حين كانت تونس قبل الاستقلال مع فلسطين

مؤتمر القدس الإسلامي كان أولى المحاولات التاريخية الكبيرة الجامعة والوحدوية للدفاع عن فلسطين، حيث حضر إلى الجلسة الممتازة المنعقدة يوم 7 كانون الأول/ديسمبر 1931 في ليلة الإسراء المباركة 153 مندوباً غير رسمي باستثناء المندوب اليمني محمد زبادة ممثل الإمام يحيى.

الشيخ عبد العزيز الثعالبي من تونس وهو أحد القائمين على نجاح مؤتمر القدس الإسلامي 1931

ترك الشيخ عبد العزيز الثعالبي، أهم العلامات المضيئة في تاريخ النضال التونسي من أجل فلسطين، وثائق مهمة عن مؤتمر القدس سنة 1931 وأهمها تقرير في شكل مسودة بخطه تحت عنوان: "الغاية الباعثة على عقد المؤتمر الاسلامي والمحاولات الفاشلة لاحباطه"، نشرت في بيروت في دار الغرب الإسلامي سنة 1988 في كتاب حمل عنوان: "عبد العزيز الثعالبي- خلفيات المؤتمر الاسلامي بالقدس". انعقد المؤتمر حسب ما ذكره سماحة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني الذي دعا له "من أجل إثارة اهتمام الرأي العام الإسلامي وكسب عطفه وتأليف جبهة إسلامية قوية تستطيع الوقوف في وجه الصهيونية العالمية". وتعرض المؤتمر كما هو معروف من أثر المؤرخين والباحثين وصحافة ذلك الزمان، تعرض لتشويه ممنهج من الحركة الصهيونية ومن والاها لمنعه وافشاله من خلال صنع إشاعة كونه سيبحث شأن الخلافة وسيختار خليفة جديداً، الأمر الذي أثار ردود فعل عنيفة جدا خاصة في مصر على يد كبار شيوخ الأزهر والحكومة المصرية وفي تركيا التي ادعت حكومتها معارضة المؤتمر لما يمثله من استغلال تقديم لأغراض سياسية. هذا علاوة على تدخل الحكومة البريطانية لمنع وحدة المسلمين المحدقة بالمشروع الصهيوني ومعارضة الحكومة الإيطالية خوفا من مغبة تناول قضية استعمار ليبيا. هذا عدا محاولات الإجهاض على أيادي خصوم الحاج أمين الحسيني في الداخل الفلسطيني.

