عرسال – من نصرٍ إلى أزمة في الإعلام المعادي

الأكاذيب الكبيرة تحتاج إلى "مدفعية ضخمة" لتعطي قنابلها الزّخم اللازم. وبالتالي فإن حجم الكذبة وصلافتها مؤشّر على حجم المدفعية التي أطلقتها، وحجم مدفعيتهم مهول بلا شك. وإلا كيف نُفسّر أن يتمكّن أحمد عبد الحسين، وهو صاحب كلام فارغ وواضح الدسّ، أن يحصل على أكثر من 40 ألف متابع على الفيسبوك، بينهم نسبة من "المُطّلعين" ولا أقول المُثقّفين؟ من أين جاءتهم هذه الجُرأة للكذب بهذا الحجم، من دون أن يخشوا أن تنفد ذخيرتهم من "الثقة"؟

الأكاذيب الكبيرة تحتاج إلى "مدفعية ضخمة" لتعطي قنابلها الزّخم اللازم. وبالتالي فإن حجم الكذبة وصلافتها مؤشّر على حجم المدفعية التي أطلقتها

الإعلام في "الحرب" هو بالدرجة الرئيسية "سلاح لإطلاق الأوهام" هدفه تضليل العدو عن طريق الأكاذيب. ومثل أي سلاح آخر، يتوجّب على مُستعمله أن يستعمله بحساب وأن يحرص على ذخيرته من النفاد. وذخيرة الإعلامي هي "الثقة". فمن دون "الثقة" لا تستطيع أن تُطلق أوهاماً وأكاذيب مؤثّرة تصيب أهدافها وتخترقها. وكثْرة الأكاذيب وحجمها وسهولة فضحها وافتقاد الأدلّة، يستهلك الثقة. لذلك فإن الأكاذيب الجيّدة الصُنع، تُسنَد إلى حقيقة ما، مهما كانت صغيرة أو قليلة العلاقة بالكذبة المطلوبة. فيقول جومسكي إنه لا توجد كذبة مؤثرة، لا تستند إلى حقيقة ما، ولو تافهة.

 

لذلك، فما أن يجد البعض تلك "الحقيقة التافِهة" حتى يحتضنها كما يحتضن الغوّاص لؤلؤة ثمينة بقي يبحث عنها طول عمره! فعلى هذه "الؤلؤة" الصغيرة سوف يبني بيته الكبير وأحلامه الكبيرة وكل ما يشتهي. وهكذا وجد خصوم السيّد "لؤلؤتهم" وهكذا احتضنوها، وهكذا بنوا عليها، بمهارة فائقة، وزُخم مُثير للعَجب، تسونامي من الأكاذيب والمُبالغات المُثيرة للدهشة.


يجب أن نؤكّد هنا أن هناك فرقاً بين مَن أبدى قلقه واعتراضه أو عدم ارتياحه للاتفاق (وأنا منهم كما ذكرت في أكثر من مقالة وتعليق، وكذلك القائد الحشدي هادي العامري) ومَن يجد هذه فرصة للتشهير بقائد المقاومة بصلافة وكأنه يخشى أن تفوت الفرصة!

 

على سبيل المثال، يستند أحد أبواق الاحتلال المدعو أحمد عبد الحسين، والمُتنكّر بشكل "ناشط"، إلى حقيقة الاتفاق بين حزب الله وداعش، ليكتب داعياً إلى "إعلان الحرب على سوريا" باعتباره "الرد الطبيعي" في مثل هذه الحالات! ثم يكتب داعياً الذين "كانوا يدعون إلى ضرب الموصل بالكيمياويّ" ويتساءل: "هل سيكونون "إنسانيين" اليوم؟" وينشر خبراً مثيراً للضحك بأن "المالكي هو الذي طلب من نصر الله "نقل الدواعش إلى الحدود العراقية" (مع ملاحظة احتياطية بأنه لا يصدّقه)

أما هاشم العقابي، المُتملّق الصدّامي المُثير للاشمئزاز، فهو تعبير حيّ عن فرح الشامتين الذين تصوّروا أنهم أمسكوا على الرجل مسكة يهزّون بها علاقة العراقيين بالسيّد، والمتظاهرين بالغضب المزيّف والذين كتبت عنهم مقالتي السابقة. بدأ بنفخ العراقيين واتّهم مَن يقف مع الرجل بأنه تابع لإيران وتأوّه لـ "المساكين" الذين خُدعوا وقدّموا الشهداء (وكأنهم قدّموهم له وليس للوطن) ليقول لهم أن لا يفعلوا ذلك مرة أخرى، وليتركوا الوطن بيد داعش.

 

واحد آخر يطلق على نفسه إسم أسعد البصري، ينشر مقالاً بعنوان "تحالف حسن نصر الله مع داعش". طبعاً الكلام فارغ، لكن لا يهمّ المحتوى، ما كان مطلوباً منه هو إرسال هذه العبارة إلى ذهن القارئ الغافل والإيحاء بأن هناك "تحالف" بين السيّد حسن نصر الله وداعش، رغم كل الحقائق الكثيرة جداً التي تجعل من هذه العبارة سخفاً لا يستحق حتى الضحك عليه. لكنها مع ذلك تستحق أن تنقفها فضائية "العربية" وتنشرها!

