مصر وسوريا.. أسباب التقارب

بينما تطفو العلاقات بين مصر وسوريا، تبدأ الخريطة السياسية في المنطقة في إعادة التشكّل مرة جديدة لتبدو السعودية أكثر اختناقاً في ظل إشارات الاتهام التي تتوجه بها أصابع الرأي العام العالمي قبل المجتمع الدولي بعد مجزرة العزاء التي ارتكبها التحالف بقيادة المملكة في اليمن مؤخراً وكذلك ظهور نواياها جليّة أمام الجميع بلا مواربة في الشأن السوري.

مندوبا سوريا ومصر في الأمم المتحدة يتهامسان
"أن نعيش في أزمة اقتصاديّة أفضل من أن يؤول بنا الحال لنصبح كسوريا والعراق"، تلك المقولة التي انتشرت كالنار في نسيج الشارع المصري بعد أن اعتمدتها الحكومة كخطاب رسمي مباشر أحياناً وضمنيّ أحياناً. ففي مُستهل الرد على أي شكوى تصدر من الشارع المصري خلال السنوات الماضية كانت الحكومة المصرية تتحدث عن الصراع الدائر في سوريا باعتبار الأزمة الاقتصادية بديلاً عن توسّع رقعة الإرهاب في مصر. وفي الحقيقة أن تلك النظرية التي أصبحت محل سخرية قطاع من المعارضة –رغم اتكاليّة قائليها- لم تكن بمعزل عن معطيات الوضع القائم في المنطقة من تضييقات يمارسها محور الخليج والغرب حول الدول التي تحارب الإرهاب والطرق الملتوية في محاولة تركيع تلك الدول التي تأتي سوريا على رأسها الآن.


مرّت العلاقات المصرية السوريّة بمنعطفات عدّة خلال السنوات الخمس المنصرمة، ففي بداية الأزمة وعدم وضوح الرؤية كانت مصر لتوها خارجة من أحداث جسيمة انتهت بتنحي محمد حسني مبارك وتولّي المجلس الأعلى للقوات المسلحة الإدارة السياسية للبلاد. وخلال تلك الفترة كانت الفوضى هي ما يدير شؤون الدولة، فكثرت أخطاء القيادة السياسية وتحوّل الحال إلى اشتباكات دائمة بين المتظاهرين وقوات الأمن. وخلال تلك الفترة لم تتخذ الدولة المصرية موقفاً معلناً من الأحداث في سوريا، وربما جاء ذلك تفادياً للصِدام مع أنصار المجموعات المسلّحة في سوريا بالداخل المصري.


ثم جاء دور الإخوان لاعتلاء السُلطة. وهنا مفترق طرق ولحظة مفصليّة في علاقات الدولتين، فعلى رأس السُلطة حاكم ينتمي جملة وتفصيلاً إلى جماعة الإخوان، رئيس جمهورية من رجال الحركة الإسلامية الذين نهلوا من الفكر وانتموا مباشرةً للمشروع. وقد كان مرسي مُعلناً الموقف في انحيازه لمن أسماهم "المجاهدين" في سوريا، قاصداً الجماعات المسلحة، وقد تجلّى ذلك في مواقف عدة لعل أبرزها "مؤتمر الاستاد" في شهر حزيران/ يونيو عام 2013، وهو الشهر الأخير له خارج أسوار السجن.

فبينما كانت مؤسسة الرئاسة تحت قيادة جماعة الإخوان المسلمين تحشد المسلحين استعداداً لإرسالهم للأراضي السوريّة، كان على الخط الآخر –وطبقاً لتصريحات الأسد ورئيس مكتب الأمن الوطني علي المملوك- تنسيق أمني لم يتوقف بين الدولة المصرية والدولة السوريّة في إطار مكافحة الإرهاب. ربما كان مرسي على علم بذلك وإنه لم يهتم سوى بإعلان ولائه للمشروع على الملأ في مؤتمر الاستاد الذي أقيم باستاد القاهرة الدولي واصطحب فيه عدداً من مشايخ الدعوة السلفية على رأسهم الشيخ محمد عبد المقصود، والذي وقف يخطب في الجماهير خطاباً تحريضياً ضد أبناء الطائفة الشيعيّة. ذلك الخطاب الذي أدّى إلى وقوع مذبحة دامية للشيخ حسن شحاتة أحد أهم الرموز الشيعيّة في مصر مع عدد من أصدقائه وقد تم قتل الرجل والتنكيل به والتمثيل بجثته في الشارع، لتكون تلك هي الحادثة الأولى من نوعها في تاريخ مصر الحديث، والتي جاءت كرد فعل على مثل ذلك الخطاب الذي كانت تعتمده السُلطة المتمثّلة في جماعة الإخوان المسلمين.