مؤتمر القدس الإسلامي كان أولى المحاولات التاريخية الكبيرة الجامعة والوحدوية للدفاع عن فلسطين، حيث حضر إلى الجلسة الممتازة المنعقدة يوم 7 كانون الأول/ديسمبر 1931 في ليلة الإسراء المباركة 153 مندوباً غير رسمي باستثناء المندوب اليمني محمد زبادة ممثل الإمام يحيى. وحضر على سبيل الذكر لا الحصر، حسب المعلومات التي جمعها حمادي الساحلي مقدم كتاب "خلفيات المؤتمر الإسلامي بالقدس"، الشيخ عبد العزيز الثعالبي من تونس وهو أحد القائمين على نجاح المؤتمر والأمير سعيد الجزائري حفيد الأمير عبد القادر وعبد الرحمن عزام ممثل حزب الوفد المصري والذي تولى فيما بعد الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لحظة التأسيس سنة 1945. وكان شكري القوتلي ممثل سوريا وهو الذي انتخب فيما بعد رئيساً للجمهورية السورية بعد الاستقلال، وكان رياض الصلح الذي تولى رئاسة حكومة لبنان بعد استقلاله إضافة إلى ضياء الدين الطباطبائي رئيس الحكومة الإيرانية السابق وحسن خالد باشا رئيس حكومة الأردن السابق والشيخ رشيد رضا ومحمد اقبال وشوكت علي من الهند وآخرون من المغرب الأقصى وليبيا والعراق وسيلان وجاوة وأفغانستان وتركستان والقوقاز ويوغسلافيا. ولأن واقع الحال اليوم يمضي على نقيض ما كان، نكتفي هذه المرة بالتعليق: ما أغرب اليوم قياسا إلى البارحة، خاصة وان مؤتمر 1931 كان قد تلقى رسائل الدعم والتأييد ضد عرقلته وأهمها دعم الملك فيصل والأمير عبد الله بن الحسين والأمير أحمد الصباح والأمير شكيب أرسلان...الخ.
يعود نشاط الحركة الصهيونية في تونس التي تشكلت في نواة حركة صهيونية تونسية إلى العشرية الأولى من القرن الماضي. نستنتج ذلك من رصد قام به الباحث التونسي فيصل الغول سنة 1973 في بحث بعنوان "القضية الفلسطينية من خلال الصحافة التونسية. 1917- 1936" حيث يقول: "وكان صراعاً خاضه الصهاينة الأكثر تطرفاً ضد الوطنيين المدافعين عن فلسطين الشهيدة (...) وضد غير المبالين بالعمل الصهيوني والمتمسكون بالتطبيع والفرنسة (...) وضد الاشتراكيين المترددين في الدفاع عن الصهيونية". وكذا الباحث التونسي محمد العربي السنوسي الذي ألف بحثاً جامعياً عن "النشاط الصهيوني في تونس ما بين الحربين. 1920- 1939." وكذلك الباحث الهادي التيمومي في "الصهيونية في تونس. من البداية إلى سنة 1948"، دون إعطاء أهمية عميقة للصهيونية في كل هذه الأبحاث المذكورة. إلا أن عدة أبحاث أخرى منشورة في تونس وفي باريس وفي تل أبيب عادة ما تأتي تحت عناوين الحوار والتسامح والانفتاح والنوستالجبا والمديح لتونس ولعدة فترات تاريخية ولعدة تجمعات سكانية لجماعات يهودية مثل المنستير وصفاقس وحلق الوادي...إلخ، عادة ما تخفي هذا الجانب الصهيوني وتكتفي ببعض ردود الفعل حول بعض الأحداث التي كانت تدور في فلسطين أو في تونس وتركز على اليهودية الدينية والثقافية ومسائل الجاليات والأقليات دون التركيز على الاستخدام السياسي لليهودية السياسية والاستخدام الصهيوني لعمل اليهود المتصهينين. هي مباحث لا تخرج عن التأكيد على التآخي بين المسلمين واليهود في تونس حينا وذكر بعض التمزقات حينا آخر، وفي الغالب تمجد يهود تونس وتحلم القارئ بالعودة لتونس مثل كتاب "تونس الخضراء" وغيره من الكتب المنشورة داخل الكيان.
كان النشاط الصهيوني في تونس يتشكل بصفة موازية للنشاط الوطني ولم يكن المحتل الفرنسي ليتدخل في هذا النشاط الموازي البتة حتى أحداث 1929 في فلسطين وما كان لها من تداعيات في تونس. عندئذ أصبحت قضية تحرير فلسطين قضية وطنية مرتبطة ارتباطا اولويا بقضية تحرير تونس. وحصل الربط العضوي ما بين النشاط الصهيوني والجماعة اليهودية من جهة وما بين العمل الوطني والمجتمع التونسي المسلم من جهة أخرى. وكان للشيخ عبد العزيز الثعالبي الدور الأبرز خاصة بعد مشاركته في مؤتمر القدس وعضوية أمانته بعد 1931 وتفعيل المؤسسات المتفق عليها في المؤتمر وتشكل "لجنة إغاثة فلسطين" و"جمعية الشباب المسلم" منتصف الثلاثينيات. نشطت في ذلك الوقت المقاطعة الاقتصادية لليهود ورفض دخول الصهاينة أرض تونس على غرار إبطال زيارة زييف يابوتنسكي سنة 1932 تحت الضغط الشعبي الذي نشطه حزب الثعالبي أي الحزب الحر الدستوري. وألغيت في شهر حزيران/يونيو محاضرة للصهيوني ناتن هالبارن ممثل الدول الفرنكفونية والغي عرض فيلم "الأرض الموعودة"، ما دفع اليهود لتنظيم مظاهرة تطالب بحرية التعبير وحرية التنظم تحت عنوان "اليوم ضد الصهيونية وغداً ضدنا كلنا" (أنظر le judaïsme tunisiens affirme sa" sympathie à la cause sioniste et proteste (contre l'arbitraire, le rêve juif, 9 juin 1932").
هاهنا نعلق بالقول البين: إن التاريخ يعيد نفسه في سنوات التطبيع هذه وبنفس الحجج وإن اختلفت الأدوات. في تلك الأثناء، أي في شهر مايو/آيار تحديدا، طلبت السلطات الفرنسية المحتلة لأرض تونس من الصهاينة توخي العمل السري. وتمت مقاطعة السفينة التي رست سنة 1937 تحت نفس العناوين المناهضة للصهيونية المتخفية بقناع الفرنكفونية. (Les relations judéo-musulmanes au rythme des fluctuations idéologiques et politiques du xx siècle. Juifs et musulmans en Tunisie. Fraternité et déchirements. Colloque. Paris 1999).
بعد الحرب العالمية الثانية بدأ يهود تونس في التوافد للعيش داخل الكيان وانضم عدد منهم سنة 1948 للمنظمة الصهيونية الارهابية الارغون، وقتذاك توجه محمد الصادق بسيس إلى اليهود قائلا: " لقد حذرناكم سلفا أيها اليهود في مؤتمرهنا المنعقد في جامع الزيتونة وطلبنا منكم قطع كل علاقة لكم بالصهاينة والابتعاد عنهم. والنتيجة برامج صهيونية في اذاعة تونس وجمع للأموال بلغ الملايين وإعلام صهيوني يعمل بوقاحة وبلا أدنى حياء لتحقيق أهداف الصهيونية.