 

الأكاذيب الكبيرة تحتاج إلى "مدفعية ضخمة" لتعطي قنابلها الزّخم اللازم. وبالتالي فإن حجم الكذبة وصلافتها مؤشّر على حجم المدفعية التي أطلقتها، وحجم مدفعيتهم مهول بلا شك. وإلا كيف نُفسّر أن يتمكّن أحمد عبد الحسين، وهو صاحب كلام فارغ وواضح الدسّ، أن يحصل على أكثر من 40 ألف متابع على الفيسبوك، بينهم نسبة من "المُطّلعين" ولا أقول المُثقّفين؟ من أين جاءتهم هذه الجُرأة للكذب بهذا الحجم، من دون أن يخشوا أن تنفد ذخيرتهم من "الثقة"؟ كيف يطمئن أسعد البصري أن يكتب "سقطت جميع أقنعة حزب الله"، من دون أن يخشى تساؤلاً من قرّائه كيف يقيس حزب الله على هذه القضية الصغيرة ويهمل تاريخاً ضخماً ليعتبره "أقنعة"؟ ما هو هذا النظام الإعلامي الجبّار الذي يحسب الأمور بهذه الدقّة ليُغامر بتوابعه بمثل هذه المُغامرات؟ كيف له أن يأمل أن يوصل مثل هذا الوهم إلى رؤوس بشر أسوياء؟ كيف تمكّنوا من مسخنا بهذا الشكل حتى صار بإمكان هذه الأدوات الباهِتة أن تقول كل هذا الهراء بكل هذه الثقة؟ من أين عرفوا بأنه لن يكون هناك ردّ فعل عكسي فيخسرون أكثر مما يكسبون فتصبح أبواقهم منبوذة من دون ان تحقّق مهمتها؟

 

قبل بضعة سنوات لاحظت في برامج الحوار التي تسبق الانتخابات الهولندية، ظهور برنامج مُميّز، يُستضاف فيه أحد المرشّحين، ويحضر اللقاء عدد من "المُشاهدين". وهؤلاء مزوّدين بمقاعد يحتوي كل منها على زرّين، أحمر وأخضر. ويُطلَب من هؤلاء أن يضغطوا على أيٍّ من الزرّين أثناء كلام المرشّح، وفق اتفاقهم وإعجابهم بما يقول أو رفضهم وعدم تصديقهم له. ويظهر على التلفزيون مؤشّر بحجم تصديق أو تأييد الجمهور لما يقوله المرشّح بشكل مستمر.

المثير للاهتمام هنا، أن ما يتم تقييمه ليس "رأي المرشّح" وإنما انطباع الجمهور على كل عبارة وكل كلمة يقولها المرشّح. وبالتالي سيتمكّن الساسة أو مّن يقف وراءهم من مؤسّسات من أخذ صورة واضحة عن كيفية تقييم الجمهور للمرشّح وأي الكلمات أو طريقة الكلام أو الحركات، تأتي بنتيجة سلبية وأيّها إيجابية. وهذا يتيح لهم أن يُصمّموا خطاباً مُناسباً يُمرّرون فيه كل ما يريدون من مفاهيم وأكاذيب وسياسات، ليضمنوا نجاحه بأقصى ما يمكن، باختيار الكلمات المناسبة وليس المحتوى السياسي بالضرورة.

 

وقبل أيام شاهدت إعلاناً لشركة تسويق، تشرح نظاماً لمتابعة الجمهور من خلال ردود فعلهم على وسائل التواصل الاجتماعي، لتحصل على صورة آنية لردّ فعل الجمهور على مستوى دولة كاملة أو حتى العالم، على ما يجري من أحداث في تلك اللحظة. وفي الفيلم المُرفَق، متابعة لردود فعل مشاهدي لعبة رياضية، في عموم الولايات المتحدة. ما ترونه في الفيديو هو تسجيل مسرع للأحداث، بشكل فيديو، لكن من البرنامج الأصلي، يمكنكم مثلاً اختيار مشاهدة ردود فعل الناس على أي لاعب من اللاعبين من دون غيره بالنقر على إسمه (الخطوط الملّونة تحت الفيديو).

 

ما تشاهدونه في الفيلم، مجرّد إعلان تجاري، ولاشك أن مثل هذا النظام قد توافر لأجهزة الأمن ومؤسّسات رسم السياسة في العالم منذ زمن طويل قبل أن يُعلن على الشركات للاستفادة منه في إعلان مُنتجاتهم.

توافر مثل هذا النظام لدى مَن يُخطّط العالم وإعلامه، يُتيح له أن يدرس ردود أفعال مختلف الشعوب في مختلف الحالات، ويمكنه من أن يُصمّم خطابه لتمرير أكبر الأوهام والأكاذيب، وهو شبه مُطمئّن أن شيئاً سلبياً لن يحدث. وإن حدث، فسوف يمكنه أن يسارع بتغيير اتّجاه إعلامه ليتلافى أية خسائر في ذخيرة "الثقة" التي تختزنها أبواقه المنتشرة في العالم. وبمثل هذه الأنظمة المتطوّرة المصمّمة لخداع "راداراتنا" يمكن لجيوشهم الالكترونية أن تكذب وتتحدّث باللامعقول من دون أن تخشى رد فعل، رغم انكشاف مواقفها وزيفها.