لم يكد المؤتمر يؤتي ثماره حتى قامت ثورة 30 يونيو 2013 التي أطاحت بالإخوان المسلمين. وترجّح أغلب الآراء أن تحرّك الجيش وقتذاك قد جاء كرد فعل على التطوّر السريع في موقف الجماعة الرسمي من الأزمة في سوريا والذي بلغ حداً مقلقاً من تحريض وحشد للمسلّحين لإرسالهم إلى الأراضي السوريّة. ومن هنا بدأت العلاقات بين البلدين في العودة تدريجياً إلى الانفتاح الدبلوماسي بعد إعادة فتح السفارة السوريّة في القاهرة والتقارب في المواقف ضد الجماعات المتطرفة والتي بدأت الحرب عليها في سيناء في التطور الاستراتيجيّ والعسكري بعد تعيين قيادة مركزية للعمليات في سيناء بقيادة الفريق "أسامة عسكر".

ثم تأتي تصريحات الرئيس السوري بشّار الأسد في حواره الشهير على قناة المنار بمنتصف عام 2015 لتحسم الشكوك في شأن العلاقات بين البلدين. فقد صرّح بأن العلاقات بين مصر وسوريا لم تنقطع حتّى في ظل الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي نتيجة لرفض المؤسسات السيادية في مصر قطع العلاقات، الأمر الذي جعل القرار شكلياً. وقد عبّر الأسد عن تقديره لما حدث مؤخراً من تقارب مصري سعودي بعد زيارة الملك سلمان الأخيرة لمصر خلال شهر نيسان/ أبريل الماضي. فقد عبّر الرئيس السوري عن تفهّم الدولة السوريّة لكمّ الضغوط التي تُمارس على مصر حتى لا تقوم بدورها القيادي الإقليمي في محاولة لتقزيم تأثيرها في المنطقة.

شهدت العلاقات المصرية السعودية تدهوراً في الآونة الأخيرة
ومؤخراً وبشكل مفاجئ، تدهورت العلاقات المصرية مع المملكة السعودية بعد تصويت مصر لصالح المقترح الروسي في ما يخص حلب. وقد صرّح المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية المصريّة أحمد أبو زيد عقب اجتماع لوزان الأخير بشأن وقف أعمال العنف في حلب بأن "بعض الأطرف تخشى فقدان الجماعات التي تدعمها على الأرض في سوريا" قاصداً بذلك المملكة السعودية والتي أبدت استياءها من الموقف الرسمي لمصر، وقد جاء رد فعل المملكة حيال تطوّر الموقف المصري تجاه الأزمة السوريّة بوقف صفقة النفط بين شركة "آرامكو" ووزارة البترول المصرية، الأمر الذي أضاف المزيد من الوضوح على المشهد السياسي الجديد.


وقد كلّلت كل تلك التطوّرات زيارة رئيس مكتب الأمن الوطني السوري اللواء علي المملوك لمصر، وهو الخبر الذي نشرته وكالة الأنباء السورية الرسمية "سانا". وقد أفاد الخبر بأن المملوك كان قد قابل وفداً أمنياً رفيع المستوى خلال زيارته للقاهرة على رأسه اللواء خالد فوزي رئيس المخابرات العامّة المصريّة. وقد أكّد الخبر على أن تلك الزيارة جاءت بعد دعوة رسميّة وجهتها القاهرة للمملوك بهدف التنسيق السياسي والأمني بين البلدين بهدف تعزيز التعاون بين البلدين لمكافحة الإرهاب. ورغم ما يبدو على تلك الخطوة من تطوّر ملحوظ في علنية العلاقات بين البلدين وسياسياً واستراتيجياً، إلا أن ما تلى ذلك الخبر من إفادات وتصريحات صحفية أكدت أنها لم تكن الزيارة الأولى من نوعها. وقد نوّهت جريدة "الأخبار" اللبنانية قبل عام إلى زيارة المملوك لمصر ليقابل عدداً من القيادات الأمنية وأضافت أن الزيارة قد كللتها مقابلة بين اللواء علي المملوك والرئيس عبد الفتاح السيسي شخصياً. وقد تزامنت تلك الزيارة للقاهرة مع زيارة الوفد الإعلامي المصري لدمشق وإجراء وزير الخارجية السوريّ وليد المعلم لحواره التلفزيوني مع قناة "النهار" المصريّة.


وبينما تتطوّر – أو بالأحرى تطفو - العلاقات بين البلدين، تبدأ الخريطة السياسية في المنطقة في إعادة التشكّل مرة جديدة لتبدو السعودية أكثر اختناقاً في ظل إشارات الاتهام التي تتوجه بها أصابع الرأي العام العالمي قبل المجتمع الدولي بعد مجزرة العزاء التي ارتكبها التحالف بقيادة السعودية في اليمن مؤخراً وكذلك ظهور نواياها جليّة أمام الجميع بلا مواربة في الشأن السوري. ومن هنا تبدأ المنطقة في إعادة صياغة مفردات جديدة للمرحلة يصعب على الجميع التكهّن بها، ولكن الأجواء في مصر تميل إلى الموقف الرسمي المصري تجاه سوريا، وذلك بعد ما سببه التقارب المصري السعودي الأخير (خلال الستّة أشهر الأخيرة) من اضطرابات في الشارع المصري واحتقان تجاه الخطاب السعودي تجاه مصر والذي بدأ في اتخاذ لهجة استعلائية لا تليق بحجم المملكة إلى جوار مصر وسوريا. وربما تحمل الأيام ما يضع كلاً في حجمه الحقيقي.