انكم توزعون المناشير ويجاهر المارقون منكم بدعوة الناس للهجرة إلى فلسطين وتدافعون عن العبرية وتقيمون علاقات لا تنتهي مع هياكل صهيونية أوروبية وفي فلسطين ويسافر شبابكم إلى فلسطين بعد تلقي تدريبات عسكرية". (Tunisie premier versement, dossier (1871/3.
دأب الاستعمار الفرنسي على تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين منذ ما قبل قيام "دولة" الكيان الإسرائيلي وحتى الاستقلال الداخلي لتونس مروراً بسنة 1948 تاريخ اعلان الكيان. سنة 1955 قال الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة للممثل التنفيذي للكونغرس اليهودي العالمي ما يلي: "نحن لا ننفي، انا والدستوريين الجدد، وجود دولة إسرائيل كأمر واقع. نحن نعترف بها ولقد صرحت بأنه على العرب وإسرائيل خوض مفاوضات مباشرة للوصول لحلول مرضية للطرفين (...) ونحن لن نعرقل بأي شكل رغبة من يريد من اليهود الهجرة إلى إسرائيل لسبب أو لآخر." (Archives du mouvement travailliste, beit berl, dossier 55/101, entretiens avec Habib Bourguiba).
يشار إلى أن كل ما كان يطلبه بورقيبة من اليهود هو اعتماد السرية والحذر بسبب الأحداث والتوترات. وان اليهود كانوا في أحسن الأحوال في تونس باعتبار ان الحركة الصهيونية كانت الأقوى تونسيا مقارنة باقطار عربية أخرى. إلى ذلك ساهم الرئيس الأسبق بتأثيره في ربط العلاقات بين اليهود والصهاينة ولم يعترض على تطوع التونسيين من أجل فلسطين بدعوى البراغماتية من جهة، ومن نقيضها وبدعوى استحالة المطالبة بتقرير المصير للتونسيين وعدم السماح به لليهود والمطالبة بحرية التعبير التونسيين وحجبها عن اليهود. في المقابل كان اليهود المتصهينون يحصلون على ما يريدون دون توطين حركة صهيونية وطنية صريحة بما ان كل همهم كان الوطن القومي لليهود في فلسطين. وأما التطبيع الحالي فهو رديف هذه الحركة الصهيونية التونسية التاريخية وهو نظير فرض الاعتراف بكيان العدو الصهيوني ومد جسوره وخدمة مصالحه.
هذه النبذة التي أخذت من لحظة الثعالبي في القدس أساساً لها لم تستثن فترة مهمة من تاريخ المقاومة التونسية وتسيير قوافل المقاومين إلى فلسطين ما بين 1948 و1955 وإنما لم تجعل منها موضوعاً

إنها نبذة تقيم فرقاً بين ما كان الثعالبي والحسيني ورفاقهما يسمونه فلسطين "البلاد المقدسة" وبين عرب ما بعد استقلال بلدانهم واحتلال فلسطين أو مرحلة فلسطين المقسمة وبعض بلاد العرب المطبعة. وهي أيضا نبذة عن التاريخ غير المرئي للتطبيع والتمهيد للتطبيع وتصفية قضية فلسطين قبل بلوغ مقدمات هذا التطبيع مداها هنا وقربها من منتهاها هناك.