ما هو سياق مذبحة "الروضة"؟

كانت أزمة، سيناء مصابة بسرطان الإرهاب والتطرّف. فالأرض سالت من أجلها دماء أجيال وعاش الوطن على ترابها قصصاً من البطولات الملحمية المحفورة في أذهان المصريين ويلقّنها الآباء لأبنائهم إلى يومنا هذا. لكنها تحوّلت إلى أوضاع مشتعلة على الحدود المصريّة.

مذبحة مسجد الروضة بشمال سيناء تُعدّ أكبر مذبحة إرهابية في تاريخ مصر الحديث

جنود يُقتلون "بالخطأ" بعد الإطاحة بمبارك مباشرة، جندي مخطوف بعد وصول الإخوان للحُكم والرئيس يدعو لسلامة الخاطف والمخطوف، معركة كرم القواديس التي استبسل فيها جنود آثروا الشهادة على الفرار، معركة الشيخ زويّد ذات الغطاء الإعلامي الدولي، تهجير أقباط العريش، ثم مذبحة مسجد الروضة.

طريق مُعبَّد بالدماء ومعارك تستهدف فئة بعينها في كل مرّة، وكل حادثة تحمل رسالة مختلفة عن سابقتها. كان الهدف عسكريّاً، ثم بدوياً "مُتهماً" بمعاونة الأمن، ثم قبطياً مُتهماً بمحاربة دين الله، ثم صوفياً.

أُدمت قلوب الملايين إثر مذبحة مسجد الروضة بشمال سيناء، والتي تُعدّ أكبر مذبحة إرهابية في تاريخ مصر الحديث، حيث قدّمت القرية فيها أكثر من ربع ذكورها شهداء لتزداد ملاحم سيناء ملحمة جديدة بدماء أبناء الطريقة "الجريرية" الأحمدية الصوفية. ورغم كل ما اكتنف الحادث من إنكار تام وتحسّس تجاه توصيف المذبحة كاستهداف للصوفية في شمال سيناء، إلا أن معظم الشواهد تشير إلى الأمر على هذا النحو. وهذا لا ينفي بدوره تحليلات أخرى كتراجع الطموح الجهادي في سيناء ومحاولات توسيع العضلات باستهداف أكبر قدر من المدنيين لاستعادة الجماعات الإرهابية لهيبتها في تلك البقعة. كل تلك الاحتمالات ليست بعيدة عن الصواب، لكنها لا تنفي كَون الأمر استهدافاً مُبيَّت النيّة للطرق الصوفيّة وبالتحديد في شمال سيناء، وعلينا ألا نتجاهل ثلاثة أحداث هامّة في هذا الإطار.

الحدث الأول، في نوفمبر/تشرين الثاني للعام 2016 نشر عناصر تنظيم "ولاية سيناء" المبايع لتنظيم "داعش" مقطع فيديو لذبح الشيخ الصوفي "سليمان أبو حرّاز" والبالغ من العمر 98 عاماً. وظهر الرجل في الفيديو مرتدياً البذلة البرتقالية موصوفاً بالـ "كاهن" وهي إحدى التُهم التي توجّهها التيارات المتشدّدة للصوفيين.

الحدث الثاني، في أبريل/نيسان للعام 2015 تم اغتيال الشيخ "إبراهيم خلف الرفاعي" وكيل الطريقة الرفاعية وصاحب "ساحة الرفاعي" بالحسين، إثر 14 طعنة بالسكّين وجّهها له شاب ملتح في منطقة الجمالية. وقد رصدت كاميرات المراقبة الحادث وحتى اليوم لم يتم العثور على الجناة وإلقاء القبض على منفّذ العملية.

