاء

حزب "العدالة والتنمية" ليس استثناء بين نظرائه، فهو تراجع عن طرحه التقدّمي الديمقراطي إلى النظام الأبوي التقليدي المُتوارث في المجتمع التركي منذ قرون، حيث يكون الشيخ وحوله المُريدون أو الأب وحوله العائلة هو المُحرّك الفعلي للمشهد الاجتماعي، وأضحى حاله كحال حزب "الفضيلة" حين كانت صورة الزعيم نجم الدين أربكان تُهيمن عليه، وانتهى أمره بولادة حزب "العدالة والتنمية" الذي أنشقّ مؤسّسوه على زعيمهم الروحي نجم الدين أربكان، نتيجة الصِدامات المستمرة لحزبي "الرفاه" و"الفضيلة" مع المؤسسة العسكرية وتزايُد هيمنة أربكان واختزاله العمل السياسي ضمن تصوّراته.

يُدرك الدارِس لطبيعة الأحزب السياسية التركية لا سيما الكبيرة منها أنها تعاني من أمراض واعتلالات مُتشابهة ومُزمنة
في قراءةٍ سريعةٍ لنتائج الاستفتاء يتبيّن حجم التقارب المُحرج بين النِسَب، حيث بلغ المصوّتون ب"نعم" 52% مقابل 51.4 %، بزيادة مليون ومئة و24 ألفاً لصالح تعديل الدستور. ربع هذه النسبة جاءت من المهاجرين الأتراك الذين تراوح تأييدهم بين 63 % في ألمانيا و75 % في بلجيكا.

وفي تحليل النتائج ، نجد أن الاستفتاء لم تبرز الانقسامات فيه على أسُس سياسية فحسب، بل طالت المجالات الحضرية والعرقية والعقائدية بما أظهر تآكلاً في شعبية حزب "العدالة والتنمية" والرئيس أردوغان، بنسبة بلغت تقريباً 13% لصالح قوى المعارضة التي ارتفعت نسبة المؤيّدين لقرارها الرافض لتعديل الدستور من 35% ، وهي نسبة التصويت التي سُجّلت لصالحها في الانتخابات السابقة إلى 48%، مُخيّبة بذلك آمال "العدالة والتنمية" الذي كان يُراهن على حصد 61% تقريباً من أصوات الناخبين.

السؤال الأبرز في تقديري: ما هو مستقبل حزب "العدالة والتنمية" بعد الاستفتاء وفي ظلّ السيناريوهات المُتوقّعة؟

تتقاطع المعلومات أن نسبة تتراوح بين 2% و 3% من أنصار وقواعد "العدالة والتنمية" صوّتت ضدّ التعديلات الدستورية لأسباب عديدة، أبرزها: افتقاد "العدالة والتنمية" شريحة من نُخَبه وقواعده الشعبية، التي تخوّفت بعد رحيل أردوغان من عودة البلاد في ظلّ الدستور الجديد إلى قفص الديكتاتورية التي كانت فيه زمن هيمنة المؤسسة العسكرية. وتزايُد نزعة الاستفراد والاستئثار بالقرار السياسي عند الرئيس أردوغان. وهذا أمر لم يعد يقتصر على إدارة الدولة، وإنما طال الحزب الذي أسّسه اأردوغان قبل أن يستقيل منه، مُقصياً عدداً من قيادات الحزب ومؤسّسيه أمثال: عبد الله غل، وأحمد داود أوغلو، وبولنت أرينج، وعلي باباجان. وقد شنّ الحزب عمليات تشويه، وخوّن القيادات التي كانت لا تُشاطر الرئيس أردوغان قراراته وتوجّهاته، فقد نقل الأخير الحزب من مؤسّسة سياسية تقوم على قيادة متعدّدة الأقطاب، وتُدير عملها وفق الآليات الديمقراطية الناظمة، إلى حزب القائد الواحد الذي تخضع لمزاجه كل مؤسسات الحزب، ويقلّ هامش الانتقاد فيه، وتضيق دائرة التصعيد الحزبي وتتفلتر تبعاً لحجم الولاء وليس الكفاءة.

يُدرك الدارِس لطبيعة الأحزب السياسية التركية لا سيما الكبيرة منها أنها تعاني من أمراض واعتلالات مُتشابهة ومُزمنة، فهي جميعها مُسيطرٌ عليها من شخصيات مُحدّدة، تحكمها لفترات طويلة، تصل إلى حدّ تلاشي الفروقات بين المؤسّس أو القائد وبين حزبه، فتنحصر القيادة والتوجيه فيه، ويصبح الحزب عُرضة للمخاطر والانقسام والتفتّت في غياب زعيمه أو ضعفه وترهّله.

والأحزاب السياسية التركية بشكل عام تفتقد للعمل المؤسّساتي داخلها، وتبدو شخصية المُرشِد أو المُلهِم أو الشيخ الموجّه هي المُهيمنة في بلد يحتل النظام الأبوي فيه درجة عالية من التقدير والحضور.

حزب "العدالة والتنمية" ليس استثناء بين نظرائه، فهو تراجع عن طرحه التقدّمي الديمقراطي إلى النظام الأبوي التقليدي المُتوارث في المجتمع التركي منذ قرون، حيث يكون الشيخ وحوله المُريدون أو الأب وحوله العائلة هو المُحرّك الفعلي للمشهد الاجتماعي، وأضحى حاله كحال حزب "الفضيلة" حين كانت صورة الزعيم نجم الدين أربكان تُهيمن عليه، وانتهى أمره بولادة حزب "العدالة والتنمية" الذي أنشقّ مؤسّسوه على زعيمهم الروحي نجم الدين أربكان، نتيجة الصِدامات المستمرة لحزبي "الرفاه" و"الفضيلة" مع المؤسسة العسكرية وتزايُد هيمنة أربكان واختزاله العمل السياسي ضمن تصوّراته.

في الديمقراطيات الناشئة كحال تركيا اليوم، يبقى "العدالة والتنمية" من أكثر الأحزاب السياسية ديمقراطية، ومن أنجحها في اختراق القوميات والعرقيات، ومن أقدرها على تحقيق تطلّعات الشعوب التركية. لكن الخطورة المُحدقة به هي إمكانية تكرار السيناريو نفسه الذي صنعه مع حزبي "الرفاه" و"الفضيلة" من قبل حين تمرّد التلاميذ على أربكان. وفق هذا السيناريو قد يحصل انشقاق داخل "العدالة والتنمية" إذا ما شرع أحمد داود أوغلو وعبد الله غل في تأسيس حزب جديد عند فقدانهم الأمل من تحرير "العدالة والتنمية" من هيمنة الشخص القائد وإعادته إلى دائرة العمل المؤسّساتي.

في تقديري، سيبقى الأمر رهن حضور أردوغان وقدرته على ضبط المشهد السياسي، فالرجل ما زال يملك كاريزما مسيطرة على قواعد الحزب، والجميع يتسابق على إرضائه. وفي حال غيابه عن المشهد السياسي لسبب ما، فإن الحزب قد يسقط ويتفتّت إذا ما استمر وضعه على هذه الحال. وإذا لم يعمل أردوغان على إعادة الثقة بين قيادات الحزب وقواعده قبل فوات الأوان، فان كل المُنجزات التي قدّمها الحزب لتركيا قد تنهار.