ثالثاً، نشرت مجلة "النبأ" التي يصدرها تنظيم "ولاية سيناء" المبايع "لداعش" مقالاً، العام الماضي، لأحد عناصره يقول فيه: "نقول لجميع الزوايا الصوفية شيوخاً وأتباعاً في داخل مصر وخارجها إننا لن نسمح بوجود طرق صوفية في سيناء خاصة وفي مصر عامة"، بالإضافة إلى تطرّق المقال إلى وصف ممارسات الطُرق الصوفية من حلقات الذكر والموالد والحضرات – وهي في الواقع ممارسات عامة ينتهجها عموم المصريين من دون تصنيف- بالبدع وعبادة القبور ما يُعد تأًصيلاً فقهياً لدى الجماعة لوجوب محاربة تلك الطُرق وقتالها من دون تفرقة بين مسلّح وأعزل.

الأحداث الثلاثة السابقة تؤكّد بما لا يدع مجالاً للتشكيك أن المستهدف هو الطُرق الصوفية كأفراد والفكرة الصوفية كمنهج يدعو إلى نبذ العنف والزهد وتقليل المسافات الخلافية بين الطوائف والبشر والسمّو فوق الخلافات والعداوات، بالإضافة إلى الاتهام – الذي تعتبره تلك الجماعات ومؤيّدوها تهمة- بالتعاون مع الجيش المصري في محاربة الجماعات التكفيرية في سيناء تحديداً. ذلك بالرغم من التحفّظ في ذكر أن يكون الأمر هو قتل على الهوية الصوفية بعد أن تم تهجير الأقباط وقتل بعض رجال الدين المسيحيين من بعض المناطق بشمال سيناء، وهذا ما ينفيه البيان المنسوب للتنظيم المذكور الذي تحدّث نصاً عن استهداف تجمّع لـ "الشيعة من الطُرق الصوفية الكفّار"، فيما تبرّأ تنظيم "حسم" الذي يُرجّح تبعيته لقطاع من جماعة الإخوان، والذي سبق وتبرّأ من تفجيرات الكنائس وأدانها فيما تبنّى اغتيال ضباط شرطة واستهداف كمائن من قبل. وكذلك تبرّأ تنظيم "جند الإسلام" من الحادث واعتبره "جريمة مروّعة" وهو التنظيم الذي يتزّعمه "هشام العشماوي" الضابط المفصول من الخدمة العسكرية سابقاً.

ورغم فداحة الكارثة واستشهاد حوالى 300 من الأبرياء بينهم حوالى 30 طفلاً، إلا أننا ربما نكون أمام عزلة تاريخية لتلك الجماعات في المجتمع السيناوي ستجعل عناصرهم مطاردة أغلب الوقت وربما أدّت إلى تصدّعات تنظيمية كبيرة. فعلى الأرجح تأتي هذه المذبحة التي تجنّبت بقدر الإمكان أي تواجد أمني واستهدفت مدنيين عزّل يؤدّون صلاة الجمعة، كمحاولة لإثبات القوّة وإعادة الهيبة والظهور في الصورة خاصة بعد الهزائم الأخيرة على جبهتي العراق وسوريا. بالإضافة إلى العمليات الأخيرة للجيش المصري في شمال سيناء "حق الشهيد". ربما تحمل هذه الكارثة الإنسانية  في طيّاتها ثلاثة مؤشّرات:

- تراجع نوعي في القدرات والطموحات التكفيرية في سيناء من استهداف النقاط العسكرية بهدف السيطرة على الأرض وتثبيت الأقدام إلى استهداف طائفي لعناصر مدنية في عملية تصفية يليها هروب المُنفّذين.

- إصرار التنظيمات تلك على تفريغ منطقة شمال سيناء من كل مظاهر التنوّع العقائدي والشكل المجتمعي الطبيعي ومن ثم خلق مجال خصب للتواجد بشكل شبه طبيعي.

- الرهان بكافة الوسائل على الانتصار في معركة ضد سكّان شمال سيناء أنفسهم بعد أن كانت المعركة ضد التواجد الرسمي للدولة في شمال سيناء، الأمر الذي قد يعكس تراجع اختيارات التكفيريين بسيناء إلى تلك المغامرة التي يمكن أن تؤدّي إلى كثير من الشقاق والخلافات الفقهية بين العناصر المسلّحة نتيجة الخلاف بين وجوب قتل أو استتابة الصوفيين.